الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله
"
قوله باب "من الشرك الاستعاذة بغير الله".
"الاستعاذة" الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا وملجأ. فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله; والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل له أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم رحمه الله.
وقال ابن كثير: "الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير". انتهى.
قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده; كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2 و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3. فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادات لغير الله جعله شريكا لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى.
قوله: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 4.
_________
1 سورة فصلت آية: 36.
2 سورة الفلق آية: 1.
3 سورة الناس آية: 1.
4 في قرة العيون: قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسيره هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية، فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما. وقال بعضهم: فزاد الإنس والجن باستعاذتهم بالجن باستعاذتهم بعزيزهم جراءة عليهم وازدادوا هم بذلك إثما. وقال مجاهد: فازداد الكفار طغيانا، وقال ابن زيد: وزادهم الجن خوفا.
قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي خوفا وإرهابا وذعرا، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم - إلى أن قال - قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم:"رهقا" أي خوفا. وقال العوفي عن ابن عباس: "فزادوهم رهقا" أي إثما، وكذا قال قتادة" اهـ.
وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله.
وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1 فاستمتاع الإنس بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به وخضوعه له. انتهى ملخصا.
قال المصنف: "وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك".
قوله: "وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم.
هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال: لها أم شريك، ويقال: إنها هي الواهبة2
1 سورة الأنعام آية: 128.
2 التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون.
قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: " أعوذ بكلمات الله التامات " شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته.
قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية. وقيل: الكلمات هنا هي القرآن؛ فإن الله أخبر عنه بأنه: {هُدىً وَشِفَاءٌ} 1. وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه; ويحضر ذلك في قلبه; فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك".
وقال ابن القيم: "ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان; لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عباد؛، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به" اهـ.
قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 3 قال ابن القيم رحمه الله: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة4 أو دابة، أو ريحا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.
1 سورة فصلت آية: 44.
3 سورة الفلق آية: 2.
4 الهامة: ما كان أهل الجاهلية يتوهمونه طائرا أو شبهه تتصور فيه روح المقتول لا تزال تنادي على قبره بالأخذ بثأره. وهي خرافة من خرافاتهم أبطلها الإسلام، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر".