الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}
1
قوله: باب "قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2"3.
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 4 أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة. قالوا: وإنما فزّع
_________
1 سورة سبأ آية: 23.
2 سورة سبأ آية: 23.
3 في قرة العيون: وهذه الآيات تقطع عروق الشرك بأمور أربعة: (الأول) أنهم لا يملكون مثقال ذرة مع الله، والذي لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا ينفع ولا يضر، فالله تعالى هو الذي يملكهم ويدبرهم ويتصرف فيهم وحده. (الثاني) قوله:(وما لهم فيهما من شرك) أي في السموات والأرض، أي وما لهم فيهما من شرك مثقال ذرة من السموات والأرض. (الثالث) قوله:(وما لهم منهم من ظهير) والظهير: المعين، فليس لله معين من خلقه، بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم لكمال غناه عنهم، وضرورتهم إلى ربهم فيما قل وكثر من أمور دنياهم وأخراهم. (الرابع) قوله:(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وأخبر تعالى أن من اتخذ شفيعا من دونه حرم شفاعة الشفعاء، قال تعالى:(10: 18)(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) ؛ لأن اتخاذ الشفعاء شرك لقوله تعالى في حقهم: (سبحانه وتعالى عما يشركون) . والمشرك منفية الشفاعة في حقه كما قال تعالى: (74: 48)(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال: (6: 94)(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهرركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) ، وذلك أن متخذ الشفيع لا بد أن يرغب إليه ويدعوه ويرجوه ويخافه ويحبه لما يؤمله منه وهذه من أنواع العبادة التي لا يصرف منها شيء لغير الله، وذلك هو الشرك الذي ينافي الإخلاص.
4 سورة سبأ آية: 23.
عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي 1.
وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا; يعني منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه; لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 2 إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كَجرِّ سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى - من ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله:" الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها 3.
قوله: " قالوا ماذا قال ربكم " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقا لقالوا: ماذا خلق؟. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
ومثله الحديث: " ماذا قال ربنا يا جبريل؟ ". وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.
قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أي قال الله الحق. وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق.
قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 4 علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بما نعرف ربنا؟ قال: "بأنه على عرشه
1 ذكره عن ابن مسعود من عدة طرق، وساق بسنده حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري الآتي بعد صفحة. وقد قال البخاري في تفسير سورة الحجر عن علي بن عبد الله. قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ "فرغ" بضم الفاء والراء المثقلة المهملة وبالغين المعجمة فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو، ويعني ابن دينار. فلا أدري سمعه هكذا أم لا؟ قال الحافظ: وهذه القراءة رويت عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزين والعين المهملة. وقرأهما ابن عامر مبنيا للفاعل. ومعناه بالزاي والعين المهملة: أدهش الفزع عنهم. ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها.
2 سورة سبأ آية: 23.
3 قال أبو حيان: ولهذا اضطرب المفسرون في تفسيرها.
4 سورة سبأ آية: 23.
بائن من خلقه" تمسكا منه بالقرآن لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 في سبعة مواضع من القرآن.
قوله: {الْكَبِيرُ} أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى.
قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض. " وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا:؟ كذا وكذا. فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء". 3
ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري 4.
قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود:" إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان "5.
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما أوحى الجبار إلى محمد صلي الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي. فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله. فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا "6.
قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله" أي لقول الله تعالى. قال الحافظ:
1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الفرقان آية: 59.
3 البخاري (4800) في تفسير سورة سبأ باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم)(4701) في التفسير: سورة الحجر: باب (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) .
4 رواه في تفسير قوله: (إلا من استرق السمع) من سورة الحجر، وفي تفسير سورة سبأ وغيره هذين الموضعين. حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة. ورواه مسلم وأبو داود نحو هذا.
5 أخرجه البخاري معلقا بنحوه في كتاب الترحيد (13/ 452 ، 453) . ووصله أبو داود (4738) في السنة: باب في القرآن. وابن خزيمة في التوحيد (ص 145) . والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 201) . وغيرهم بإسناد صحيح وقد اختلف فيه على وقفه ورفعه كما في الفتح (13/ 456) .
6 البخاري (2210) : كتاب بدء الخلق: باب ذكر الملائكة.
خضعانا بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه. وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: "كأنه سلسلة على صفوان" أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس.
ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع- ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته.
قوله: "ينفذهم ذلك" هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة "ذلك" أي القول، والضمير في "ينفذهم" للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه. وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس:" فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا ". وعند أبي داود وغيره مرفوعا " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث.
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1 تقدم معناه.
قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} 2 أي قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق.
قوله: "فيسمعها مسترق السمع" أي يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضِيَ في السماء، فتسترق الشياطين السمع; فتوحيه إلى الكهان "3.
قوله: "ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه" أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
وسفيان: هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.
ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يُدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فقال:
قوله: "فحرّفها" بحاء مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: "وبدّد" أي فرق بين أصابعه.
1 سورة سبأ آية: 23.
2 سورة سبأ آية: 23.
3 صحيح: أبو داود (4738) : كتاب السنة: باب في القرآن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وراجع رقم [145] .
قوله: "فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته" أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. قوله:"فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها" الشهاب: هو النجم الذي يرمى به; أي ربما أدرك الشهاب المسترق، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث. لما روى أحمد وغيره - والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال:
" كان رسول الله صلي الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قال: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت - قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي صلي الله عليه وسلم - قال: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن - ربنا تبارك - اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا. ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون; فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون "12 قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء 3"4.
وعن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، ويخطف الجن ويرمون ". وفي رواية له:" لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون "5.
قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" أي الكاهن أو الساحر.
و"كذبة" بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة.
قوله: "فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ " هكذا في نسخة بخط
1 صحيح: أحمد في المسند (1/ 218) . ورواه مسلم أيضا في السلام (2229)(124) : باب تحريم الكهنة وإتيان الكهان. والترمذي (3222) في تفسير سورة سبأ وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 قال الحافظ ابن كثير: وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبد الله، أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن رجل من الأنصار.
3 يعني أن قول الكاهن والساحر والعراف قد يصادف بعض الواقع؛ فيغتر الجاهلون المخرفون بذلك، ويحتجون بهذه المصادفة على تصديق كذبه الذي لا يعد، وهو مبني على افتراء الكذب على الله ودعوى معرفة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وسيأتي بيانه في باب الكهان.
4 البخاري: تفسير القرآن (4701)، والترمذي: تفسير القرآن (3223)، وابن ماجه: المقدمة (194) .
5 مسلم: السلام (2229)، والترمذي: تفسير القرآن (3224) ، وأحمد (1/218) .
المصنف، وكالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف "وفيه قبول النفوس للباطل; كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟ ".
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى:{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفا وخلفا. خلافا للأشاعرة والجهمية; ونفاة المعتزلة. فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قوله: "وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة- أو قال رعدة- شديدة رجفة- أو قال: رعدة- شديدة خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخرُّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " 23".
1 سورة البقرة آية: 42.
2 ضعيف: ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/ 537) ، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد (ص 144) ، وابن أبي عاصم في السنة (515) . وضعفه الألباني في تخريجه للسنة (1/ 227) .
3 في قرة العيون: قوله "أن يوحي بالأمر" فيه بيان معنى ما تقدم في الحديث قبله من قوله: "إذا قضى الله الأمر". قوله: "تكلم بالوحي" فيه التصريح بأنه يتكلم بالوحي فيوحيه إلى جبريل عليه السلام، ففيه الرد على الأشاعرة في قولهم أن القرآن عبارة عن كلام الله. قوله:"أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل، في هذه معرفة عظمة الله، ويوجب للعبد شدة الخوف منه تعالى، وفيه إثبات العلو. قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا) هيبة وتعظيما لربهم وخشية لما سمعوا من كلامه تعالى وتقدس. قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل"؛ لأنه ملك الوحي عليه السلام. قوله: "فيكلمه الله من وحيه بما أراد" فيه التصريح بأنه تعالى يوحي إلى جبريل بما أراده من أمره كما تقدم في أول الحديث. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها". وهذا ايضا من أدلة علو الرب تعالى وتقدس. قوله: "ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: (قال الحق وهو العلي الكبير) . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل; فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" وهذا دليل بأنه تعالى قال ويقول، وأهل البدع من الجهمية ومن تلقى عنهم كالأشاعرة جحدوا ما أثبته الله تعالى في كتابه وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من علوه وكلامه وغير ذلك من صفات كماله التي أثبتها له رسوله، والمؤمنون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل السنة والجماعة على ما يليق بجلال الله وعظمته.
هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.
النواس بن سمعان: بكسر السين، بن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري صحابي. ويقال: إن أباه صحابي أيضا.
قوله: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلى آخره. فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة: لم يزل الله متكلما إذا شاء.
قوله: "أخذت السماوات منه رجفة" السماوات مفعول مقدم، والفاعل "رجفة" أي أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة، أي ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة. قال: " إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدا خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا سجدا،
قوله: "أو قال: رعدة شديدة" شك من الراوي. هل قال النبي صلي الله عليه وسلم رجفة، أو قال رعدة. والراء مفتوحة فيهما.
قوله: "خوفا من الله عز وجل" وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله، بما يجعل
تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها. وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} 2. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 3 وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح لله وتخشاه حقيقة، مستدلا بهذه الآيات وما في معناها.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل "4 وفي حديث أبي ذر: " أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسُمع لهن تسبيح "5 - الحديث وفي الصحيح: قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلي الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر6. ومثل هذا كثير.
قوله: "صُعقوا وخروا لله سجدا" الصعوق هو الغشي، ومعه السجود.
فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل،
قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل" بنصب "أول" خبر يكون مقدم على اسمها، ويجوز العكس. ومعنى جبريل: عبد الله; كما روى ابن جبير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل عُبيد الله; وإسرافيل عبد الرحمن. وكل شيء رجع إلى "ايل" فهو مُعبّد لله عز وجل. وفيه فضيلة جبريل عليه السلام. كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 7.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم. وقال أبو صالح في الآية8: "جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن".
1 سورة الإسراء آية: 44.
2 سورة مريم آية: 90.
3 سورة البقرة آية: 74.
4 جزء من حديث طويل رواه البخاري (3579) : كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام.
5 ضعيف: قال الهيثمي في المجمع (8/ 299) : رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي بعضهم ضعف.. وأشار إلى طريق آخر له عند الطبراني في الأوسط، وضعفه الحافظ في الفتح (6/ 592) .
6 البخاري (3583)، (3584) كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. من حديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهما.
7 سورة التكوير آية: 19-21.
8 أي في قوله: (ذي قوة عند ذي العرش مكين) كما ساق ذلك الحافظ ابن كثير، وقد نقلها الشارح رحمه الله مختصرة.
ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: " رأى رسول الله صلي الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح; كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم "1. فإذا كان هذا عظم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجلّ وأكبر. فكيف يسوّى به غيره في العبادة: دعاء وخوفا ورجاء وتوكلا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى، وقد قال تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2.
فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبرائيل يجيبهم بعد ذلك بقوله: "قال كذا وكذا".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبرائيل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله.
العاشرة: أن جبرائيل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
قوله: "ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض"
1 صحيح: أحمد (1/ 395 ، 398 ، 407 ، 412 ، 460) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (3458) وأول الحديث حتى قوله "ستمائة جناح". عند البخاري (3232) في بدء الخلق: باب إذا قال أحدكم آمين.. ومسلم (174)(280) كتاب الإيمان: باب في ذكر سدرة المنتهى.
2 سورة الأنبياء آية: 26-29.
3 سورة سبأ آية: 23.
وهذا تمام الحديث.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الملك العظيم الذي تُصعق الأملاك من كلامه خوفا منه ومهابة، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقدرته وملكه وعزه، وغناه عن جميع خلقه. وافتقارهم جميعا إليه، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته، لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجعل المربوب ربا، والعبد معبودا؟ أين ذهبت عقول المشركين؟ سبحان الله عما يشركون.
وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1 من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
1 سورة مريم آية: 93.