الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياء منهم"1 وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك نهيا بليغا، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين وأتم له به النعمة، وبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده "2.
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا " فكيف بمن قال: "ما لي من ألوذ به سواك" والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: "يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.
وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " 3 4.
قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمرا ونهيا. والله أعلم.
1 لعل الذي كان يمنعه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن الله أوحى إليه فيها شيئا. فلما أوحى إليه بلغه. أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي (*) فهذا ما لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. (*) قوله: (أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي) إلخ. أقول: هذا كلام جيد، والجواب عن الرواية التي ذكرها الشارح وهي قوله:(ورد في بعض الطرق أنه كان يمنعه الحياء منهم) أن يقال: إن صحت هذه الرواية فمعنى ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام يستحي منهم أن ينهاهم عن شيء لم يوح إليه أن ينهى عنه، وإن كان هو يستحسن تركه، فلما جاءه الوحي بالنهي عنه بسبب الرؤيا المذكورة نهاهم عن ذلك، كما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتماس ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان لما تواطئت رؤياهم على أنها في السبع الأواخر، وكان ذلك سببا لشرعية مزيد الاجتهاد في السبع المذكورة.
2 صحيح: ابن ماجة: كتاب الكفارات (2118) : باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. وصححه الألباني في الصحيحة لشواهده (138) .
3 البخاري; كتاب التعبير (6987) : باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. ومسلم: كتاب الرؤيا (2264)(7) . من حديث عبادة بن الصامت.
4 هذا الحديث إنما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يرى قبل النبوة وهو يتحنث في غار حراء من الرؤيا التي كانت تجيء مثل فلق الصبح. وذلك في الدور الذي كان يهيئه الله فيه لتلقي الوحي، وكان ذلك الدور ستة أشهر، وهي بالنسبة إلى مدة النبوة الثلاثة والعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءا منها. والله أعلم. قوله:(هذا الحديث إنما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يرى قبل النبوة) إلخ. يريد الشيخ حامد رحمه الله بهذا الكلام أن قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا الصالحة: أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، أنه خبر عما قد وقع ومضى، وليس الأمر كذلك بل الروايات الواردة في هذا الباب تدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم الخبر عن جنس الرؤيا في الماضي والمستقبل، وأنها تفيد وتحصل بها البشرى، وأن فائدتها جزء من أجزاء النبوة المتضمنة الأخبار عن المغيبات، ولهذا اختلفت ألفاظ الروايات في ذلك، ففي بعضها: جزء من خمسة وأربعين جزءا، وفي بعضها: جزء من ستة وأربعين جزءا، وفي بعضها: جزء من سبعين جزءا من النبوة، وفي بعضها غير ذلك. ولو كان المراد ما قاله الشيخ حامد لم تتنوع العبارات عنها، ووجه التنوع -والله أعلم- أن الرؤيا الصالحة في حد ذاتها تختلف بحسب صلاح الرائي وما يكتنف رؤياه من القرائن والشواهد الدالة على صدق الرؤيا، وقد نص العلماء على ما ذكرناه قال النووي رحمه الله في شرح مسلم ما نصه:(قال القاضي: أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمرء الصالح تكون رؤياه جزء من ستة وأربعين جزءا، والفاسق جزء من سبعين جزءا، وقيل: المراد أن الخفي منها جزء من سبعين، والجلي جزء من ستة وأربعين) . ثم نقل عن الخطابي عن بعض أهل العلم نحو ما قاله الشيخ حامد، ثم نقل عن المازري ما نصه:(وقيل: المراد أن للمنامات شبها مما حصل له وميز به من النبوة بجزء من ستة وأربعين) . انتهى. والله أعلم.
باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله
"
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} 1.
قوله: "باب من سب الدهر فقد آذى الله".
_________
1 سورة الجاثية آية: 24.
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} .
قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة. وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية، المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} . قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي يتوهمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار "1.
من رواية سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار "2.
وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر "3.
وفي رواية: " لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " 4 اهـ 5.
قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل؛
1 البخاري: التوحيد (7491)، ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246)، وأبو داود: الأدب (5274) ، وأحمد (2/238) .
2 في ابن كثير: "أقلب ليله ونهاره".
3 مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب (2246)(5) : باب النهي عن سب الدهر. من حديث أبي هريرة أيضا، وأحمد (6/158) .
4 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، وأحمد (2/275 ،2/318)، ومالك: الجامع (1846) .
5 هذه الرواية ليست في نسخ ابن كثير المطبوعة بأيدينا. وهي في تفسير البغوي.
إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. اهـ باختصار.
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا بهذا الطريق1. قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} 2. ويسبون الدهر. فقال الله عز وجل: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار".
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار "3. وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به.
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: " استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر ". قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر " 4: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى. فكأنما إنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره - وهو المراد - والله أعلم.
وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم "الدهر" من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث. اهـ.
وقد بين معناه في الحديث بقوله: "أقلب الليل والنهار". وتقليبه: تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه.
وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر "5.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى الله.
الثالثة: التأمل في قوله: " فإن الله هو الدهر ".
الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.
وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، وهي قوله:"بيدي الأمر".
1 أي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية " إلخ.
2 سورة الجاثية آية: 24.
3 الترمذي: تفسير القرآن (3058)، وابن ماجه: الفتن (4014) .
4 أحمد (1/129)(2/ 300 ، 506) . وابن خزيمة (2479)، والحاكم (1/ 418) وإسناده ضعيف. والفقرة الأخيرة من الحديث بلفظ: "يشتمني ابن آدم يقول وادهراه
…
" عند ابن أبي عاصم في السنة (598) . وإسنادها حسن كما قال الألباني.
5 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) ، وأحمد (2/395 ،2/491 ،2/499) .