الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: "الله ورسوله أعلم".
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم1 دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) . وقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) .
باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
…
باب" فضل التوحيد1 وما يكفر من الذنوب"
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
قوله: "باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب""باب" خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا. "قلت" ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا. و"ما" يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر.
قوله: "وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
_________
1 في قرة العيون: والمراد بالتوحيد توحيد العبادة، وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة. كالدعاء والذبح والنذر ونحوه كما قال تعالى: 40: 14 (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) . وقال تعالى: 40: 65 (فادعوه مخلصين له الدين) .
2 سورة الأنعام آية: 82.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ". قال ابن جرير: حدثني المثني - وساق بسنده - عن الربيع بن أنس قال: "الإيمان الإخلاص لله وحده".
وقال ابن كثير في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
وعن ابن مسعود: "لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1 ". وساقه البخاري بسنده2 فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 3 قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ?4.
ولأحمد بنحوه عن عبد الله قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 5 شق ذلك على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 6 إنما هو الشرك". وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: "أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا"7.
قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العباد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: " {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
1 سورة لقمان آية: 13.
2 في قصة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء.
3 سورة الأنعام آية: 82.
4 البخاري: كتاب الأنبياء (3636) : باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) .
5 سورة الأنعام آية: 82.
6 سورة لقمان آية: 13.
7 صحيح: رواه أحمد (1/378) وسنده صحيح على شرط الشيخين.
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2 وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلي الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءا؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به " 3 فبين أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلي الله عليه وسلم بقوله:" إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف; لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم; من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله:" إنما هو الشرك " إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك، يقال: ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار انتهى ملخصا4.
وقال ابن القيم رحمه الله: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5. قال الصحابة: "وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 6 " لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا
1 سورة فاطر آية: 32.
2 سورة الزلزلة آية: 7-8.
3 صحيح: أحمد (1/11) ، وابن حبان (1734، 1735 - موارد) ، والحاكم (4/73) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الأرناؤوط في تخريجه لمسند أبي بكر الصديق لأبي بكر المروزي (111) لشواهده وطرقه.
4 من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه.
5 سورة الأنعام آية: 82.
6 سورة لقمان آية: 13.
أن ظلم النفس داخل فيه.
وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنا ولا مهتديا. أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها. والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة. اهـ. ملخصا1.
قوله: "عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنّة حقّ والنّار حقّ، أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل ". أخرجاه".
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.
1 قال في قرة العيون: قال تعالى: 35: 32 (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) فالظالم لنفسه هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنبه، ونجاه بتوحيده من الخلود في النار. وأما المقتصد فهو الذي عمل بما أوجب الله عليه وترك ما حرم عليه فقط، وهذه حال الأبرار. وأما السابق فهو الذي حصل له كمال الإيمان باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا، فهذان لهم الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. فالكل للكل، والحصة للحصة؛ لأن كمال الإيمان يمنع صاحبه من المعاصي وعقوباتها، فلم يلق ربه بذنب يعاقب به كما قال تعالى: 4: 147 (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) ، وهذا الذي ذكرته في معنى هذه الآية هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وابن القيم رحمه الله في معناها، وهو الذي دل عليه القرآن، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم.
قوله: " من شهد أن لا إله إلا الله " أي من تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، باطنا وظاهرا، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها; كما قال الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1، وقوله:{إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع3.
1 سورة محمد آية: 19.
2 سورة الزخرف آية: 86.
3 قال في قرة العيون: وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك:(لا إله)، وأثبتت الإلهية لله بقولك:(إلا الله) قال تعالى: 3: 18 (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ، فكم ضل بسبب الجهل بمعناها من ضل وهم الأكثرون، فقلبوا حقيقة المعنى فأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجن وغير ذلك، واتخذوا ذلك دينا وشبهوا وزخرفوا، واتخذوا التوحيد بدعة وأنكروه على من دعاهم إليه; فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم. (*) فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص كما قال تعالى: 37: 36،35 (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ، والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من الموتى والقبور والمشاهد والطواغيت ونحوها، فأولئك عرفوا هذا المعنى وأنكروه، وهؤلاء جهلوا هذا المعنى وأنكروه، فلهذا تجده يقول: لا إله إلا الله، وهو يدعو مع الله غيره. سبب ذلك أن عرب الجاهلية هم أهل لغة القرآن الفصحاء، فلا يجهلون شيئا من معنى التوحيد الذي قرره. وأما هؤلاء الذين فشا فيهم اليوم شرك العبادة فليسوا من أهل ملكة هذه اللغة، وإنما يدينون بالاصطلاحات التي تلقاها بعضهم من بعض من كلامية وعامية. وإذا كان مثل الفخر الرازي من أكبر أئمة متكلميهم وأصولييهم أخطأ في فهم معنى الإله في تفسير قوله تعالى:(قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) ، فما الظن بمن دونه من علمائهم، دع عامتهم ودهماءهم؟ هل يستغرب منهم الجهل بأن من دعا ميتا أو صالحا حيا فيما لا يدعى فيه إلا الله، أو طاف بقبره ونذر له يكون عابدا له ومتخذا له إلها؟!!.
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعا" اهـ.
وفي هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: "من شهد" فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
قال النووي: "هذا حديث عظيم جليل الموقع; وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد. فإنه صلي الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. فاقتصر صلي الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم"اهـ.
ومعنى "لا إله إلا الله" لا معبود بحق إلا الله. وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحا. قوله:" وحده " تأكيد للإثبات {لا شَرِيكَ لَهُ} 1 تأكيد للنفي. قاله الحافظ. كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4، فأجابوه ردا عليه بقولهم:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 5، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 6.
فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة. وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه.
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبا ورهبا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله. فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.
"ذكر كلام العلماء في معنى "لا إله إلا الله ".
قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: "شهادة أن لا إله
1 سورة الأنعام آية: 163.
2 سورة البقرة آية: 163.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
4 سورة الأعراف آية: 65.
5 سورة الأعراف آية: 70.
6 سورة الحج آية: 62.
إلا الله" يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1 قال: واسم "الله" بعد "إلا" من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال ابن القيم في البدائع2 ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلا في المستثنى; إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله:"لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا:"الله إله" ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في نفسيره: "لا إله إلا الله": أي لا معبود إلا هو.
وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
1 سورة محمد آية: 19.
2 بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم "ج3 ص56" وهو بحث قيم جدا في الاستثناء والمستثنى.
وقال ابن القيم: "الإله" هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة، وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب: "الإله" هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان
ذلك قدحا في إخلاصه في قول: "لا إله إلا الله" وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: "الإله" فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.
فدلت "لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} 1، فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب.
فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد وبيان لمضمون معناها. وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب،
1 سورة الجن آية: 1-2.
فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين; فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1 الآية. فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم2.
"وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله" أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى "العبد" هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 3 فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلي الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: "عبده ورسوله" أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، الانتهاء عما عنه نهى وزجر; وأن يعظم أمره ونهيه،
1 سورة العنكبوت آية: 65.
2 في قرة العيون: "قلت" وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى: 39: 2 فاعبد الله مخلصا له الدين. قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم ، به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. وقوله في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس، وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده وقد استحكمت فيها الغربة. ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله فليراجع لمسيس الحاجة إليه.
3 سورة الزمر آية: 36.
ولا يقدم عليه قول أحد كائنا من كان1. والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين -.
خلاف ذلك، والله المستعان.
وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: " إنا لنجد صفة رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا2 ". قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام3.
قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 4 فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله5 على علم ويقين بأنه مملوك لله،
1 في قرة العيون: وأن لا تعارض بقول أحد؛ لأن غيره صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى، وأمرنا بطاعته والتأسي به وتوعدنا على ترك طاعته بقوله تعالى: 33: 36 (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الآية. وقال: 63: 24 (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك ; لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". وقد وقع التفريط في المتابعة وتركها وتقديم أقوال من يجوز عليهم الخطأ على قوله صلى الله عليه وسلم لا سيما من العلماء كما لا يخفى.
2 صحيح: الدارمي (1/5) في المقدمة: باب صفة النبي في الكتب قبل مبعثه. وأخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب البيوع (2125) : باب كراهية السخب في الأسواق ثم أشار إلى رواية ابن سلام هذه. وأخرجه الآجري في الشريعة ص (449) من طريق آخر عن ابن سلام وإسناده صحيح.
3 آخر روايه الدارمي "ج1 ص5" وفي الرواية عن كعب: "نجده مكتوبا في التوراة".
4 سورة المؤمنون آية: 91.
5 في قرة العيون: فيه بيان الحق الذي يجب اعتقاده كما في الآيات المحكمات، وما فيها من الرد على كفار النصارى وهم ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إن عيسى هو الله، وطائفة قالوا: ابن الله، وطائفة قالوا: ثالث ثلاثة. يعنون عيسى وأمه. فبين الله تعالى في كتابه الحق وأبطل الباطل فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) والآيات بعدها. وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) في مواضع من سورة المائدة، وأخبر تعالى عما قاله المسيح عليه السلام وهو في المهد.
خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 فليس ربا ولا إلها. سبحان الله عما يشركون. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاًِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ2} . وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} 3، ويشهد المؤمن أيضا ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولد بغي، لعنهم الله تعالى. فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: أنه عبد الله ورسوله.
قوله: "وكلمته" إنما سمي عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى: " كن " كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية4: "بالكلمة التي ألقاها إلى
1 سورة آل عمران آية: 59.
2 في قرة العيون: فبين تعالى الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن خرج منه هلك. وقال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين) فبين تعالى الصراط المستقيم بيانا شافيا ووافيا، وأقام حججه على توحيده فأحق الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون.
3 سورة النساء آية: 172.
4 صفحة 20 طبعة عيسى الحلبي وأولاده في باب: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) وعيسى مخلوق.
مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو "كن"، ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس "كن" مخلوقا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى" انتهى.
قوله: "ألقاها إلى مريم" قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل، فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له:"كن فكان"، والروح التي أرسل بها: هو جبريل عليه السلام.
وقوله: "وروح منه"1. قال أبي بن كعب: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله
1 الظاهر أن معنى "وروح منه" أنه كغيره من بني آدم الذي يقول الله فيه: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) كما مثل له في الآية الأخرى بأنه مثل آدم. والله أعلم. وقال في قرة العيون: أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم عليه السلام وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم كما قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) الآية. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى. وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: "نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت عليه". وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريج: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق بقول: "كن" فكان. كما قال تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه. وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى: (وروح منه) . فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى عليه السلام بل المخلوقات كذلك كلها. كما قال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته. وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله؛ فإنهم كانوا هم والنصارى على طرفي نقيض فنسبوه إلى أنه ولد بغي، قاتلهم الله. فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم عليه السلام أعظم الغلو والكفر والضلال، واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء، وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا، نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وبين تعالى الحق والصدق، ورفع قدر المسيح عليه السلام وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب (7: 33 والشورى 13: 42) وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا فقال: (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) ، فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم -صلوات الله وسلامه- عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تعالى واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 بعثه الله إلى مريم فدخل فيها". رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم. قال الحافظ: ووصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى:{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2 فالمعنى أنه كائن منه؛ كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته.
قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا
والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.. "3 أخرجاه.
بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب. وإذا كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى; لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:
أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها; فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله. فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.
الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه; كما خص البيت العتيق لعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه: فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه دينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. اهـ ملخصا.
قوله: " والجنة حق والنار حق " أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 4. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5. وقال تعالى {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
1 سورة الأعراف آية: 172.
2 سورة الجاثية آية: 13.
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435)، ومسلم: الإيمان (28)، والترمذي: الإيمان (2638) ، وأحمد (5/313 ،5/318) . 4 سورة الحديد آية: 21.
5 سورة البقرة آية: 24.
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة1. وفيهما الإيمان بالمعاد.
ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "2.
وقوله: " أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " هذه الجملة جواب الشرط. وفي رواية: "أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". قال الحافظ: معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي من صلاح أو فساد؛ لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصا لمن قال ما ذكره صلي الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
قال: "ولهما في حديث عتبان:
" فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "".
قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله. وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان 3.
1 في قرة العيون: ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل؛ فإن الله تعالى بين الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم، وذكر أنها دار المتقين، وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك.
2 البخاري: الصلاة (425)، ومسلم: الإيمان (33) .
3 في قرة العيون: اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك، والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر، فإن لم يكن مخلصا فهو مشرك ومن لم يكن صادقا فهو منافق، والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى، وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قاله الخليل عليه السلام:(ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) . وقالت بلقيس: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) . وقال الخليل عليه السلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) . والحنيف: هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ منه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده، كما قال تعالى:(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق، وهو معنى الآية ونحوها إجماعا. فهذا هو الذي يعنيه قوله:(لا إله إلا الله)، ولهذا قال تعالى:(فقد استمسك بالعروة الوثقى) ، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر، كما ترى عليه أكثر الخلق، فهؤلاء وإن قالوها فقد تلبسوا بما يناقضها; فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا. والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك، وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له، فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله: "صدقا من قلبه، خالصا من قلبه" وكذلك من قالها غير صادق في قوله. فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص، ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة. ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله:"لا إله إلا الله" كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: "لا إله إلا الله" وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقال الخليل عليه السلام لأبيه وقومه 43: 26 ، 27 ، 28:(إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه) وهي "لا إله إلا الله" وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه، وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما تقدم تقريره، وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص، كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك ونفى ما أثبتته من الإخلاص. فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة، وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى فيصدفه عن اتباع الحق وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم.
وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: " يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما " 1 وساق بسند آخر: حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا ".
قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.
قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله:"خالصا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين" فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه:" يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة "2.
وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث:"سمعت الناس يقولون شيئا فقلته3 ". وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 4.
1 البخاري: العلم (128)، ومسلم: الإيمان (32) .
2 البخاري: التوحيد (7410)، ومسلم: الإيمان (193)، والترمذي: صفة جهنم (2593)، وابن ماجه: الزهد (4312) ، وأحمد (3/116 ،3/173 ،3/276) .
3 في حديث البراء بن عازب الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم في سؤال القبر.
4 سورة الزخرف آية: 23.
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة1.
فيحرم على النار. ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرا على ذلك؛ فإنه يستوجب النار. وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر; فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف: قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة. فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث،
1 سيأتي في صفحة 50.
ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه " وقال بكر بن عبد الله المزني: " ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه ".
فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا.
وقد ذكر هذا كثير من العلماء، كابن القيم وابن رجب وغيرهم. قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم.
"تنبيه" قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث "من إيمان" أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح. فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله:"أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط" - يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. اهـ ملخصا من شرح سنن ابن ماجه.
قال المصنف رحمه الله: " وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:
" قال موسى عليه السلام: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه" 1.
أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك. استصغر أبو سعيد بأحد، وشهد ما بعدها. مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين. وقيل: سنة أربع وسبعين.
قوله: "أذكرك" أي أثني عليك به "وأدعوك" أي أسألك به.
قال: قل: يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة،
قوله: "قل يا موسى لا إله إلا الله"2 فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على "هو" كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال.
قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول "يقول" بالإفراد مراعاة للفظة "كل"، وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى "كل"، ومعنى قوله:"كل عبادك يقولون هذا" أي إنما أريد شيئا تخصني به من بين عموم عبادك، وفي رواية: - بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا – قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئا تخصني
1 ضعيف: ابن حبان (2324) – موارد، والحاكم (1/528) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (10/82) بعد ما عزاه لأبي يعلى:"ورجاله وثقوا على ضعف فيهم". وضعفه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/55) .
2 قال في قرة العيون: فلا نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثني، وخبرها محذوف تقديره لا إله إلا الله. قال تعالى:(ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) ، فإلهيته تعالى هي الحق وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة كما في هذه الآية ونظائرها. فهذه كلمة عظيمة هي العروة الوثقى وكلمة التقوى وكلمة الإخلاص، وهي التي قامت بها السماوات والأرض، وشرعت لتكميلها السنة والفرض، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها ظهر الفرق بين المطيع والعاصي من العباد. فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا وقبولا، ومحبة وانقيادا أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.
به".
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودا، وأيسرها حصولا، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.
قوله: "وعامرهن غيري"1 هو بالنصب عطف على السماوات، أي لو أن السموات
1 قال في قرة العيون: أي كل من في السماوات والأرض. وقوله: "غيري" استثنى ممن في السماوات نفسه؛ لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس كما قال تعالى: 255: 2 (وهو العلي العظيم) ، علو القهر
السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.
=وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وسلم: " أن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله "1.
قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان.
قوله: "مالت بهن" أي رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال. وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء; كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2.
ودل الحديث على أن "لا إله الا الله" أفضل الذكر. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: وعلو القدر وعلو الذات. فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله كما قال تعالى: 5: 20 (الرحمن على العرش استوى) 59: 25 (ثم استوى على العرش الرحمن) الآية. في سبعة مواضع من كتابه (53: 7 و3: 1 و13: 2 و32: 4 و4: 47) كما قال تعالى: 10: 35 (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال تعالى: 50: 16 (يخافون ربهم من فوقهم) وقال تعالى: 4: 70 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) 55: 3 (إني متوفيك ورافعك إلي) وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة، وألحد في أسمائه وصفاته ومعنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عن كل شيء سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى. لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة، وقد ذكر الله سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود. (فمنهم) من يقولها جاهلا بما وضعت له، وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، والصدق والإخلاص وغيرها. كعدم القبول ممن دعي إليها علما وعملا، وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا، ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. (ومنهم) من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة، منها: قوله تعالى: 24: 9 (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) . وأما أهل الإيمان الخالص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا، وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه. وقد ذكرهم الله تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار; كما قال تعالى: 100: 9 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) ، فهؤلاء ومن اتبعهم هم أهل "لا إله إلا الله"، وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة. فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا، وترك ما يكرهه خشية ورجاء، واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وما هم فيه من التفاوت البعيد; تبين له خطأ المغرورين؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
1 صحيح: أحمد (2/169،170،225) . وصححه الحاكم (1/48،49) ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (4/220) : "ورجال أحمد ثقات" اهـ. وقال الألباني في الصحيحة (1/210) : "وسنده صحيح" اهـ.
2 سورة الأحقاف آية: 13.
" خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 1 رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعا:" يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي وحسنه. والنسائي وابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح 2.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه".
قوله: "رواه ابن حبان والحاكم" ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة -.
رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة "3.
وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البيع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.
1 الترمذي: الدعوات (3585) .
2 صحيح: الترمذي: كتاب الإيمان (2639) : باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وقال حسن غريب. وابن ماجة: كتاب الزهد (4300) : باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، وابن حبان (2524 - موارد) ، والحاكم (1/6) ، (2/188 ، 189) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. قال الألباني في الصحيحة (1/213) : "وهو كما قالا" اهـ. والحديث ليس في سنن النسائي كما عزاه المؤلف وراجع تحفة الأشراف (6/342) .
3 صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات (3540) : باب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. والحديث صحيح لشواهده الكثيرة، وقد شرحه العلامة ابن رجب في جامع العلوم والحكم "الحديث الثاني والأربعين" وقد أفردناه بالشرح والتحقيق وأسميناه أسباب المغفرة فليراجع التخريج هناك.
قال المصنف رحمه الله: "وللترمذي; وحسنه، عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم; إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة1 " ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنس قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم; إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي; يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني " الحديث.
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
الترمذي: اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق. مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
وأنس: هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، وقال له:" اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة " 2 مات سنة اثنتين وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة.
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه:" ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة 3" ورواه مسلم، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قوله:"لو أتيتني بقراب الأرض" بضم القاف: وقيل بكسرها والضم أشهر وهو
1 في قرة العيون: في هذا الحديث ما يبين معنى "لا إله إلا الله" التي رجحت بجميع المخلوقات، وجميع السيئات; وأن ذلك هو ترك الشرك قليله وكثيره، وذلك يقتضي كمال التوحيد فلا يسلم من الشرك إلا من حقق توحيده، وأتى بما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الكلمة العظيمة كما قال تعالى:(يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) . الشعراء 88 و 89.
2 البخاري: الدعوات (6334)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (660) وفضائل الصحابة (2480 ،2481)، والترمذي: المناقب (3827) ، وأحمد (3/108 ،3/188) .
3 صحيح: الطبراني في الكبير (12346) والصغير (2/20 ، 21) وقال الهيثمي (10/216) : "رواه الطبراني في الثلاثة وفيه إبراهيم بن إسحاق الصيني وقيس بن الربيع وكلاهما مختلف في توثيقه وبقية رجاله رجال الصحيح) اهـ. والحديث صحيح لغيره وذلك لشواهده الكثيرة وراجع تخريج رقم [37] .
ملؤها أو ما يقارب ملئها.
قوله: "ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا" شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك: كثيره وقليله، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: " لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين 2.
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة - إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وبجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله: محبة وتعظيما، وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. اهـ ملخصا.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى الحديث: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة; ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي". اهـ.
وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب
قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
1 سورة الشعراء آية: 88-89.
2 كثير من الناس يخطئون في فهم أحاديث: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فيظنون بأن التلفظ بها يكفي وحده للنجاة من النار ودخول الجنة، وليس كذلك، فإن من يظن ذلك من المغرورين لم يفهم "لا إله إلا الله" لأنه لم يتدبرها. إذ أن حقيقة معناها: البراءة من كل معبود، والتعهد بتجريد كل أنواع العبادة لله سبحانه وحده، والقيام بها على الوجه الذي يحبه ويرضاه. فمن لم يقم بحقها من العبادة، أو قام ببعض أنواع العبادة، ثم عبد مع الله غيره من دعاة الأولياء والصالحين والنذر لهم ونحو ذلك؛ فإنه يكون هادما لها، فلا تنفعه دعواه ولا تغني عنه شيئا، ولو كان مجرد قولها كافيا لم يقع من المشركين ما وقع من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداته. قال الله تعالى:(فاعلم أنه لا إله إلا الله) - وقال - (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) ، فمن لم يوف بها ويعمل بمقتضاها لا ينفعه التلفظ. وكل من جعل شيئا من أنواع العبادة لغير الله فهو إما جاهل بمعناها، أو كاذب في ادعائه الإيمان، وأولئك هم المغرورون (الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لما أسري برسول الله صلي الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا: المقحمات "1 رواه مسلم.
قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس
1 مسلم: الإيمان (173)، والترمذي: تفسير القرآن (3276)، والنسائي: الصلاة (451) ، وأحمد (1/387) .
بن مالك قال: "قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 1 وقال: " قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له2".
قال المصنف رحمه الله: "تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: "لا إله إلا الله". وتبين لك خطأ المغرورين.
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل "لا إله إلا الله"، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. وفيه إثبات الصفات خلافا للمعطلة. وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان:" إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط".
1 سورة المدثر آية: 56.
2 أحمد (3/142 ، 243) . والترمذي: كتاب التفسير (3328) : باب ومن سورة الحشر، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (1/139)، وابن ماجة: كتاب الزهد (4299) : باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. وضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث" اهـ. وسهيل هو ابن أبي حزم القطيعي ضعيف كما في التقريب (1/338) .