الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: إن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
باب: " ما جاء في المصورين
"
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة "1. أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيام الذين يضاهئون بخلق الله "2.
ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم "3.
ولهما عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا، كُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "4.
قوله: "باب ما جاء في المصورين" أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 5. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئا لخلق الله. فصار ما صوره عذابا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذابا; لأن ذنبه من أكبر الذنوب.
فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوّى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عُصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك
_________
1 البخاري: التوحيد (7559)، ومسلم: اللباس والزينة (2111) ، وأحمد (2/232) .
2 البخاري: كتاب اللباس (5954) : باب ما وطئ من التصوير. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2106)(92) : باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
3 أخرجه البخاري بنحوه: كتاب البيوع (2225) : باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2110)(99) : باب تحريم تصوير صورة الحيوان واللفظ له.
4 البخاري: التعبير (7042)، ومسلم: اللباس والزينة (2110)، والترمذي: اللباس (1751)، والنسائي: الزينة (5358 ،5359)، وأبو داود: الأدب (5024) ، وأحمد (1/216 ،1/241) .
5 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96) .
5 سورة السجدة آية: 7-8-9.
والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جهد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2. قوله:"ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي- حيان بن حصين- قال: قال لي علي رضي الله عنه" هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: " " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "3.
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الحج آية: 31.
3 في قرة العيون: فهذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من إنكار هذه الأمور وإزالتها 2: 59 (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . فأكثروا التصوير واستعملوه وأكثروا البناء على القبور وزخرفوها وجعلوها أوثانا، وزعموه دينا، وهو أعظم المنكرات وأكبر السيئات، تعظيما للأموات وغلوا، وعبادة لغير الله بأنواع العبادة التي هي حق الله على عباده.
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله. لقوله: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي "1.
فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك. أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله. فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطا لرحال العابدين المعظمين لها. فصرفوا لها جلّ العبادة: من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: 2 ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم. رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها.
كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي- فذكر حديث الباب- وحديث ثمامة بن شُفَي وهو عند مسلم أيضا قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها "3. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت; ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه.
1 البخاري: اللباس (5953)، ومسلم: اللباس والزينة (2111) ، وأحمد (2/232 ،2/259) .
2 في إغاثة اللهفان الجزء الأول.
3 مسلم: الجنائز (968)، والنسائي: الجنائز (2030)، وأبو داود: الجنائز (3219) .
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: " فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة ".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه، وأن يبنى عليه "1. ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها "2. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها.
كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه "3. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار4.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادا، الموقدين عليها السرج; الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسي: " ولو أُبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا " 5. متفق عليه. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا. ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره.
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعيادا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعُبّادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيِّمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير
ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم. فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 6. قال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} 7. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 8 الآية وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 9.
ومنها: 10 إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عُبّاد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه.
ومنها: 11 أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكّر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له;
فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجرا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت " 12 13.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر "14. رواه أحمد والترمذي وحسنه15.
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا16 ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفي الترمذي وغيره: " الدعاء هو العبادة "17. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم والترحم عليهم. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "18. وإسناده جيد ورواته ثقات مشيرا إلى قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ". أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم.
ثم إن19 في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الدين، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر، ولا أجر من صلى إلى القبلتين!! فتراهم حول القبر رُكّعا وسجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا.
فلغير الله- بل للشيطان- ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولا بحجك كل عام.
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم; إذ هي فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور، سد
الذريعة إلى هذا المحظور. وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يئول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. اهـ كلامه -رحمه الله تعالى-20.
1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2028)، وأبو داود: الجنائز (3225) ، وأحمد (3/295 ،3/339) .
2 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225) ; باب في البناء على القبر بلفظ: "نهى أن يقعد على القبر وأن يتجصص ويبنى عليه". والترمذي: كتاب الجنائز (1052) . بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو أن يبنى عليها، وأن توطأ". وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (204) .
3 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225) : باب في البناء على القبر. وصححه الألباني لطرقه في أحكام الجنائز ص (204) .
4 اختصر المؤلف كلام ابن القيم هنا وحذف منه ما يأتي: "ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره، وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا. وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا على قبره فسطاطا. وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطا ". اهـ إغاثة اللهفان "ج 1 ص 103".
5 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/146 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
6 سورة الفرقان آية: 17-18.
7 سورة الفرقان آية: 19.
8 سورة المائدة آية: 116.
9 سورة سبأ آية: 40-41.
10 اختصر المؤلف من كلام ابن القيم ما يأتي: ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها. ومنها: محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم.
11 زاد في الإغاثة: ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد، ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك. ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد.
12 جزء من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (976)(108) : باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه. وتقدم تخريجه برقم [180] .
13 حذف المؤلف رحمه الله من كلام ابن القيم حديث علي عند الإمام أحمد: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر الآخرة".
14 الترمذي: كتاب الجنائز (1053) : باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر. وضعفه الألباني في أحكام الجنائز ص (197) وفي ضعيف الجامع (3371) . والحديث لم يروه الإمام أحمد كما قال المؤلف.
15 حذف المؤلف رحمه الله حديث ابن مسعود: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". رواه ابن ماجة. وحديث أبي سعيد: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإن فيها عبرة". رواه الإمام أحمد.
16 قال ابن القيم: فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو".
17 صحيح: أبو داود: كتاب الصلاة (1479) : باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3372) : باب في فضل الدعاء، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 30)، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3828) : باب فضل الدعاء، وأحمد (4/ 267) من حديث النعمان [بن] بشير رضي الله عنه. وصححه الترمذي، وابن حبان (2396) ، والحاكم (1/ 490 ، 491) ، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3401) . وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1384) .
18 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284 ،2/337 ،2/367 ،2/378 ،2/388) .
19 الذي في نسخ إغاثة اللهفان التي بأيدينا المخطوطة والمطبوعة أن قول المؤلف رحمه الله: "ثم إن في تعظيم القبور" إلخ فصل متقدم قبل ما نقله المؤلف هنا.
20 اختصره المؤلف -رحمه الله تعالى-، وتصرف فيه بالتقديم والتأخير على حسب ما بيدنا من نسخ إغاثة اللهفان. والله يرحم الجميع ويغفر لنا ولهم.