الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السابعة: التنبيه للشرط في حديث عتبان 1.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
1 هو قوله: "يبتغي بها وجه الله" ومن قالها يبتغي بها وجه الله لابد أن يعمل ويخلص عمله لله.
باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
"
قوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" أي ولا عذاب.
"قلت": تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي 1.
_________
1 في قرة العيون: وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه كما قال تعالى في يوسف عليه السلام: 24: 12 (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) بفتح اللام، وفي قراءة (المخلصين) بكسرها، وهم في صدر هذه الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء، وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله عليه السلام: 6: 78 ، 79 (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق (حنيفا) أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد. ولهذا قال:(وما أنا من المشركين)، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. كقوله:(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا)، وقال تعالى:(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى في الآية: يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه، ولهذا قال:(وهو محسن) أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر. فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله كما تقدم في الباب قبل هذا.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:
الأولى: أنه كان أمة; أي قدوة وإماما معلما للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
الثانية: قوله: "قانتا" قال شيخ الإسلام: "القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 4 " اهـ ملخصا.
الثالثة: أنه كان حنيفا "قلت" قال العلامة ابن القيم: " "الحنيف" المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه". اهـ.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك3.
1 سورة النحل آية: 120.
2 سورة الزمر آية: 9.
3 قال العلامة ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة في الوجه 147 من فضل العلم: "إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله: (إن إبراهيم كان أمة) الآية. فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه "أمة" وهو القدوة الذي يؤتم به. قال ابن مسعود: "الأمة: المعلم للخير" وهي فعلة- بضم الفاء- من الائتمام كالقدوة، وهو الذي يقتدى به. والفرق بين "الأمة" و "الإمام" من وجهين: أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به، سواء كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمي الطريق إماما. كقوله تعالى: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) أي بطريق واضح لا يخفى على السالك. ولا يسمى الطريق أمة. الثاني: أي "الأمة" فيه زيادة معنى. وهو الذي جمع صفات الكمال في العلم والعمل، وهو الذي بقي فيها فردا وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره. ولفظ "الأمة" يشعر بهذا المعنى ، لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضم أوله. فإن الضمة من الواو ومخرجها، فيضم عند النطق بها. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة. ومنه الحديث: "إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده" فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة. ومنه سميت الأمة التي هي آحاد الأمم ، لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد أو في عصر واحد. الثاني: قوله: "قانتا" قال ابن مسعود: "القانت": المطيع. والقنوت يفسر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة. الثالث: قوله: "حنيفا" والحنيف: المقبل على الله. ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه، فالميل لازم معنى الحنيف، لا أنه موضوعه لغة. الرابع: قوله: "شاكرا لأنعمه" والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب. فلا يكون العبد شاكرا إلا بهذه الثلاثة. والمقصود: أنه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه". اهـ.
وقال في قرة العيون: قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. و"الأمة" هو الإمام الذي يقتدى به. و"القانت" هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال:(ولم يك من المشركين) . وقال مجاهد: كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار. قلت: وكلا القولين حق. فقد كان الخليل عليه السلام كذلك. وقول مجاهد - والله أعلم - لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام ، فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين; كما قال تعالى: 41: 19 ، 42 (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) الآيات (43-50) وقوله 83: 37 ، 84 (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) الآيات 85-113) فهذا - والله أعلم - كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره. وبذلك جاء الحديث. وقوله:(ولم يك من المشركين) فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته وكسر الأصنام، وصبر على ما أصابه في ذات الله. وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه. كما قال تعالى: 131: 12 (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وأنت تجد أكثر من يقول "لا إله إلا الله" ويدعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته. بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم، ويخافهم ويرجوهم، وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة، ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه، وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته فالله المستعان.
قلت: يوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 1 أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير - رحمه الله تعالى -:{إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} 3 فهذا هو تحقيق التوحيد. وهو البراءة من الشرك وأهله، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان.
قال المصنف رحمه الله في هذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 4 لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين {قَانِتاً لِلَّهِ} لا للملوك ولا للتجار المترفين {حَنِيفًا} لا يميل يمينا ولا شمالا; كفعل العلماء المفتونين {لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 خلافا لمن
كثر سوادهم وزعم أنه
1 سورة الممتحنة آية: 4.
2 سورة الممتحنة آية: 4.
3 سورة مريم آية: 48-49.
4 سورة النحل آية: 120.
5 سورة النحل آية: 120.
من المسلمين". اهـ.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 1 على الإسلام. ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم: من أنه كان إماما يقتدى به في الخير.
قال: وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 23.
1 سورة النحل آية: 120.
2 سورة المؤمنون آية: 57-58-59.
3 في قرة العيون: قال العماد ابن كثير: أي مع إحسانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله وخائفون وجلون من مكره بهم; كما قال الحسن البصري: "المؤمن من جمع إحسانا وشفقا، والمنافق من جمع إساءة وأمنا". (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون)، أي يؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية لقوله تعالى عن مريم: 12: 66 (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) ، أي أيقنت أن ما كان فهو من قدر الله وقضائه، وما شرعه الله إن كان أمرا فهو ما يحبه الله ويرضاه، وإن كان نهيا فهو ما يكرهه ويأباه، وإن كان خبرا فهو حق.
وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلت: قوله: "حسنت وكملت" هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم.
قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له1.
قال المصنف: عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال:"أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:
" عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
1 في قرة العيون: فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد ومعرفته على الحقيقة ومحبته وقبوله والدعوة إليه، كما قال تعالى:(قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) ، وتضمنت هذه الآية كمال التوحيد وتحقيقه وبالله التوفيق.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة ".
هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي.
عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟
قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن" هو السلمي، 1 أبو الهذيل الكوفي. ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
وسعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة. وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.
قوله: "انقض" هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط. "والبارحة" هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال.
قوله: "أما إني لم أكن في صلاة" قال في مغنى اللبيب: "أما" بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" فإذا وقعت "أن" بعدها كسرت. الثاني: أن تكون بمعنى حقا، أو أحق. وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام و "ما" اسم بمعنى شيء، أي أذلك الشيء حق، فالمعنى أحق هذا؟ وهو الصواب. و "ما" نصب على الظرفية، وهذه تفتح "أن" بعدها". انتهى.
والأنسب هنا هو الوجه الأول، والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه
1 في قرة العيون: الحارثي، من تابعي التابعين. عن الشعبي.
وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.
قوله: "ولكني لدغت" بضم أوله وكسر ثانيه. قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.
قوله: "قلت: ارتقيت" لفظ مسلم: "استرقيت" أي طلبت من يرقيني.
قوله: "فما حملك على ذلك" فيه طلب الحجة على صحة المذهب.
قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال: قد أحسن من انتهى إلى ما
قوله: "حديث حدثناه الشعبي" اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم1 مات سنة ثلاث ومائة.
قوله: "عن بريدة" بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة. ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد.
قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة ". وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا. قال الهيثمي: "رجال أحمد ثقات"2.
والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه. والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها.
قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلي الله عليه وسلم ورقي.
قوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أولا يعمل بما يعلم؛ فإنه مسيء آثم. وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم 3.
1 روى عن عمر وعلي وابن مسعود ولم يسمع منهم. وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق. قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء. يعني أنه كان معتنيا بالحفظ.
2 صحيح: أحمد (4/436) . وأبو داود: كتاب الطب (3384) : باب في تعليق التمائم: والترمذي: كتاب الطب (2057) : باب ما جاء في الرخصة في الرقية عن عمران بن حصين وإسناده صحيح كما قال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/162) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (7373) وتخريج المشكاة (4557) ورواه مسلم (220)(374) عن بريدة موقوفا. وهو عند ابن ماجة عنه (3513) مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي "سيئ".
3 في قرة العيون: فيه حسن الأدب مع العلم وأهله، وأن من فعل شيئا سئل عن مستنده في فعله هل كان مقتديا أم لا؟ ومن لم يكن معه حجة شرعية فلا عذر له بما فعله، ولهذا ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد ليس من أهل العلم. فتفطن لهذا.
قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس" هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم. دعا له فقال:" اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " 1 فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف رحمه الله "وفيه عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني".
قوله: "عرضت علي الأمم" وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن "أن ذلك كان ليلة الإسراء"2. قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضا. "قلت" وفي هذا نظر 3.
النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه،
قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط" والذي في صحيح مسلم "الرهيط" بالتصغير لا غير; وهم الجماعة دون العشرة. قاله النووي.
قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان; والنبي وليس معه أحد" فيه الردعلى من احتج بالكثرة 4.
1 رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه.
2 صحيح: الترمذي: كتاب صفة القيامة (2446) : باب (16) وقال الترمذي: حسن صحيح والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/410) .
3 في قرة العيون: فالله أعلم متى عرضت، وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم. فمن نجا بالإيمان بالله وما بعث به أنبياءه ورسله من دينه الذي شرعه لهم، وهو عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، والأخذ بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه كما قال تعالى عن قوم نوح: 71: 2 (قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فعبادته وتوحيده وطاعته بامتثال ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، وطاعة رسوله. هذا هو الدين، أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فعلا وتركا، وأن يقدم طاعة رسوله على ما يحبه ويهواه.
4 في قرة العيون: أي يبعث في قومه فلا يتبعه منهم أحد كما قال تعالى: 15: 10 (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) وفيه دليل على أن الناجي من الأمم هم القليل، والأكثرون غلبت عليهم الطبائع البشرية فعصوا الرسل فهلكوا; كما قال تعالى: 6: 16 (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وقال: 101: 7 (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) وقال: 42: 30 (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والناجون- وإن كانوا أقل القليل- فهم السواد الأعظم؛ فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا. فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة وقد اغتر بهم كثيرون حتى بعض من يدعي العلم، اعتقدوا في دينهم ما يعتقده الجهال الضلال ولم يلتفتوا إلى ما قاله الله ورسوله.
قوله: "إذ رفع لي سواد عظيم" المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
قوله: "فظننت أنهم أمتي"؛ لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة. وفي صحيح مسلم: "ولكن انظر إلى الأفق" ولم يذكره المصنف; فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم.
قوله: "فقيل له: هذا موسى وقومه" أي موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه: اتباعه على دينه من بني إسرائيل1.
فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون
1 في قرة العيون: فيه فضيلة اتباع موسى من بني إسرائيل ممن آمن منهم بالرسل. والكتب التي أنزلها الله: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان وغيرها. وكانت بنو إسرائيل قبل التفرق كثيرين وفيهم الأنبياء، ثم بعد ذلك حدث ما حدث من اليهود، وهذا الحديث يدل على أن التابع لموسى عليه السلام كثيرون جدا، وقد قال تعالى: 45: 16 (وفضلناهم على العالمين) ، أي في زمانهم. وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر بالله خلقا لا يحصون، كحزب جالوت وبختنصر وأمثالهم. ففضل الله بني إسرائيل بالإيمان فصاروا أفضل أهل زمانهم، وحدث فيهم ما ذكر الله في سورة البقرة وغيرها من معصيتهم لأنبيائهم واختلافهم في دينهم، وقد ذكره الله تعالى محتجا به على اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتدبر ما ذكره الله تعالى من أحوالهم بعد الاختلاف.
قوله: "فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، أي لتحقيقهم التوحيد، وفي رواية ابن فضيل:"ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا". وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين: "أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة: "فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا". قال الحافظ: وسنده جيد12.
قوله: "ثم نهض" أي قام. قوله: "فخاض الناس في أولئك" خاض بالخاء والضاد المعجمتين. وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه
صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون،
الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. وفيه حرصهم على الخير. ذكره المصنف3.
قوله: "فقال: هم الذين لا يسترقون" هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد. وفي رواية لمسلم:
"ولا يرقون" قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
1 صحيح: أحمد (2/359) : وقال الحافظ في الفتح (11/410) : "وسنده جيد" ا. هـ وصححه الألباني في الصحيحة (1486) لشواهده.
2 في قرة العيون: فيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد كثروا في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، فملأوا القرى والأمصار والقفار، وكثر فيهم العلم، واجتمعت لهم الفنون في العلوم النافعة، فما زالت هذه الأمة على السنة في القرون الثلاثة المفضلة، وقد قلوا في آخر الزمان. قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مسائله:((وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، فالكمية الكثرة والعدد، والكيفية فضيلتهم في صفاتهم)) .
3 في قرة العيون: وفيه أيضا فضل الصحابة رضي الله عنهم في مذاكرتهم العلم وحرصهم على فهم ما حدثهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم حرصا على العمل به، وفيه جواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل؛ لأنهم قالوا ما قالوا باجتهادهم، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، لكن المجتهد إذا لم يكن معه دليل لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه، بل يقول: لعل الحكم كذا وكذا كقول الصحابة رضي الله عنهم في هذا الحديث.
هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلي الله عليه وسلم "ولا يرقون"، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرقي -:" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " 1 وقال: " لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا " 2 قال: وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلي الله عليه وسلم ورقى النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه3 قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل; فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم4.
قوله: "ولا يكتوون" أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم; استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء.
قلت: والظاهر أن قوله: "لا يكتوون" أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم. أما الكي في نفسه فجائز كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله: " أن النبي صلي الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه "5.
وفي صحيح البخاري عن أنس: 6 " أنه كوى من ذات الجنب7 والنبي صلي الله عليه
1 رواه مسلم والإمام أحمد وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه.
2 رواه مسلم وأبو داود عن عوف بن مالك.
3 رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من السحر; كما في البخاري من حديث عائشة. وقد ثبت في البخاري وغيره رقى كثيرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة وأنس وابن مسعود وغيرهم.
4 في قرة العيون: فتركوا الشرك رأسا، ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فيما فوقها، وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء، والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويضهم أمورهم إليه، وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبره وقضاه. فلا يرغبون إلا إلى ربهم، ولا يرهبون إلا منه، ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم، فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم. قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: 12: 86 (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) .
5 مسلم: السلام (2207)، وأبو داود: الطب (3864)، وابن ماجه: الطب (3493) ، وأحمد (3/315) .
6 مسلم: كتاب السلام (2207)(73) : باب لكل داء دواء واستحباب التداوي.
7 قال في النهاية: ((ذات الجنب: الدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وينفجر إلى داخل. وقلما يسلم صاحبها)) اهـ. ولعلها: السل والله أعلم.
وسلم حي " وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم " كوى أسعد بن زرارة من الشوكة "12.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي "3. وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوي4".
قال ابن القيم رحمه الله: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
"أحدها" فعله.
"والثاني" عدم محبته.
"والثالث" الثناء على من تركه.
"والرابع" النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
قوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
قوله: " وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به ربا وإلها، والرضا بقضائه.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا; فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه; بل نفس التوكل: مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 5 أي كافيه. وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها; توكلا على الله
تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببا مكروها، لا سيما والمريض يتشبث - فيما يظنه سببا لشفائه - بخيط العنكبوت.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا
1 قال في النهاية، الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد.
2 صحيح: الترمذي: كتاب الطب (2050) : باب ما جاء في الرخصة في ذلك. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وابن حبان (1404- موارد) . وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/101) : "إسناده ثقات" اهـ.
3 البخاري: الطب (5680)، وابن ماجه: الطب (3491) ، وأحمد (1/245) .
4 البخاري: كتاب الطب (5680)، (5681) : باب الشفاء في ثلاث.
5 سورة الطلاق آية: 3.
يكون تركه مشروعا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا:" ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله " 1 وعن أسامة بن شريك قال:. " كنت عند النبي صلي الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم. يا عباد الله تداووا; فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو; قال: الهرم " رواه أحمد 2.
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا".
وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب؟.
فالمشهور عن أحمد: الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفر قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: "ليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد".
فقوله: "فقام عكاشة بن محصن" هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن حرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة -
1 ابن ماجه: الطب (3438) ، وأحمد (1/377) .
2 البخاري: كتاب الطب (5678) ; باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء وليس عنده جملة "علمه من علمه وجهله من جهله) . وإنما هي عند أحمد (1/377 ، 413 ، 453) من طرق وصححها الألباني في الصحيحة (451) . وأما مسلم: فقد رواه من حديث جابر بلفظ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله) . مسلم: كتاب السلام (2204)(69) : باب لكل داء دواء.
الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال. هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد ابن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.
قوله: "فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم" وللبخاري في رواية: "فقال: اللهم اجعله منهم". وفيه: طلب الدعاء من الفاضل1.
قوله: "ثم قام رجل آخر" ذكره مبهما ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه2.
قوله: "فقال: سبقك بها عكاشة" قال القرطبي: "لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك". اهـ.
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
1 في قرة العيون: فيه أن شفاعة الحي لمن سأله الدعاء إنما كانت بدعائه، وبعد الموت قد تعذر ذلك بأمور لا تخفى على من له بصيرة، فمن سأل ميتا أو غائبا فقد سأله ما لا يقدر عليه إلا الله، وكل من سأل أحدا ما لا يقدر عليه إلا الله فقد جعله ندا لله كما كان المشركون كذلك. وقال تعالى 2: 22 (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) ، أنه ربكم وخالقكم ومن قبلكم، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فلا ترغبوا عنه إلى غيره، بل أخلصوا له العبادة بجميع أنواعها فيما تطلبونه من قليل أو كثير. وقوله:"أنت منهم" لما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من إيمانه وفضله وجهاده كما في الحديث: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ".
2 في قرة العيون: والظاهر أنه أراد - صلوات الله وسلامه عليه - سد الذريعة؛ لئلا يتتابع الناس بسؤال ذلك فيسأله من ليس أهلا له. وذلك منه صلى الله عليه وسلم تعريض كما لا يخفى.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه – عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القبلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن كذا وكذا". فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلي الله عليه وسلم.