الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعينوني على غض بصري
المجيب د. طارق بن عبد الرحمن الحواس
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام بالأحساء.
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات تربوية وتعليمية/ انحرافات سلوكية/اخرى
التاريخ 09/09/1426هـ
السؤال
أنا مبتلى بالنظر إلى النساء، مع أني ملتزم، ومحافظ على الصلاة في المسجد، وأحفظ أكثر من نصف القرآن، وأصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، لكن هذه البلوى لم أستطع التخلص منها، فما الحل؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أبارك لك إيمانك وحفظك نصف القرآن، ومواظبتك على الصلاة والصيام، وأرجو الله لك المزيد والقبول.. وأما ما ذكرت من ضعفك أمام فتنة النظر للنساء فاعلم -بارك الله فيك- أن فتنة النساء فتنة خطيرة جداً، حذر الله منها وحذر منها رسولُه صلى الله عليه وسلم وحذر منها الصالحون والعلماء والناصحون، وكم أوقعت في شباكها جماعة من العباد والصالحين، حتى صرفتهم عن زهدهم وتنسكهم، وعبادتهم لله عز وجل، بل إن بعضهم مرق من دين الإسلام بسبب امرأة، وما القصة التي اشتهر ذكرها عن جمع من أهل السير والتاريخ والتفسير، ببعيدة عنا عن جمع من الصحابة والتابعين، وذكرها ابن جرير في تفسيره (28/49) من عدة أوجه، أحدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن راهباً تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنّها، ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاؤوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها، فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فأطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة، فسجد له، فقال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله:"كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ"[الحشر:16] .
وتأمل معي -بارك الله- فيك ما في هذه الآية من البلاغة اللغوية، وسمو التشريع، وفصاحة الخطاب، فقد قال الله عز وجل:"يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ"[النور:30] ، فبدأ بالأمر بحفظ البصر ثم أتبعه بحفظ الفرج، وذلك لأنّ البصر الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه.
ولهذا قالوا: النواظر صوارم مشهورة، فأغمدها في غمد الغض والحياء من نظر المولى، وإلا جرحك بها عدو الهوى.
وما أحسن قول الشاعر:
وغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
فإذا تأملت هذا الخطر من جراء النظر دفعك ذلك للخوف من الوقوع في شباكه، ثم زد على ذلك التمسك ببعض القواعد النافعة في غض البصر، ومنها:
القاعدة الأولى: إذا نظرت نظر الفجأة فاصرف بصرك:
في صحيح مسلم (2159) عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه-قال: سَأَلْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَة الْفُجَاءَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِف بَصَرِي.
قال النووي في شرح مسلم: وَمَعْنَى نَظَر الْفَجْأَة أَنْ يَقَع بَصَره عَلَى الْأَجْنَبِيَّة مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِي أَوَّل ذَلِكَ، وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِف بَصَره فِي الْحَال، فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَإِنْ اِسْتَدَامَ النَّظَر أَثِمَ لِهَذَا الْحَدِيث، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم-أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِف بَصَره مَعَ قَوْله تَعَالَى:"قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم".
اصرف بصرك ولو أن تضطر لإغماض عينيك، واعلم يا عبد الله أنك إنما تتعامل مع الله، مع ربك ومولاك، من إذا غضب ألقى بك في نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم.
القاعدة الثانية: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) . رواه أبو داود (2149) ، والترمذي (2777) ، وهو حديث حسن.
وهذه قاعدة متصلة بالقاعدة السابقة، ومكملة لها، وهي قاعدة ذهبية في غض البصر وحفظه عن الحرام، قال ابن الجوزي: وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب، ولا يتأمل بها المحاسن، ولا يقع الالتذاذ بها، فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم.
القاعدة الثالثة: تجنب الجلوس والتسكع في الطرقات:
في صحيح البخاري (2465)، وصحيح مسلم (2121) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّه"ُ قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ".
قال النووي: هَذَا الْحَدِيث كَثِير الْفَوَائِد، وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة، وَأَحْكَامه ظَاهِرَة، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَب الْجُلُوس فِي الطُّرُقَات لِهَذَا الْحَدِيث.
فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات؛ لأنها مظنة التعرض للنظر المحرم، وارتكاب منهيات أخرى، فلذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن كان لابد"، فأعطوا الطريق حقه، وذكر من حق الطريق غض البصر.
ويشترك مع الطرقات هذه التي هي مظنة النظر المحرم، الأماكن العامة التي يكثر فيها التفسخ، كبعض الحدائق والأسواق، وللأسف إن كثيراً من المسلمين يتهاونون في هذا الأمر، فيخرجون للنزهة في مثل هذه الحدائق مع علمهم بأنها مليئة بمظاهر التفسخ والانحلال والعري، ثم بعد ذلك يطالبون بالحلول العملية المعينة على غض البصر.
فإن قلت: لكن لا يستطع الإنسان حبس نفسه بالبيت، فلا بد من الخروج لشراء الحوائج، والنزهة، فأقول أولاً: لا بد أن يكون ذلك بقدر الحاجة، ولا يحدث فيه توسع، ثم ليتجنب الإنسان الأزمنة والأمكنة التي هي مظنة الفساد، وبعد ذلك أقول لك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "فإن كان ولا بُد فأعطوا الطريق حقه
…
غض البصر، وكف الأذى".
القاعدة الرابعة: "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"[غافر:19] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل يكون جالساً مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها.
وعنه رضي الله عنهما هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها.
وقال مجاهد: هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
وقال قتادة: هي الهمزه بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى.
سئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره.
وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
القاعدة الخامسة: "بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه"ُ [القيامة: 14، 15] .
يكثر الإنسان من البحث عن الأعذار في عدم إمكانية غض البصر، وأنه أمر غير واقعي، ويبدأ الشيطان بحياكة صور متعددة من الأعذار، ويزين له الاتكال عليها من أجل أن يطلق بصره، ويسرح بنظره، فتارة يقول له مستهزئاً: الأحسن لك أن تكون أعمى، أو أن تصطدم بالناس، وتارة يقول له: سر كالأبله الذي لا يعرف شيئاً، وأخرى يقول له المهم نظافة القلب، ولو نظرت إلى النساء، وهكذا، إلى غير هذه من الأعذار، والجواب عن كل هذا: بل الإنسان على نفسه بصير، ولو أكثر من إلقاء المعاذير، وهذا معنى تلك الآية.
القاعدة السادسة: "احفظ الله يحفظك".
نعم احفظ الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، يحفظك من الانزلاق في المعاصي، كما يحفظك إذا احتجت إليه في يوم شدة، ومن حفظ الله أن تلزم ذكره حتى تكون أقرب إليه، وأبعد عن الشيطان، فإذا مر عليك منظر، أو رأيت صورة فإنك تكون متصلاً بالله، مستمداً القوة منه، فيكون ذلك أقوى لأن تغض بصرك.
قال ابن تيمية: وتأمل كيف عصم الله عز وجل يوسف عليه السلام من فتنة امرأة العزيز، فقد كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقاً لقوله:"وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ"[الحجر:39، 40]، قال تعالى:"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ"[الحجر:42] .
القاعدة السابعة: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
أيها الأخ المبارك: إن انزلاق عينيك في نظرة محرمة، واختلاسة طرفك لصورة نهيت عن النظر إليها، ينكت نكتة سوداء في قلبك، فاحذر أن تكثر هذه النقاط السود حتى يصبح قلبك أسود مرباداً كالكوز مجخياً أي منكوساً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب في هواه، فاحذر كل الحذر من هذا، وأتبع هذه السيئة بحسنة، حتى تجلو قلبك وتغسل فؤادك من ظلمة المعصية، وذلة المخالفة، وتضيق على شيطانك منافذه.
إن الشيطان يأتيك فيقول لك: ها قد وقعت، فانتهى أمرك، فلا تحمل نفسك ما لاطاقة لك به، فلا داعي لأن تعاهد نفسك بعدم النظر، وتمتنع عن شيء تعلم يقيناً أنك ستعود إليه، وهكذا ينسج الشيطان الرجيم حولك خيوطاً من الوهم، والوهن، حتى تصبح أسيره، ولا تلبث أن يصدق عليك قول الله عز وجل:"أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاه"ُ [الجاثية:23] .
القاعدة الثامنة: "وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ"[غافر:60] .
روى شعبة عن عبد الملك بن عمير، قال سمعت مصعب بن سعد يقول: كان سعد يعلمنا هذا الدعاء عن النبي: اللهم إني أعوذ بك من فتنة النساء وأعوذ بك من عذاب القبر". أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب، وانظر ضعيف الجامع الصغير (1203) .
الدعاء، خير سلاح، وأقوى وسيلة، وأنفع دواء، به استعانة برب الأرض والسماء، به النصر على الأعداء، فاستعن به يا أخي.
ادع الله دائماً أن يحفظ عليك إيمانك، وأن يقوي عزيمتك على غض البصر، وحفظ النظر، ادع الله في ليلك ونهارك، في أوقات الاستجابة، وفي كل وقت.
القاعدة التاسعة: إن استطعت أن تعجل بالزواج فافعل؛ فإن رسولك صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج". أخرجه البخاري (5066) ، ومسلم (1400) .
وأعتذر عن الإطالة في الجواب، لكنها بلوى عامة أردت أن يستفيد منها الجميع، وأرجو الله أن يوفقنا جميعا لغض أبصارنا عما حرم علينا، ويعيننا على طاعته إنه جواد كريم.