الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لله در الغانيات المده
…
سبحن واسترجعن من تألهي1"
يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي. ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله، وأن معنى "أله" إذا نطق به: عبد الله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة. وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس: "أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} "3" قال: عبادتك. ويقول: إنه كان يعبد ولا يعبد ". وساق بسند آخر عن ابن عباس: "ويذرك وآلهتك. قال: إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد". وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن "أله""عبد" وأن الإلهة مصدره، وساق حديثا عن أبي سعيد مرفوعا: 2 " أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. فقال له المعلم: اكتب بسم الله. فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة ".
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق صلي الله عليه وسلم:
3 " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر فله ومنه؟ فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات،
1 قال في اللسان: مدهه يمدهه مدها، مثل مدحه، والجمع: المده، أي المستحقات المدح لحسنهن وجمالهن. والتأله: التنسك والتعبد. واسترجعن: قلن إنا لله وإنا إليه راجعون.
2 موضوع: ابن جرير (1/42) . وسيورده المؤلف أيضا مرفوعا بلفظ "إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم رحيم الآخرة" وهو عند ابن جرير أيضا والحديث موضوع. قال ابن عدي كما في الميزان (1/153) : باطل وحكم ابن الجوزي بوضعه في كتابه الموضوعات (1/203 ، 204) . وأقره السيوطي في اللآلي (1/172) . وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/231) . والشوكاني في الفوائد المجموعة (1374) .
3 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/58)، ومالك: النداء للصلاة (497) .
وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه خقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه،
وبه شقي من جهله وترك حقه; فهو سر الخلق والأمر. وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله. فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئا منه ومنتهيا إليه. وذلك موجبه ومقتضاه {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1 إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.
قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 2 قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: "الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين".
وساق بسنده عن أبي سعيد - يعني الخدري - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم3 " إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا. والرحيم: رحيم الآخرة "4.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: 5 " فاسمه "الله" دل على كونه مألوها معبودا. يألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، ومفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم "الله"، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع "العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب"، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن".
وقال رحمه الله أيضا: " "الرحمن" دال على الصفة القائمة به سبحانه. "والرحيم" دال
1 سورة آل عمران آية: 191.
2 سورة الفاتحة آية: 1.
3 قطعة من حديث لعائشة رضي الله عنها ص11 لا أحصي ثناء. رواه مسلم: كتاب الصلاة (486)(222) : باب ما يقال في الركوع والسجود.
4 تقدم تخريجه برقم [4] ص 12 وهو موضوع حديث عيسى عليه الصلاة والسلام.
5 في مدارج السالكين (ج1 ص18) .
على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 ولم يجئ قط رحمان بهم".
وقال: "" إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت.، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة
جرى تابعا لاسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع; بل ورد الاسم العلم كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3". انتهى ملخصا.
الحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم4.
قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم. فمورده: اللسان والقلب. والشكر يكون باللسان والجنان والأركان. فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص منه سببا; لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سببا وأخص متعلقا; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها. فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة.
قوله: "وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم" أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده: ما ذكره البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي العالية قال: " صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة ". وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه: "جلاء الأفهام"، و"بدائع الفوائد".
قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعا:" الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له الله ارحمه "5.
قوله: "وعلى آله" أي أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا وعليه أكثر الأصحاب. وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين 6.
1 سورة الأحزاب آية: 43.
2 سورة التوبة آية: 117.
3 سورة طه آية: 5.
4 هذه الجملة في بعض النسخ دون بعض.
5 صحيح ، ص 13 قول علي رضي الله عنه. أحمد (1/144) . وقال الهيثمي في المجمع (2/36) :"وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره" ا. هـ. والحديث صحيح ثابت من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري: كتاب الأذان (659) : باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد. ومسلم: كتاب المساجد (649)(273) : باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة.
6 انظر تفصيل ذلك في كتاب: "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" للعلامة المحقق ابن القيم رحمه الله، فإنه استوفى المذاهب في ذلك، وبين الحق فيها، وأن المراد من الآل أتباعه الذين آمنوا به.
باب: كتاب التوحيد
…
كتاب التوحيد
كتاب: مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا، ومدار المادة على الجمع. ومنه: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف. وسمي الكتاب كتابا: لجمعه ما وضع له.
والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: " وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح; كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1، وقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2. وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها. وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن. بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه.
فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو
1 سورة الكافرون آية: 1.
2 سورة آل عمران آية: 64.
جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم". انتهى. قال شيخ الإسلام:" التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 3، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5، وقال عن المشركين: "{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} 6، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7 وهذا في القرآن كثير.
وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية. وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، و"الإله" هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع.
فإذا فسر المفسر "الإله" بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله. وجعل
1 سورة البقرة آية: 163.
2 سورة النحل آية: 51.
3 سورة المؤمنون آية: 117.
4 سورة الزخرف آية: 45.
5 سورة الممتحنة آية: 4.
6 سورة الصافات آية: 35.
7 سورة الصافات آية: 36.
إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء.
وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1. قالت طائفة من السلف: "تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون:
الله. وهم مع هذا يعبدون غيره2 ". قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَقُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3، فليس كل من أقر بأن الله تعالي رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه، ويطيع رسله ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه. وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا. قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُون قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 6، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 7. ولهذا كان أتباع هؤلاء8 من يسجد
1 سورة يوسف آية: 106.
2 ذكره ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
3 سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89.
4 سورة الزمر آية: 43-44.
5 سورة يونس آية: 18.
6 سورة الأنعام آية: 94.
7 سورة البقرة آية: 165.
8 أي ممن يزعمون معرفة التوحيد على هذا المعنى، ككثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويشتغل بالسحر الذي هو عبادة الكواكب والشياطين بأنواع العزائم والبخور، وذبح الحيوان الأسود أو الأحمر وغير ذلك مما سيأتي تفصيله.
للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها1. ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك"". انتهى كلامه.
وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 2
قوله: " وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} " بالجر عطف على التوحيد؛ ويجوز الرفع على الابتداء.
قال شيخ الإسلام: " العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل".
وقال أيضا: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
قال ابن القيم: " ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية".
وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: " أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى"".
ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية.
قال العماد ابن كثير: " وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع". انتهى.
وقال أيضا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير
1 أي يذبح لها الذبائح، ويصنع الأطعمة، كما يفعل الحاج لبيت الله من المناسك.
2 سورة الذاريات آية: 56.
محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في الآية:" إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي"?. وقال مجاهد: "إلا لآمرهم وأنهاهم" اختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال:
ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 1. قال الشافعي: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال في القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ، فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.
قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} 2. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول: وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم. الثاني: وهو عبادته، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى. ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث.
فمنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك - أحسبه قال: ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك " 3 فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وأن لا يشرك به شيئا، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره. وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم.
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي. فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم.
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4. قال: وقوله: " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} "
1 سورة القيامة آية: 36.
2 سورة النساء آية: 64.
3 رواه الإمام أحمد والبخاري.
4 سورة النحل آية: 36.
الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"الطاغوت الشيطان"1. وقال جابر رضي الله عنه: "الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين" رواهما ابن أبي حاتم. وقال مالك: "الطاغوت كل ما عبد من دون الله".
قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حدا جامعا فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العال، م إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا بهذه لكلمة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي أعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 2. وهذا معنى "لا إله إلا الله" فإنها هي العروة الوثقى.
قال العماد ابن كثير في هذه الآية: "" كلهم - أي الرسل - يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلي الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
1 ذكره ابن كثير عن حسان بن قائد العبيسي عن عمر قال: "إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن الشجاعة والجبن تكون غرائز في الرجال" إلخ. ثم قال الحافظ: ومعنى قوله في الطاغوت "أنه الشيطان" قوي جدا، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها. وكذلك رواه ابن جرير.
2 سورة البقرة آية: 256.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال:{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} انتهى.
قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها. وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فتدبر.
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم. كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 3، وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح.
قال: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 4 قال مجاهد: "قضى" يعني وصى. وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم. ولابن جرير عن ابن عباس: "وقضى ربك، يعني أمر".
وقوله تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} المعنى، أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى "لا إله إلا الله".
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والنفي المحض ليس توحيدا، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات. وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقوله: " {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} " أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضى، بعبادته وحده لا شريك له. كما قال تعالى في الآية الأخرى {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} 5.
1 سورة النحل آية: 36.
2 سورة النحل آية: 35.
3 سورة المائدة آية: 48.
4 سورة الإسراء آية: 23.
5 سورة الإسراء آية: 23-24.
6 سورة لقمان آية: 14.
وقوله: " {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} " أي لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أي لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء ابن أبي رباح:" لا تنفض يديك عليهما".
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي لينا طيبا بأدب وتوقير. وقوله: {اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي تواضع لهما {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي في كبرهما وعند وفاتهما {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها:
الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين، آمين، آمين. فقالوا: يا رسول الله على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت آمين "1. وروى الإمام
1 أخرجه عن أنس: ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما من طريق سلمة بن وردان عنه، وسلمة ضعيف. ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان في ثقاته وصحيحه، والطبراني في الكبير، والبخاري في بر الوالدين، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء المقدسي في المختارة، كلهم عن كعب بن عجرة، ورجاله ثقات. وأخرجه ابن حبان في الصحيح والثقات والطبراني ورجاله ثقات عن مالك بن الحويرث، ورواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في تهذيبه والدارقطني في الأفراد. وأشار إليه الترمذي وأخرجه النسائي وابن السني في اليوم والليلة، والضياء المقدسي في المختارة، كلهم عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار والطبراني عن عمار بن ياسر. وأخرجه البزار عن ابن مسعود. وأخرجه الطبراني عن ابن عباس وأبي ذر. وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة وهو عند البيهقي في الدعوات مختصرا. وعند الترمذي وأحمد وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الدارقطني في الأفراد، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة، وأخرجه البزار والطبراني وابن أبي عاصم عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي.
أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم: " رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما، لم يدخل الجنة "1. قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر; قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " 2 رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين " 3 رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. عن أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: " بينا نحن جلوس عند النبي صلي الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما " 5 رواه أبو داود وابن ماجه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.
وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 6?قال العماد ابن كثير رحمه الله
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2551) ، وأحمد (2/346) .
2 البخاري: الأدب (5976)، ومسلم: الإيمان (87)، والترمذي: البر والصلة (1901) وتفسير القرآن (3019) ، وأحمد (5/36 ،5/38) .
3 البخاري: كتاب الأدب (5976) : باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم: كتاب الإيمان (87)(143) : باب بيان الكبائر وأكبرها. الترمذي كتاب البر والصلة (1899) : باب الفضل في رضا الوالدين وابن حبان (2026 - موارد) . والحاكم (4/151 ، 152) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي قال الألباني في الصحيحة (2/30) : "وهو كما قالا". وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/13) : "وسنده صحيح" والحق أن الحديث إسناده ضعيف. فإن في إسناده عطاء العامري وهو مجهول الحال ما روى عنه غير ابنه يعلى كما قال أبو الحسن القطان كما في التهذيب (7/220) . وقال الذهبي في الميزان (3/78) : "لا يعرف إلا بابنه". وفي التقريب (2/23) : "مقبول". ولم يرو له مسلم بل روى له البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي.
4 سورة النساء آية: 36.
5 أبو داود: الأدب (5142)، وابن ماجه: الأدب (3664) .
6 قال في قرة العيون: وهذه الآية تبين العبادة التي خلقوا لها أيضا. فإنه تعالى قرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه، وهو الشرك في العبادة فدلت هذه الآية على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة فلا تصح بدونه أصلا كما قال تعالى: 88: 6 (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)، وقال تعالى: 39: 65 ، 66 (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) فتقديم المعمول يفيد الحصر أي بل الله فاعبده وحده لا غيره، كما في فاتحة الكتاب:(إياك نعبد وإياك نستعين)، وقرر تعالى هذا التوحيد بقوله: 11: 39 (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) ، والدين هو العبادة بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني وتقدم أن أصله وأساسه توحيد العبادة فلا تغفل عما تقدم.
في هذه الآية: "" يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته"". انتهى.
وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة، وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب.
وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآيات2.
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 في قرة العيون: وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات، كما وقع فيه أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن، كما عبد أولئك اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان، واتخذوا هذا الشرك دينا، ونفروا إذا دعوا إلى التوحيد أشد نفرة، واشتد غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى 39: 45 (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال تعالى: 46: 17 (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) وقال: 35: 37 ، 36 (أنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) علموا أن لا إله إلا الله تنفي الشرك الذي وقعوا فيه، وأنكروا التوحيد الذي دلت عليه. فصار أولئك المشركون أعلم بمعنى هذه الكلمة "لا إله إلا الله" من أكثر متأخري هذه الأمة، لا سيما أهل العلم منهم الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزينوه، وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه، فوقعوا في نفيه أيضا وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أن ذلك حق وهو باطل، وقد اشتدت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، فنشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وقد قال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهذا الحديث قد صح من طرق كما ذكره العماد ابن كثير وغيره من الحفاظ، وهو في السنن وغيرها. ورواه محمد بن نصر في كتاب الاعتصام، وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة. فلهذا عم الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام; فإن أصله أن لا يعبد إلا الله وأن لا يعبد إلا بما شرع، وقد ترك هذا وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشرك والبدع، ولكن الله تعالى وله الحمد لم يخل الأرض من قائم له بحججه، وداع إليه على بصيرة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، فله الحمد والشكر على ذلك.
قال العماد ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم: " قل " لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، " تعالوا " أي هلموا وأقبلوا " أتل " أقص عليكم {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 1 حقا، لا تخرصا ولا ظنا، بل وحيا منه وأمرا من عنده {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وكان في الكلام محذوفا دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئا، ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} اهـ.
قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى:" ألا تشركوا به شيئا" سبعة أقوال: أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهي " وصاكم " وحرف الجر وما قبله من الأخرى. ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم قالوا: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم "2 كما قال أبو سفيان لهرقل3 وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم!: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا "4.
وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و " إحسانا " نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 5 الإملاق: الفقر،
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 البخاري: بدء الوحي (7) .
3 رواه البخاري - في بدء الوحي، في حديث أبي سفيان الطويل.
4 صحيح: - أخرجه ابن خزيمة (1/82) ، والبيهقي (1/76) ، والدارقطني (3/44 ، 45) ، والحاكم (2/611 ، 612) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال شمس الحق آبادي في التعليق المعنى (3/44) : "رواته كلهم ثقات". وفي الباب: عن مدرك، رواه الطبراني ورجاله ثقات مجمع الزوائد (6/21) وعن شيخ من بني مالك بن كنانة. رواه أحمد (4/63) ، (5/371 ، 376) وقال الهيثمي (6/22) : "رجاله رجال الصحيح".
5 سورة الأنعام آية: 151.
أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبي. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه:" قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك " 1 ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 2.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 قال ابن عطية: " نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي. و "ظهر" و "بطن" حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء". انتهى.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} في الصحيحين.
عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " 4
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5 قال ابن عطية: " ذلكم " إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لعل} للتعليل أي إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولا " تعقلون " ثم " تذكرون " ثم " تتقون "؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا فخافوا واتقوا.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 6 قال ابن عطية: هذا نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعي في نمائه. قال مجاهد: التي هي أحسن: التجارة فيه. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ،
1 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431) .
2 سورة الفرقان آية: 69-70.
3 سورة الأنعام آية: 151.
4 البخاري: كتاب الديات (6878) : باب قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس والعين بالعين)، ومسلم: كتاب القسامة (1676)(25) : باب ما يباح به دم المسلم.
5 سورة الأنعام آية: 151.
6 سورة الأنعام آية: 152.
روي نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم.
وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو لا يتغير في الرضى والغضب، بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1.
وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2 قال القرطبي: "" هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و " أن " في موضع نصب. أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضا. أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام. " مستقيما " نصب على الحال ومعناه مستويا قيما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلي الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي تميل". انتهى.
1 سورة المائدة آية: 8.
2 سورة الأنعام آية: 153.
وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
" خط رسول الله صلي الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه " 1 ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية.
وعن مجاهد: ولا تتبعوا السبل، قال: البدع والشهوات.
قال ابن القيم رحمه الله: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحدا في عبادته ولا يشرك برسوله صلي الله عليه وسلم أحدا في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم وهذا كله
قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} 2 الآية.
مضمون "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبه موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته. فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها3 وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: " عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلي الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه " اهـ4.
1 أحمد (1/435)، والدارمي: المقدمة (202) .
2 سورة الأنعام آية: 151- 153.
3 الآخية- بالمد والتشديد- حبيل، أو عويد يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير طرفه كالعروة تشد فيها الدابة، وجمعها: الأواخي.
4 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3070) : باب ومن سورة الأنعام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وهو كما قال: والطبراني في الكبير (10060) أيضا. وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (2/137) .
قوله: "قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ "{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} - إلى قوله-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية".
قوله: "ابن مسعود" هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان ومن كبار علماء الصحابة، أمره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه.
وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ " قل تعالوا " إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم:" وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله " 1، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله: "{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 2 حتى فرغ من الثلاث الآيات". ثم قال: " من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " 3. رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ومحمد بن نصر في الاعتصام4.
قلت: ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه. وفي كتابه الذي أنزله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 5 وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
1 الترمذي: المناقب (3788) ، وأحمد (3/14 ،3/17 ،3/26 ،3/59) .
2 سورة الأنعام آية: 151.
3 مسلم: كتاب الحج (1218)(147) : باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر الطويل، والنسائي: البيعة (4161) ، وأحمد (5/314) .
4 ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (2/191) ، والحاكم (2/318) في تفسير سورة الأنعام. وصححه ووافقه الذهبي من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة به وسفيان بن حسين قال الحافظ في التقريب (1/310)"ثقة في غير الزهري باتفاقهم".
5 سورة النحل آية: 89.
قوله: " وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم على حمار، فقال لي:" يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا " أخرجاه في الصحيحين".
هذا الحديث في الصحيحين من طرق. وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.
و"معاذ بن جبل" رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه. وقال النبي صلي الله عليه وسلم:" معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة "1. 2 أي بخطوة، قال في القاموس: "" والرتوة الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي العالم الرباني". انتهى.
وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم. وقيل: بميل. وقيل: مد البصر. وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس. وقد استخلفه النبي صلي الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.
قوله: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم" فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه.
قوله: "على حمار" في رواية: اسمه عفير، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.
وفيه: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر.
قوله: "أتدري ما حق الله على العباد" أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع
1 قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من مرسل أبي عون الثقفي، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق من طرق عن محمد بن الخطاب.
2 صحيح: روي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا. أخرجه ابن سعد (2/348،590) ، وأبو نعيم في الحلية (1/228) وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (3/82)، ومن مراسيل محمد بن كعب وأبي عون والحسن البصري. وهي عند ابن سعد (2/347) وهي مراسيل صحيحة. كما قال الألباني (3/83) الصحيحة ثم قال:"وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا شك ولا يرتاب في ذلك من له معرفة بهذا العلم الشريف" اهـ.
في النفس وأبلغ في فهم المتعلم. و"حق الله على العباد" هو ما يستحقه عليهم. و " حق العباد على الله " معناه أنه متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} 1.
قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، لم يوجبه عليه مخلوق. والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم، والقدرية النافية.
قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين.
قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال:
وعبادة الرحمن غاية حبه
…
مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر
…
ما دار حتى قامت القطبان
"ومداره بالأمرأمر رسوله
…
لا بالهوى والنفس والشيطان6 "
1 سورة الروم آية: 6.
2 سورة الروم آية: 47.
3 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643) ، وأحمد (5/228 ،5/230) . 4 يعني أن الخصومة إنما وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في تحقيق "لا إله إلا الله" المكونة من جملتين: إحداهما نفي والثانية إثبات. فالأولى تنفي كل الآلهة التي يدعيها الناس. والثانية تثبت الإلهية لله وحده. يعني ينبغي أن يكفر بكل معبود لتخلص العبادة لله.
5 سورة الكافرون آية: 3.
6 في قرة العيون:
حق الإله عبادة بالأمر لا
…
بهوى النفوس فذاك للشيطان
من غير إشراك به شيئا هما
…
سبب النجاة فحبذا السببان
لم ينج من غضب الله وناره
…
إلا الذي قامت به الأصلان
والناس بعد فمشرك بإلهه
…
أو ذو ابتداع أو له الوصفان
وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. ليس على الله حق واجب بالعقل كما تزعم المعتزلة. لكن هو سبحانه جعل ذلك على نفسه تفضلا وإحسانا على الموحدين المخلصين الذين لم يلتفتوا في إرادتهم ومهماتهم ورغباتهم ورهباتهم إلى أحد سواه، ولم يتقربوا بما يقولونه ويعملونه من الطاعات إلا إليه وحده والله أعلم.
قوله: "ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة، فلا بد من التجرد من الشرك في العبادة، من لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيا بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله ندا. وهذا معنى قول المصنف رحمه الله:
"وفيه أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وفي بعض الآثار الإلهية: " إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي ".
قوله: " وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا " قال الحافظ: " اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة
باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط". اهـ.
قوله: "أفلا أبشر الناس" فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا. قاله المصنف رحمه الله.
قوله: "لا تبشرهم فيتكلوا" أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال. وفي رواية: "فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" أي تحرجا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر: "لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم".
وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم: الحث على إخلاص العبادة لله، وأنها لا تنقع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة. والتنبيه على عظمة حق الوالدين، وتحريم عقوقهما. والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام. وجواز كتمان العلم للمصلحة.
قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم. و"البخاري" رحمه الله هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته. روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربري راوي الصحيح. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين.
و"مسلم" رحمه الله هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك. روى عن أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم، وروى عن البخاري. وروى عنه الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهما، ولد سنة أربع ومائتين ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله: " {مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل2. أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآياث المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثمانية عشر مسألة بدأها الله بقوله: " {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 3 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 4 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} .
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 5.
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها6 أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
1 سورة البقرة آية: 256.
2 التي هي الوصايا العشر. وأولها وأهمها (ألا تشركوا بالله شيئا) .
3 سورة الإسراء آية: 22.
4 سورة الإسراء آية: 39.
5 سورة النساء آية: 36.
6 لا يعرفها أكثر الصحابة؛ لأن النبي أمر معاذا أن يكتمها عن الناس مخافة أن يتكلوا على سعة رحمة الله ويتركوا العمل، فلم يخبر بها إلا عند موته تأثما. فلذلك لم يعرفها أكثر الصحابة في حياة معاذ.
(7)
يعني العلم الزائد على القدر المحتاج إليه في إقامة الدين، وإلا لم يجز بدليل وعيد الله الشديد على كتمان العلم في قوله: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من