الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: "وفي رواية " أغيظ رجل على الله وأخبثه ".
قوله: "أغيظ" من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضا إلى الله مغضوبا عليه1. والله أعلم.
قوله: "وأخبثه" وهو يدل أيضا على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبت الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله.
قوله: "أخنع: يعني أوضع"2 هذا هو معنى "أخنع"، فيفيد ما ذكرنا في معنى "أغيظ" أنه يكون حقيرا بغيضا عند الله.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.
وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم. كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير. فقال معاوية لابن عامر: اجلس; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار "3. وأخرجه الترمذي أيضا، وقال: حسن.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على عصا، فقمنا إليه. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا "4. رواه أبو داود.
قوله: "أغيظ رجل" هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة.
وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم، والله المستعان.
1 ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني.
2 "أخنع" بفتح الهمزة والنون بينهما معجمة ساكنة أي أدخلها في الخنوع، وهو الذل والضعة والهوان، ذكره الزمخشري. وفي رواية:"أخنى" من الخنا بمعنى الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم: أخنى عليه الدهر أي أهلكه. وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على الخاء المعجمة وهو بمعنى أهلك. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا يوم القيامة أي أشدهم ذلا وصغارا. وفي قرة العيون: وهذا من الصفات التي تمر كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل. والله أعلم.
3 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (5229) : باب في قيام الرجل للرجل، والترمذي: كتاب الأدب (2754) : باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل. وصححه الألباني في الصحيحة برقم (357) .
4 ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (5230) : باب في قيام الرجل للرجل. وضعفه الألباني في الضعيفة (346) بقوله: "ضعيف، وفي إسناده اضطراب وضعف وجهالة". اهـ.
باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
"
عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْمُ.
قوله: "باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك".
"عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "
إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح " 1. رواه أبو داود وغيره".
قوله: "عن أبي شريح" قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو2 أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة. قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي قاله الحافظ. وقيل: الحارث الضبابي قاله المزي.
قوله: "يكنى" الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك3 كزين العابدين ونحوه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو الحكم وإليه الحكم ". فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة أكثر ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة; فإنها لا تجتمع على ضلالة؛ فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية! فنسأل الله من فضله.
قوله: "وإليه الحكم في الدنيا والآخرة" كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 4. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 5. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. 6
1 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (4955) ; باب في تغيير الاسم القبيح، والنسائي: كتاب آداب القضاء (8/ 226) : باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم. وصححه الألباني في الإرواء (2615) ، وصحيح الجامع (1841) .
2 وبهامش الخلاصة: وقيل: عمرو بن خويلد. وقيل هانئ بن عمرو. وقيل: خويلد بن شريح بن عمرو. كذا في الكنى من كتاب ابن الملقن وجامع الأصول.
3 في كتب العربية: اللقب: ما أشعر بمدح أو ذم، كزين العابدين ونحوه.
4 سورة الشورى آية: 10.
5 سورة النساء آية: 59.
6 يعني رد الحكم إلى الله: رد الحكم إلى كتابه، ورد الحكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رد الحكم إليه في حياته، ثم رده إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
1 وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله "2. فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة. ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكما في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات. 3
فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح "4 رواه أبو داود وغيره.
وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه، وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} 5.
والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة، ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة.
قوله: "فإن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال: ما أحسن هذا! ". فالمعنى- والله أعلم- أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيا وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضى لا على الإلزام. ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي
1 تقدم تخريجه برقم (340) .
2 الترمذي: الأحكام (1327)، وأبو داود: الأقضية (3592) ، وأحمد (5/230 ،5/236 ،5/242)، والدارمي: المقدمة (168) .
3 وبخلاف الصنف الآخر: الذين يعنون بأقوال الناس وآرائهم فيحفظونها متونا وشروحا مهما كانت معقدة وطويلة، ثم يقدمونها في العبادات والأحكام بين يدي الله ورسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ماذا حرم الناس من خير وهدى وعز وسلطان بهذا العزل لكتاب الله وسنة رسوله عن وظيفتها.
4 النسائي: آداب القضاة (5387)، وأبو داود: الأدب (4955) .
5 سورة النساء آية: 40.