الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب" الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.
قوله: "
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
"
لما ذكر المصنف رحمه الله التوحيد وفضله، وما يوجب الخوف من ضده. نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم. كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين. هذا خليفة الله"3.
قال رحمه الله: وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4.
قال أبو جعفر ابن جرير: "يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم " قل " يا محمد " هذه " الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص
_________
1 سورة يوسف آية: 108.
2 سورة فصلت آية: 33.
3 ذكره العماد ابن كثير في تفسير الآية (33) من سورة فصلت عن عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري رحمه الله. ويعني الحسن بذلك: أن الصدق في حب الله وعبادته وطاعته يستلزم ولا بد الدعوة إلى ذلك والجهاد فيه. لأن من أحب الله أحب كل ما أحبه الله وكل من أحب الله، وكره كل ما كره ومن كره، وأحب أن يكون الناس كلهم معه في حب الله.
4 سورة يوسف آية: 108.
العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته " سبيلي " طريقتي ودعوتي، "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ" تعالى وحده لا شريك له " على بصيرة " بذلك ويقين علم مني به " أنا " ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} 1 " يقول له تعالى ذكره: وقل: تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني". انتهى.
قال في شرح المنازل: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء. قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 3 أي أنا وأتباعي على بصيرة. وقيل: "من اتبعني" عطف على المرفوع في "أدعو" أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى القولين: فالآية تدل على أن اتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى.
قال المصنف رحمه الله: "فيه مسائل: منها التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. ومنها: أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة. ومنها: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك" اهـ.
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 4 الآية ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له، مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق. لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن. انتهى.
قال: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث
1 سورة يوسف آية: 108.
2 سورة يوسف آية: 108.
3 سورة يوسف آية: 108.
4 سورة النحل آية: 125.
معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله - " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجاه1.
قال الحافظ: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حج النبي صلي الله عليه وسلم، كما ذكره المصنف - يعني البخاري في أواخر المغازي - وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلي الله عليه وسلم من تبوك.
رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك. وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ثم توجه إلى الشام فمات بها.
قال شيخ الإسلام: ومن فضائل معاذ رضي الله عنه أنه صلي الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغا عنه، ومفقها ومعلما وحاكما.
قوله: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب " قال القرطبي: "يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم.
وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها".
قوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " 2 "شهادة" رفع على أنه اسم "يكن" مؤخر. و "أول" خبرها مقدم. ويجوز العكس.
1 البخاري: كتاب المغازي (4347) : باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم: كتاب الإيمان (19)(29) : باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
2 في قرة العيون: وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه، فكان قولهم "لا إله إلا الله " لا ينفعهم لجهلهم بمعنى هذه الكلمة، كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة، فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد، فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم، وينفون ما أثبتته من الإخلاص كذلك، وظنوا أن معناها القدرة
قوله: "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله" هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى "شهادة أن لا إله إلا الله"؛ فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه. وفي رواية: " "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" " وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 1 والعروة الوثقى هي "لا إله إلا الله". وفي رواية للبخاري فقال: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ".
قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي
للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها.
1 سورة البقرة آية: 256.
وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 وقال نوح: {أَلا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} 2 وفيه معنى "لا إله إلا الله" مطابقة3.
قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنا وظاهرا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء" اهـ.
1 سورة المؤمنون آية: 32.
2 سورة هود آية: 2.
3 في قرة العيون: وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال، فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده، ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة:(أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي لا تعبدوا إلا الله. قال تعالى: 21: 25 (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)، وقال تعالى: 14: 10 (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) .
قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: ((هذا يحتمل شيئين: "أحدهما" أفي وجوده شك؟ فإن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة. "والمعنى الثاني" أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى)) اهـ.
قلت: وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول. روى أبو جعفر ابن جرير بسنده عن عكرمة ومجاهد وعامر أنهم قالوا: ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض فهذا إيمانهم. وعن عكرمة أيضا تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره.
وتقدم أن "لا إله إلا الله " قد قيدت بالكتاب والسنة بقيود ثقال. منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد، والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها ومنهم من لاينفعه كما لا يخفى.
" فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه أن الإنسان قد يكون عالما1 وهو لا يعرف معنى "لا إله إلا الله" أو يعرفه ولا يعمل به".
قلت: فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى -.
قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك " أي شهدوا وانقادوا لذلك. " فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة. والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه. وهذا قول الأكثرين. اهـ.
قوله: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". 2 فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم الفقراء؛ لأن حقهم في الزكاة آكد من
_________
1 يعني عالما بعلوم الدنيا; أو عالما حافظا لعلوم الدين ولكنها لا تمس قلبه ولا عقيدته؛ لأنه تعلمها للدنيا وليقال عالم. فهو محترف العلم، وقد يكون بارعا حاذفا في هذه الحرفة ولكنه لا ينتفع في نفسه بعلمه؛ لأن علمه في ناحية وعقيدته ودينه مع تقليد العوام والجمهور في ناحية أخرى، وهذا حال أكثر العلماء الرسميين اليوم أصلحهم الله.
2 في قرة العيون: فيه أن الزكاة لا تنفع إلا من وحد الله وصلى الصلوات بشروطها وأركانها وواجباتها. والزكاة قرينة الصلوات في كتاب الله تعالى، ويدل على هذه الجملة قوله تعالى: 5: 98 (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) . فمن أتى بهذه الأمور أتى ببقية الأركان لقوة الداعي إلى ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الإتيان بها لزوما. قال تعالى: 9: 5 (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) . قال أنس في الآية: "توبتهم: خلع الأوثان وعبادتهم ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". وعن ابن مسعود مرفوعا: "أمرت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له ".
حق بقية الأصناف الثمانية.
وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها: إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا.
وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد.
وفيه: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور؛ عموم الحديث.
قلت: والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره. كما قرره شيخ الإسلام.
قوله: " إياك وكرائم أموالهم " بنصب "كرائم" على التحذير، وجمع كريمة. قال صاحب المطالع:"هي الجامعة للكمال الممكن في حقها: من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف". ذكره النووي "قلت" وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنا.
وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال. بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز2.
قوله: " واتق دعوة المظلوم " 3 أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى. وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.
1 البخاري: الزكاة (1395 ،1458 ،1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/233)، والدارمي: الزكاة (1614) .
2 في قرة العيون: تحذير له من أن يتجاوز ما شرعه الله ورسوله في الزكاة، وهو أخذها من أوساط المال؛ لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس ونية صحيحة. وكل ما زاد على المشروع فلا خير فيه. وهذا أصل ينبغي التفطن له.
3 في قرة العيون: يدل على أن العامل إذا زاد على المشروع صار ظالما لمن أخذ ذلك منه، ودعوة المظلوم مقبولة ليس بينها وبين الله حجاب يمنع قبولها. فعلى العامل أن يتحرى العدل فيما استعمل فيه، فلا يظلم بأخذ زيادة على الحق، ولا يحابي بترك شيء منه، فعليه أن يقصد العدل من الطرفين، والله أعلم.
قوله: "فإنه" أي الشأن " ليس بينها وبين الله حجاب " هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به. وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته. والتنبيه على التعليم بالتدريج. قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم.
واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس: أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك. فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد; مثل حديث وفد عبد القيس 1 حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه. فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها: كالصلاة والزكاة. ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم. فإما أن يكون قبل فرض الحج; وإما أن يكون المخاطب بذلكض
1 روى البخاري ومسلم عن ابن عباس: "أن عبد القيس وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. قال: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة. فقال: آمركم بأربع: وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم" - الحديث وكان وفد عبد القيس في سنة تسع. (*) .
(*)(وكان وفد عبد القيس في سنة تسع) في هذا نظر والأظهر أنهم وفدوا قبل فتح مكة لقولهم: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر) ، ومعلوم أن أهل مكة هم رؤوس كفار مضر وقادتها، وقد أسلموا عام الفتح وذلك سنة ثمان، وقد استنبط الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه البداية، هذا المعنى من هذا السياق - والله أعلم -.
لا حج عليه. وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها. فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجبا كما في آيتي براءة1 نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذا إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه 2.
قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
قال: "ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع،
1 هما قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) الآية الخامسة. ومثلها الآية الحادية عشرة، وخاتمتها:(فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) .
2 ولعل الصواب ما أجاب به بعض العلماء من اختصار الراوي للحديث. وليس في ذلك طعن في الرواة؛ لأنهم كانوا يروون الحديث بحسب الظروف والمناسبات. فقد تكون المناسبة مقتضية لبعض الحديث فيقتصر على هذا البعض. وذلك كثير جدا; كما تراه في البخاري وغيره - والله أعلم -.
فأعطاه الراية، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1.
"يدوكون" أي يخوضون.
قوله: "عن سهل بن سعد" أي ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضا، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: "قال يوم خيبر" وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال:
" كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلي الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلي الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها، قال صلي الله عليه وسلم: لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلي الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه "2.
قوله: "لأعطين الراية" قال الحافظ: في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس:" كانت راية رسول الله صلي الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض "3 ومثله عند الطبراني عن.
الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم
بريدة. وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: "مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله"4.
قوله: " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، ولكن هذا باطل؛ فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرا.
1 البخاري: الجهاد والسير (2975)، ومسلم: فضائل الصحابة (2407) ، وأحمد (4/51) .
2 البخاري: كتاب فضائل الصحابة (3702) : باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة (3407)(35) : باب من مناقب علي بن أبي طالب.
3 الترمذي: الجهاد (1681)، وابن ماجه: الجهاد (2818) .
4 البخاري: كتاب فضائل الصحابة (3701) : باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة (2406)(34) : باب من فضائل علي بن أبي طالب. وقال: حديث حسن غريب، والطبراني (1161) عن بريدة. وقال في المجمع (5/ 321) :"وفيه حيان بن عبيد الله. قال الذهبي: بيض له ابن أبي حاتم فهو مجهول وبقية رجال أبي يعلى ثقات " اهـ. والحديث حسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (10/ 404) وزيادة "مكتوب فيه لا إله إلا الله " عند الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي في المجمع (5/ 321) عن ابن عباس وفيها حيان بن عبيد الله أيضا.
وفيه إثبات صفة المحبة خلاقا للجهمية ومن أخذ عنهم 1.
قوله: " يفتح الله على يديه " صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة.
قوله: " فبات الناس يدوكون ليلتهم " بنصب "ليلتهم" و "يدوكون" قال المصنف: يخوضون. أي فيمن يدفعها إليه. وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان.
قوله: "أيهم" هو برفع "أي" على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها.
قوله: " فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ". وفي
يرجو أن يعطاها ". فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه.
رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ "2.
قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلي الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلي الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس3 وعبد الله بن سلام4 وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر5.
1 في قرة العيون: وفيه فضيلة لعلي رضي الله عنه بما خصه من إعطاء الراية، ودعوته أهل خيبر إلى الإسلام; وقتالهم إذا لم يقبلوا. وفيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام.
2 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (5 0 24)(33) : باب من فضائل علي بن أبي طالب.
3 قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هو من أهل الجنة" في حديث طويل حين جلس في بيته حزينا عند نزول (لا ترفعوا صوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وكان ثابت رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي- الحديث رواه الإمام أحمد (ج 3 ص 137) ، ورواه مسلم. في كتاب الإيمان حديث 187.
4 عن سعد بن أبي وقاص قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام" رواه البخاري في مناقب الأنصار، ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة.
5 روى البخاري عن عمر قال: "كان رجل يسمى عبد الله ويلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله وكان يشرب الخمر فيؤتى به فيقيم عليه الحد فلعنه بعض الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " الحديث.
قوله: "فقال أين علي ابن أبي طالب" فيه سؤال الإمام عن رعيته; وتفقد أحوالهم.
قوله: " فقيل هو يشتكي عينيه " أي من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد ابن أبي وقاص فقال:
" ادعوا لي عليا فأتي به أرمد "1. الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه " مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي صلي الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مبنيا لما لم يسم فاعله. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: " فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد ".
قوله: "فبصق" بفتح الصاد، أي تفل.
قوله: " ودعا له فبرأ" هو بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر.
وعند الطبراني من حديث علي: " فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلي الله عليه وسلم إلي الراية ". وفيه دليل على الشهادتين2.
قوله: "فأعطاه الراية" قال المصنف: "فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع; ومنعها عمن سعى".
وفيه: أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل.
قوله: " وقال: انفذ على رسلك " بضم الفاء. أي امض، و "رسلك" بكسر الراء وسكون السين، أي على رفقك من غير عجلة. و "ساحتهم" فناء أرضهم وهو ما حولها.
وفيه: الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش، والأصوات التي لا حاجة إليها.
1 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2404)(32) : باب من فضائل علي بن أبي طالب.
2 حسن. الحديث بهذا اللفظ قال عنه الهيثمي في المجمع (9/122) . "رواه أحمد وأبو يعلى باختصار ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى وحديثها مستقيم " اهـ. أما رواية الطبراني عن علي فهي بنحو هذه الرواية وقال عنها الهيثمي (9/122) أن إسنادها حسن.
وفيه: أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة; كما يشير إليه قوله: " ثم ادعهم الى الإسلام "1 أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن شئت قلت الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله صلي الله عليه وسلم. ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة.
وقال - رحمه الله تعالى -: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله: هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب. والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، وفي الأصل: هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى.
فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله; كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 3.
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه،
وفيه: مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون4. وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة
1 في قرة العيون: هذا هو شاهد الترجمة، وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه، وينبغي لولاة الأمر أن يكون هذا هو معتمدهم ومرادهم ونيتهم.
2 سورة آل عمران آية: 64.
3 سورة نوح آية: 3.
4 الغار: الغافل. وقال البخاري: غزوة بني المصطلق من خزاعة. وهي المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وقال النعمان بن راشد عن الزهري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث ". وبنو المصطلق بطن شهير من خزاعة. وسبب غزوهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيدهم أبا جويرية يجمع الناس ويستعد لقتاله. ففاجأهم رسول الله وهم غافلون، وأسر منهم أكثرهم وأسلم الحارث بن ضرار.
وجبت دعوتهم.
قوله: " وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه " 12 أي في الإسلام إذا أجابوك
1 البخاري: المناقب (3701)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود: العلم (3661) ، وأحمد (5/333) .
2 في قرة العيون: فيه مما أمر به وشرعه من حقوق "لا إله إلا الله " وهذا يدل على أن الأعمال من الإيمان خلافا للأشاعرة والمرجئة في قولهم: إنه القول. وزعموا أن الإيمان هو مجرد التصديق، وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة؛ لأن الدين ما أمر الله به فعلا وما نهى عنه تركا. وفيه الرد على المشركين المستدلين على الشرك بكرامات الأولياء لدلالتها على فضلهم. وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقع له من الكرامات ما لم يقع لغيره. وقد خد الأخاديد وأضرمها بالنار وقذف فيها من غلا فيه أو اعتقد فيه بعض ما كان يعتقده هؤلاء المشركون مع أهل البيت وغيرهم. فصار من أشد الصحابة رضي الله عنه بعدا عن الشرك، وشدة على من أشرك حتى أحرقهم بالنار (*) . وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أعطي من الكرامات صار من أبعد الصحابة عن الشرك وذرائعه. وهؤلاء أفضل أهل الكرامات فما زادهم ذلك إلا قوة في التوحيد; وشدة على أهل الشرك والتنديد، كما جرى لعمر رضي الله عنه في الاستسقاء بالعباس وتعمية قبر دانيال لما وجده الصحابة في بيت مال الهرمزان، كما أن المعجزات إنما زادت الرسل قوة في الدعوة إلى التوحيد وشدة على أهل الشرك والإنكار عليهم وجهادهم، ولكن قد يقع من الأحوال الشيطانية لمن استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربه ما قد يلتبس على الجهال الذين تلبسوا بالشرك; ويظنون أن ذلك كرامات، وهي من مكر الشيطان; وإغوائه لمن لم يعرف الحق من الباطل، وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: 43: 43 (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) فكذلك يجب على كل أحد أن يطلب الحق من القرآن بتدبره؛ فإنه الصراط المستقيم ولا يلتفت إلى ما زخرفته الشياطين كما اغتر به من اغتر في هذه الأمة من قبلهم. (*) هو عبد الله بن سبأ اليهودي وشيعته. والقصة في البخاري. وفيه: من أداء الفرائض على الوجه الشرعي والنهي عن تعدي الحدود التي حدها الله بين الحلال والحرام; وذلك من الإيمان. فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله; والدين ما شرعه الله، فإذا أخذ بالإسلام الذي هو التوحيد والإخلاص، وأحل ما أحله الله تعالى وحرم ما حرم الله تعالى وأمر بذلك وجاهد عليه، فقد قام بما وجب. وبالله التوفيق.
فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1.
إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بد لهم من فعلها: كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة:" فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2 ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: " كيف تقاتل النساء وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
وفيه: بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته:" ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم "3.
قوله: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ""أن" مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر (خير) و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر، و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلي الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
_________
1 البخاري: المناقب (3701)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود: العلم (3661) ، وأحمد (5/333) .
(1 و 2) رواهما البخاري ومسلم وغيرهما.
3 إسناده ضعيف: أحمد (1/41) . وقال الهيثمي في المجمع (5/ 211) : "رواه أحمد في حديث طويل وأبو فراس لم أر من جرحه ولا وثقه، وبقية رجاله ثقات " اهـ. وأبو فراس النهدي قال في الميزان (4/ 561) : لا يعرف وفي التقريب (2/462) مقبول.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: - وهي أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم، ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى " أن يوحدوا الله" لا معنى: شهادة أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم. وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر "خير". و "حمر" بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر. و "النعم" بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر. وهي أنفس أموال العرب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.