الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و "ما" هاهنا موصولة، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله؛ فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.
قوله: " لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " قال القرطبي: "هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة؛ فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدبة ليلا، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك الحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة. قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك.
باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
"
قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.
وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره. فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد
الدعاء عنها في مادة; فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.
وقوله: "أو يدعو غيره" اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة; ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما. فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا; كقوله تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العباده، قال الله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 5. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 6. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} 7. وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعيا عابدا.
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال تعالى عن خليله:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} 8 فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} 9 كقول زكريا:
1 سورة المائدة آية: 76.
2 سورة الأنعام آية: 71.
3 سورة يونس آية: 106.
4 سورة الأعراف آية: 55.
5 سورة الأنعام آية: 40-41.
6 سورة الجن آية: 18.
7 سورة الرعد آية: 14.
8 سورة مريم آية: 48-49.
9 سورة مريم آية: 48.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 1. وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 2. وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة; فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 3.
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: "فإذا كان على عهد النبي صلي الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ; بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني; أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليُعبد وحده لا شريك له، ولا يُدعَى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تُنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة". اهـ.
وقال أيضا: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا".
نقله عن صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جِرْجيس في مسألة الوسائط.
1 سورة مريم آية: 4.
2 سورة الأعراف آية: 55-56.
3 سورة الزمر آية: 14.
4 سورة الزمر آية: 3.
5 سورة يونس آية: 18.
وقال ابن القيم رحمه الله: ومن أنواعه - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: "إن المبالغة في تعظيمه - أي الرسول - واجبة".
إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع قيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين.
وفي الفتاوي البزازية من كتب الحنفية: قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يَدّعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1.
ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3
1 سورة النساء آية: 115.
2 سورة النمل آية: 60.
3 سورة الأعراف آية: 54.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1 ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا، وإماتة وخلقا. وتمدح الرب تبارك وتعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قوله: فقوله في الآيات كلها "من دونه" أي من غيره. فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 5، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 6 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 7 وفي الحديث:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 8 الحديث9.
فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره. فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 10.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 11 {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ
1 سورة آل عمران آية: 189.
2 سورة فاطر آية: 3.
3 سورة فاطر آية: 13-14.
4 سورة الزمر آية: 30.
5 سورة الزمر آية: 42.
6 سورة آل عمران آية: 185.
7 سورة المدثر آية: 38.
8 مسلم: كتاب الوصية (1631)(14) : باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
9 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
10 سورة البقرة آية: 140.
11 سورة النمل آية: 62.
هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 1 وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه - جل ذكره - قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير. فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو - جل ذكره - خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيه غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه: أشرك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوا إن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس. فهذا من موضوعات إفكهم. كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين، وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار.
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان. والله المستعان وعليه التكلان.
1 سورة الأنعام آية: 63-64.
قال ابن عطية: معناه قيل لي: "ولا تدع" فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلي الله عليه وسلم. إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره. والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة.
قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية: يقول - تعالى ذكره -: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها فإنها لا تنفع ولا تضر. فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3 يقول من المشركين بالله الظالم لنفسه4.
قلت: وهذه الآية لها نظائر كقوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 5. وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 6. ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره. ولهذا قال:{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 7 كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 8 وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه; كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 9. والدين: كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة. وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء، وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير، يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئا لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك، فقد اتخذه معبودا وجعله شريكا لله في
1 سورة يونس آية: 106.
3 سورة يونس آية: 106.
4 فالظلم في هذه الآية هو الشرك كما قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: (31: 13){يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} بل هو أظلم الظلم كما في الحديث عن ابن مسعود: "أظلم الظلم أن تجعل لله ندا وهو خلقك"؛ لأنه اغتصاب حق الربوبية من العبادة والدعاء والنذر ونحوه، وصرفه للعبد الذي لا يستحقه.
5 سورة الشعراء آية: 213.
6 سورة القصص آية: 88.
7 سورة القصص آية: 88.
8 سورة الحج آية: 62.
9 سورة البينة آية: 5.
الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 23 فإنه المنفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه. فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده; فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع. ولا يملك ذلك ولا شيئا منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده، دون من لا يضر ولا ينفع. وقوله تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 5. وَقَالَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6. فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصب الأدلة على ذلك. فاعتقد عبّاد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم
1 سورة المؤمنون آية: 117.
2 سورة يونس آية: 107.
3 في قرة العيون: هذا في حق المستغيث أخبر الله تعالى أنه هو الذي يتفضل على من سأله، ولا يقدر أحد أن يمنعه شيئا من فضل الله عليه. فهو المعطي والمانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. وفي هذا المعنى ما في حديث ابن عباس. وفيه:"واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك". فمن تدبر هذه الآية وما في معناها علم أن ما وقع فيه الأكثر من دعوة غير الله هو الظلم العظيم، والشرك الذي لا يغفر، وأنهم قد أثبتوا ما نفته "لا إله إلا الله" من الشرك في الإلهية; ونفوا ما أثبتته من الإخلاص كما قال تعالى:(39: 2)(فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص) .
والدين هو طاعة الله فيما أمر به وشرعه، ونهى عنه وحرمه. وأعظم ما أمر به التوحيد والإخلاص، وأن لا يقصد العبد بشيء من عمله سوى الله تعالى الذي خلقه لعبادته، وأرسل بذلك رسله، وأنزل به كتبه (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وأعظم ما نهى عنه: الشرك به في ربوبيته وإلهيته.
5 سورة الزمر آية: 38.
6 سورة فاطر آية: 2.
شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره، بسؤالهم والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته. وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2 فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعصم من ذلك، فجعلوا لهم نصيبا من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذا لهم وملاذا في الرغبات والرهبات {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.
وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4 أي لمن تاب إليه.
قال: "وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5".
يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق منه وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص. وقوله:{وَاعْبُدُوهُ} من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها.
قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: {فَابْتَغُوا} أي فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي لا عند غيره. لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك:{وَاعْبُدُوهُ} أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
قال: "وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 7".
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره. وأخبر أنه لا يستجيب
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الطور آية: 43.
4 سورة يونس آية: 107.
5 سورة العنكبوت آية: 17.
6 سورة الأحقاف آية: 5.
7 سورة الأحقاف آية: 5-6.
له ما طلب منه إلى يوم القيامة. والآية تعم كل ما يدعى من دون الله، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1. وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله3.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4.
قال أبو جعفر ابن جرير في قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} 5 يقول - تعالى ذكره -: وإذا جُمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 6 يقول - تعالى ذكره -: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم ولا شعرنا بعبادتهم إيانا. تبرأنا إليك منهم يا ربنا، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 7.
1 سورة الإسراء آية: 56.
2 سورة الأحقاف آية: 6.
3 في قرة العيون: وأخبر أن المدعو لا يستجيب لما طلب منه من ميت أو غائب، أو ممن لا يقدر على الاستجابة مطلقا من طاغوت ووثن، فليس لمن دعا غير الله إلا الخيبة والخسران. ثم قال تعالى:(وهم عن دعائهم غافلون) كما قال في آية يونس (10: 28 ، 29)(ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ثم قال: (46: 6)(وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) . فلا يحصل للمشرك يوم القيامة إلا نقيض قصده، فيتبرأ منه ومن عبادته وينكر ذلك عليه أشد الإنكار، وقد صار المدعو للداعي عدوا; ثم أخبر تعالى أن ذلك الدعاء عبادة بقوله:{وكانوا بعبادتهم كافرين} فدلت أيضا على أن دعاء غير الله عبادة له وأن الداعي له في غايه الضلال. وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما عم وطم، حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولا عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله تعال، ; وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان، لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان، كما جرى للأمم مع الأنبياء والمرسلين لما دعوهم إلى توحيد الله جرى لهم من شدة العداوة ما ذكره الله تعالى، كما قال تعالى:(51: 52 ، 53){كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الله إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} . ويشبه هذه الآية في المعنى (35: 13 ، 14){ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} أخبر تعالى أن ذلك الدعاء شرك بالله وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فتدبر هذه الآيات وما في معناها كقوله:(72: 18){وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} (72: 20)(قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) وهو في القرآن أكثر من أن يستقصى.
4 سورة الأحقاف آية: 6.
5 سورة الأحقاف آية: 6.
6 سورة الأحقاف آية: 6.
7 سورة الفرقان آية: 17-18.
قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 من الملائكة والإنس والجن2 وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة.
ثم قال: يقال تعالى ذكره3 قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 نواليهم {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} 5 انتهى.
قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومَن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغة الدعاء، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 6 الآيتين وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 7، وَقَالَ:{وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} 8، وَقَالَ:{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} 9 وَقَالَ: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} 10 الآية. وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 11 الآية.
وفي حديث أنس مرفوعا: " الدعاء مخ العبادة "12 وفي الحديث الصحيح: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة "13. وفي آخر: " من لم يسأل الله يغضب عليه "14 وحديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " 15 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه. وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض" 16 رواه الحاكم وصححه. وقوله: " سلوا الله كل شيء حتى الشِّسع إذا انقطع " 17 الحديث. وقال ابن عباس رضي الله عنه: " أفضل العبادة الدعاء " 18 وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 19 الآية. 20 رواه ابن المنذر والحاكم وصححه. وحديث: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان " 21 الحديث.
وحديث: 22 " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر، في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفا وخلفا.
1 سورة الفرقان آية: 17.
2 سياق ابن جرير هكذا; يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة العابدين الأوثان وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجن.
3 أي عند تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك -إلى قوله- وكانوا قوما بورا) .
4 سورة الفرقان آية: 18.
5 سورة سبأ آية: 41.
6 سورة فاطر آية: 13.
7 سورة الأنعام آية: 63.
8 سورة يونس آية: 12.
9 سورة فصلت آية: 51.
10 سورة فصلت آية: 49.
11 سورة الأنفال آية: 9.
12 تقدم تخريجه برقم [77] .
13 حسن: الترمذي: (3479) : كتاب الدعوات: باب (66) ، والحاكم (1/ 493) من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني لشواهده. وراجع الصحيحة (596) وصحيح الجامع (243) .
14 حسن: أحمد (2/ 442 ، 443)، والترمذي (3373) كتاب الدعوات: باب [22]، وابن ماجة [3827] كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء، والحاكم [1/ 491] والبخاري في الأدب المفرد [658] من حديث أبي هريرة وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 85) : إسناده لا بأس به وحسنه الأرناءوط في تخريج جامع الأصول (4/ 166) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2414) .
15 حسن: أحمد (2/ 362) والترمذي (3370) في الدعوات: باب ما جاء في فضل الدعاء وحسنه وابن ماجة [3829] في الدعاء: باب فضل الدعاء وابن حبان (2397) ، والحاكم (1/ 490) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3268) وحسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (د/ 188) .
16 موضوع: الحاكم (1/ 492)، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147) وقال الهيتمي:"وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" اهـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179) .
17 موضوع: الحاكم (1/ 492) ، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147)، وقال الهيتمي:"وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" اهـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179) .
18 موطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (498) وكتاب الحج (963) .
19 سورة غافر آية: 60.
20 حسن: أخرجه الحاكم (1/ 49) من طريقين عن ابن عباس وحسنه الألباني في الصحيحة (1579) .
21 صحيح: جزء من حديث طويل رواه أبو داود (1495) كتاب الدعاء، والنسائي (3/ 52) : كتاب السهو: باب الدعاء بعد الذكر وقد دعا به النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد، وابن ماجة في الدعاء (3858) : باب اسم الله الأعظم من حديث أنس وصححه ابن حبان (2382- موارد) ، والحاكم (1/ 503 ، 504) ووافقه الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 36 ، 37) وإسناده صحيح. اهـ.
22 صحيح: جزء من حديث طويل لبريدة رضي الله عنه رواه أبو داود: كتاب الصلاة (1493) : باب الدعاء، والنسائي في السهو (3/ 52) : باب الدعاء بعد الذكر والترمذي: كتاب الدعوات (3475) باب جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن ماجة بنحوه: في الدعاء (3857) : باب اسم الله الأعظم، وأحمد (5/ 360) وصححه ابن حبان (2383- موارد) ، والحاكم (1/ 504) وأقره الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 38)"وإسناده صحيح".
وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة. وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر. فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالبا في المعنى. فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به; كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وذلك عبادة كالركوع والسجود. فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد.
ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} 1: وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرة: "يا الله"، ومرة:"يا رحمن"، فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أيّ اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما "الله" وإما "الرحمن" فله الأسماء الحسنى. وهذا من لوازم المعنى في الآية. وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطّرد في القرآن. وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء.
ثم قال: إذا عرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 2 يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه. قال الحسن:"بين دعاء السر ودون العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم". وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 3 يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني; وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. وهذا يأتي في مسألة الصلاة وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط. فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك؛ فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. اهـ مخلصا من البدائع.
1 سورة الإسراء آية: 110.
2 سورة الأعراف آية: 55.
3 سورة البقرة آية: 186.
قال: "وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1" بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم، قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده2، فذكر ذلك سبحانه محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 3 يعني يفعل ذلك. فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده. وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 4. ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5.
فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به
وروى الطبراني بإسناده " أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، قال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي: إنه لا يُستغاث بي، وإنما يستغاث بالله "6.
على ما جحدوه من قَصْر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 7.
قال أبو جعفر ابن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 8 إلى قوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} يقول - تعالى ذكره -: "أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به عنه؟ وقوله:{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} 9 يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم، وقوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 10 أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 11
1 سورة النمل آية: 62.
2 في قرة العيون: وهذا مما أقر به مشركو العرب وغيرهم في جاهليتهم كما قال تعالى: (30: 65)(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أخبر تعالى أنهم يخلصون الدعاء له إذا وقعوا في شدة.
3 سورة النمل آية: 60.
4 سورة النمل آية: 60-61.
5 سورة النمل آية: 63-64.
7 سورة الفاتحة آية: 5.
8 سورة النمل آية: 62.
9 سورة النمل آية: 62.
10 سورة النمل آية: 62.
(5)
سورة النمل آية: 62.
(6)
ضعيف: رواه الطبراني كما في المجمع (10/159) . وفي إسناده ضعف، فيه ابن لهيعة ضعيف مختلط، وراجع النهج السديد (161) .
يقول تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا. فلذلك أشركوا بالله غيره في عبادته". اهـ.
قوله: "وروى الطبراني أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله".
الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير. مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: "أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين" لم أقف على اسم هذا المنافق.
قلت: هو عبد الله بن أبيّ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته.
قوله: "فقال بعضهم" أي الصحابة رضي الله عنهم هو أبو بكر رضي الله عنه.
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 1.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة. 2
الثامنة: إن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. 3
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو الداعي وعداوته له.
قوله: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق"؛ لأنه صلي الله عليه وسلم يقدر على كف أذاه. 4
1 سورة يونس آية: 106.
2 يعني (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) .
3 يعني أن المدعو غافل عن دعاء الداعي بما هو مشغول به في قبره من نعيم، إن كان من المؤمنين الصالحين، كالحسين وأبيه – رضي الله عنهما، أو من عذاب أليم، كالتجاني المشرك الخبيث، وابن عربي الحاتمي أكبر الدعاة إلى وحدة الوجود، وابن الفارض وأشباههما ممن اتخذه الناس وليا معبودا لعظم ما بني عليه من القبة، أو بالظنون واتباع الأهواء، وهم كثير جدا، بل أكثر أولئك الطواغيت منهم، ومن أرباب الطرق الدجالين.
(4)
في قرة العيون: فلعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك المنافقين أن يفعل بهم ما يستحقونه مخافة أن يفتتن بعض المؤمنين من قبيلة المنافق، وفي السنة ما يدل على ذلك، كما فعل مع ابن أبي وغيره. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته استغاثة بمن لا يضر ولا ينفع ولا يسمع ولا يستجيب من الأموات والغائبين، والطواغيت والشياطين والأصنام وغير ذلك. وقد وقع من هذا الشرك العظيم ما عمت به البلوى مما تقدم ذكره حتى أنهم أشركوه مع الله في ربوبيته وتدبير أمر خلقه كما أشركوهم معه في ألوهيته وعبوديته؛ والوسائل لها حكم الغايات في النهي عنها والله أعلم.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة. 1
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم حِمى التوحيد والتأدب مع الله.
قوله: "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله" فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلي الله عليه وسلم ولا بمن دونه. كره صلي الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا
1 في سورة (10: 49)(قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) .
لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان فيما يقدر عليه صلي الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري1 والبرعي
1 مثل قوله في البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم. ويزعمون أن البوصيري أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرونه أكثر مما يذكرون حسان بن ثابت وغيره من الصحابة رضي الله عنهم; لأنهم في زعمهم لم يبلغوا من الغلو والإطراء ما بلغ البوصيري. وهذا هو الغلو الذي جر إلى الشرك والكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم كما كفرت النصارى بعيسى بن مريم عليه السلام من طريق هذا الغلو. وقد حذرنا الله منه في كتابه الكريم بقوله: (4: 171)(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) . وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فأنا عبد الله ورسوله" صلى الله عليه وسلم. وإنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم وحبه باتباع سنته وإقامة ملته ودفع كل ما يلصقه الجاهلون بها من الخرافات. فقد ترك أكثر الناس هذا وشغلوا بهذا الغلو والإطراء الذي أوقعهم في هذا الشرك العظيم. ونحمد الله أن عافانا بفضله وجعلنا مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم معظمين له ومحبين بما يحبه الله ورسوله لنا على مثل ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقد عظمت المصيبة بهذا الشرك حتى اتخذ أعداء الرسول -الزاعمون جهلا وكذبا حبه- هذه البردة وردا كالقرآن وأعظم من القرآن; وكتبوها مجودة بماء الذهب كما كتبوا القرآن، وربما اشتدت عنايتهم بها أكثر من القرآن. فلا حول ولا قوة إلا بالله.