الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}
1.
وغيرهم، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره ولا رب سواه. قال تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 في مواضع من القرآن3 {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 4. فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير، فاعتقدوا الشرك بالله دينا، والهدى ضلالا، فإنه لله وإنا إليه راجعون. فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى فعاندوا أهل التوحيد وبدعوا أهل التجريد; فالله المستعان.
قوله: "باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 5".
قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف
_________
1 سورة الأعراف آية: 191.
2 سورة الأعراف آية: 188.
3 يعني (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) فبالجمع بين الآيتين يظهر أنه لا يقدر أحد من المدعوين أن يجيب الداعي إلا الله. 4 سورة الجن آية: 21.
5 في قرة العيون: وهذا مما احتج به تعالى على المشركين لما وقع منهم من اتخاذ الشفعاء والشركاء في العبادة؛ لأنهم مخلوقون فلا يصلح أن يكونوا شركاء لمن هم خلقه وعبيده. وأخبر أنهم مع ذلك لا يستطيعون لهم نصرا، أي لمن سألهم النصرة (ولا أنفسهم ينصرون) فإذا كان المدعو لا يقدر على أن ينصر نفسه فلأن لا ينصر غيره من باب الأولى. فبطل تعلق المشرك بغير الله بهذين الدليلين العظيمين، وهو كونهم عبيدا لمن خلقهم لعبادته، والعبد لا يكون معبودا. الدليل الثاني: أنه لا قدرة لهم على نفع أنفسهم فكيف يرجى منهم أن ينفعوا غيرهم. فتدبر هذه الآية وأمثالها في القرآن العظيم.
للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبيّن أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين. وأشرف الخلق محمد صلي الله عليه وسلم قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول:
"اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل "1.
وهذا كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2. وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} 4.
فكفى بهذه الآيات برهانا على بطلان دعوة غير الله كائنا من كان. فإن كان نبيا أو صالحا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضاء به ربا ومعبودا، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودا مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5. وَقَالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 6. فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو دين الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام قال:
" يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم ومضان " 7 الحديث.
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
1 صحيح: أخرجه أبو داود (2623) في الجهاد: باب ما يدعى عند اللقاء، والترمذي (3584) في الدعوات: باب في الدعاء إذا غزا من حديث أنس. وصحح إسناده الألباني في تخريج الكلم الطيب (125) وقال: ولبعضه شاهد من حديث صهيب أخرجه أحمد (6/ 16) بسند صحيح، اهـ.
2 سورة الفرقان آية: 3.
3 سورة الأعراف آية: 188.
4 سورة الجن آية: 21-22-23.
5 سورة القصص آية: 88.
6 سورة يوسف آية: 40.
7 البخاري: كتاب الإيمان (50) : باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضا مسلم (9)، (10) كتاب الإيمان: باب الإسلام والإيمان والإحسان.
وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2 يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عُدمت بالكلية؟ فنفى عنهم الملك بقوله:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 3 قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وعطاء والحسن وقتادة "القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر". كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} 4. وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا} ؛ لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم، مشتغل بما خلق له، مسخر بما أمر به كالملائكة، ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ؛ لأن ذلك ليس لهم; فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم، لا استقلالا ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك. وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فتبين بهذا أن دعوة غير الله
شرك. 6 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 في قرة العيون: يخبر الخبير أن الملك له وحده، والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، ولهذا قال:(والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سواه تعالى وتقدس، بل يجب إخلاص الدعاء له الذي هو من أعظم أنواع العبادة، وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم. ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم، أي ينكرونه ويتبرءون ممن فعله معهم; ذلك الدعاء شرك به، وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع، بل قالوا: إن الميت يسمع; ومع سماعه ينفع; فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة.
3 سورة فاطر آية: 13.
4 سورة النحل آية: 73.
5 سورة سبأ آية: 22-23.
6 وتبين أنهم كانوا يدعون عبادا صالحين يتبرءون من الشرك الذي هو دعاء غير الله، ويتبرءون من أولئك المشركين الزاعمين حب أولئك الصالحين وأنهم محسوبون عليهم.
عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1 وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 2. قال ابن كثير: يتبرأون منكم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3.
قال وقوله: {لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4 أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى. فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
قلت: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها 5، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة ويتبرأ منه، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 6 أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 7. قال يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.
فالكيِّس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا دفعا، فضلا عن غيره.
قوله: "وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 8".
1 سورة مريم آية: 81-82.
2 سورة فاطر آية: 14.
3 سورة الأحقاف آية: 5-6.
4 سورة فاطر آية: 14.
5 يعني قالوا ذلك بلسان حالهم؛ لأنهم أصروا على دعائهم والاستغاثة بهم بعد أن وبخهم الله بأن الذي يستغاث به ويدعى لا بد أن يكون سميعا بصيرا بيده الخير. والذي يدل على أنهم لم يكونوا يقولون ذلك بصريح القول: ما حكى الله من جواب قوم إبراهيم وأبيه لما سألهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فإنهم أعرضوا عن الجواب الصريح عن السؤال. وقالوا: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) فجوابهم هذا حيدة عن الجواب المطابق للسؤال.
6 سورة يونس آية: 28-29-30.
7 سورة يونس آية: 29.
8 سورة آل عمران آية: 128.
قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين. علقه البخاري. قال: وقال حميد وثابت عن أنس. ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس. وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: " كسرت رباعية النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله الآية "1.
قوله: "شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم" قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة ابن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلي الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته العليا2. وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق
يوم أحد وكُسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
المِغْفَر في وجنته3وأن مالك بن سنان مصّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده. فقال له " لن تمسك النار "
قال القرطبي: "والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء - وهي كل سن بعد ثنية - قال النووي رحمه الله: وللإنسان أربع رباعيات".
قال الحافظ: "والمراد أنها كسرت، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها".
قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب. ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم".
قال القاضي: "وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ
1 رواه البخاري معلقا (7/ 281) في المغازي: غزوة أحد باب قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) . حديث حميد فوصله أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد كما في الفتح (7/ 365) . أما حديث ثابت فوصله مسلم (1791) في الجهاد والسير، باب غزوة أحد من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه.
2 روى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "فما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد".
3 في الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسرت رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: مالك أقمأك الله. فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة".
على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون. ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم" انتهى.
قلت: يعني من الغلو والعبادة.
قوله: "يوم أُحد" هو شرقي المدينة. قال صلي الله عليه وسلم: " أُحد جبل يحبنا ونحبه " 12 وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة. فأضيفت إليه.
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع قي الركعة الأخيرة من الفجر -: " اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع لله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 3 " الآية. 4
قوله: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" زاد مسلم: " كسروا رباعيته وأدموا وجهه "5.
قوله: "فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6"7 قال ابن عطية: كأن النبي صلي الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش; فقيل له بسبب ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودُم على الدعاء لربك.
وقال ابن إسحاق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 8 في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. قوله: "وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: - " اللهم العن فلانا وفلانا " بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 9 وفي رواية. " يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام " فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ".
1 رواه البخاري كتاب الزكاة (1481) : باب خرص الثمر. ومسلم: كتاب الحج (1392)(503) : باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وللبخاري: كتاب الاعتصام (7333) : باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم: كتاب الحج (1365)(462) : باب فضل المدينة: وكتاب الحج (1393)(504) : باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 رواه البخاري في الصحيح عن أنس.
3 سورة آل عمران آية: 128.
4البخاري: كتاب المغازي (4069) : باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ومسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
5
6 سورة آل عمران آية: 128.
7 في قرة العيون: وقد قال تعالى: (قل إن الأمر كله لله) وقال تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمقصود أن الذي له الأمر كله والملك كله لا يستحق غيره شيئا من العبادة، ولهذا المعنى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) . فالذي ليس له من الأمر شيء وهو خيرة الله من خلقه ما زال يدعو الناس أن يخلصوا العبادة للذي له الأمر كله وهو الله تعالى، فهذا دينه صلى الله عليه وسلم الذي بعث به، وأمر أن يبلغه أمته ويدعوهم إليه كما تقدم في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإياك أن تتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين الذي شرعه الله ورسوله لهم وخصهم به.
8 سورة آل عمران آية: 128.
9 سورة آل عمران آية: 128.
قوله: "وفيه" أي في صحيح البخاري. ورواه النسائي.
قوله: "عن ابن عمر" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، شهد له رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصلاح، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها.
قوله: "أنه سمع رسول الله" هذا القنوت على هؤلاء بعدما شج وكسرت رباعيته يوم أُحد.
قوله: "اللهم العن فلانا وفلانا" قال أبو السعادات: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله. ومن الخلق السب والدعاء. وتقدم كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
قوله: "فلانا وفلانا" يعني صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، كما بينه في الرواية الآتية.
وفيه: جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر في الصلاة.
قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده" قال أبو السعادات: أي أجاب حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف؛ لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه: "سمع الله لمن حمده" باللام المتضمنة معنى استجاب له. ولا حذف وإنما هو مضمن.
قوله: "وربنا لك الحمد" في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد; لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد. فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له. كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له.
وكذا قال ابن القيم: وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة، أو يكون مقرونا بحبه وإرادته. فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه. ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال:"الحمد لله" أو قال: "ربنا ولك الحمد" تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد.
وفيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: يقتصر على "سمع الله لمن حمده".
قوله: "وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام".
وذلك لأنهم رءوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان ابن حرب، فما استجيب له صلي الله عليه وسلم فيهم بل أنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} 2 فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم. وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته.
وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عبّاد القبور في الأولياء والصالحين. بل في الطواغيت من أنهم ينفعون من دعاهم، ويمنعون من لاذ بحماهم. فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب. وذلك عدله سبحانه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وبه الحول والقوة.
قوله: وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3 قال: " قام رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال:
يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم
1 البخاري: المغازي (4070)، والترمذي: تفسير القرآن (3005) ، وأحمد (2/118) .
2 سورة آل عمران آية: 128.
3 سورة الشعراء آية: 214.
من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " 1.
قوله: "وفيه" أي وفي صحيح البخاري.
قوله: "عن أبي هريرة" اختلف في اسمه. وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال:"كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن". وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلي الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دَوْسِي من فضلاء الصحابة وحفاظهم، حفظ عن النبي صلي الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره2 مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
قوله: "قام رسول الله صلي الله عليه وسلم" في الصحيح من رواية ابن عباس: " صعد رسول الله صلي الله عليه وسلم على الصفا ".
قوله: "حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3" عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته؛ لأنهم أحق الناس ببرِّك وإحسانك الديني والدنيوي; كما قال
قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا.
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 4. وقد أمره الله تعالى أيضا بالنذارة العامة، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 5. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} 6.
1 البخاري (4771) في تفسير سورة الشعراء باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) . وفي الوصايا: (2753) باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب.
2 روى البخاري في أول البيوع عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وأن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخواني من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه: أنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء".
3 سورة الشعراء آية: 214.
4 سورة التحريم آية: 6.
5 سورة يس آية: 6.
6 سورة إبراهيم آية: 44.
قوله: "يا معشر قريش" المعشر الجماعة.
قوله: "أو كلمة نحوها" هو بنصب "كلمة" عطف على ما قبله.
قوله: "اشتروا أنفسكم" أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب؛ فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب.
قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا"1 فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه؛ فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى، وأقام نبيه صلي الله عليه وسلم بالإنذار عنه، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3. فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى. وفي صحيح البخاري: " يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ".
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب" بنصب "بن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب. وكذا في قوله: " يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد ".
1 في قرة العيون: هذا هو معنى ما تقدم من أنه تعالى هو المتصرف فى خلقه بما شاء مما اقتضته حكمته في خلقه وعلمه بهم، والعبد لا يعلم إلا ما علمه الله، ولا ينجو أحد من عذابه وعقابه إلا بإخلاص العبادة له وحده والبراءة من عبادة ما سواه. كما قال تعالى:(5: 72)(إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنذر الأقربين نذارة خاصة، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، وبلغهم وأعذر إليهم. فأنذر قريشا ببطونها وقبائل العرب في مواسمها، وأنذر عمه وعمته وابنته وهم أقرب الناس إليه، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا لم يؤمنوا به ويقبلوا ما جاء به من التوحيد وترك الشرك به، وسائر شرائع الإسلام وعباداته.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة يونس آية: 18.
قوله: "سليني من مالي ما شئت". 1 بيّن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل والصالح.
وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا. وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى; فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى. وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن غيرهم يتبين لك أنهم ليسوا على شيء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2 أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولاريب أن محبة الصالحين إنما تحصل
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين 3.
الثانية: قصة أُحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمّنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها شجّهم نبيهم وحرصهم على قتله. ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4.
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} 5 فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعن المعيّن في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلي الله عليه وسلم لما أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 6.
الثانية عشرة: جده صلي الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: لا أغني عنك من الله شيئا حتى قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلي الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين.
1 في قرة العيون: لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلى الله عليه وسلم، وما كان أمره إلى الله سبحانه فلا قدرة لأحد عليه كما في هذا الحديث، ولما مات أبو طالب وكان يحوط رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحميه ولم ينكر ملة عبد المطلب من الشرك بالله، وقال صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "، فأنزل الله تعالى:(9: 113)(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) فأخبر أن أبا طالب من أصحاب النار لما مات على غير شهادة أن لا إله إلا الله، فلم ينفعه حمايته النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون من المشركين، ولا الاعتراف بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق بدون البراءة من الشرك؛ لأنه لم يبرأ من ملة أبيه، فكل تعلق على غير الله من طلب شفاعة أو غيرها شرك بالله يكون عليه وبالا في الدنيا والآخرة، والشفاعة لا تكون إلا لأهل الإخلاص خاصة، كما قال تعالى:(6: 51)(وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) . والآيات في هذا المعنى كثيرة وكذلك الأحاديث والله أعلم. وسيأتي في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
2 سورة الأعراف آية: 30.
3 يعني قوله تعالى: (لا يستطيعون لهم نصرا) وقوله: (ما يملكون من قطمير) ؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يغني عن قرابته شيئا. فغيره أولى ان يعجز عن ضر أو نفع لنفسه أو لغيره.
4 سورة آل عمران آية: 128.
5 سورة آل عمران آية: 128.
6 سورة الشعراء آية: 214.
بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق: "ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أُمر به وهو محض التوحيد، فقال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ
1 سورة المائدة آية: 116-117.
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم" اهـ.
قلت: ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه إلا من آمن، فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقّصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه، واتبع فيه رسله عليهم السلام، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية، وتنقّص للإلهية وسوء ظن برب العالمين؟
والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرءوا من كل مشرك ويكفروا به، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 1.
1 سورة الأنعام آية: 149.