الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التاسعة عشرة: قوله: " لأعطين الراية" ألخ علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة لقوله: " أخبرهم بما يجب ".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا
قال النووي: "وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام; وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها".
وفيه: فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف.
باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
"
قوله: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله".
قلت: هذا من عطف الدال على المدلول1.
_________
1 في قرة العيون: لأن التوحيد هو معنى هذه الكلمة العظيمة، وذلك يتبين بما ساقه من الآيات والحديث؛ لما فيها من زيادة البيان وكشف ما أشكل من ذلك، وإقامة الحجة على من غلط في معنى "لا إله إلا الله " من أهل الجهل والإلحاد.
فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى "لا إله إلا الله" وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 1 وسابقها ولاحقها. وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة؟.
قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة. وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم؛ لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 2. أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد، وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده. وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له.
و"الدعاء مخ العبادة"3.
وفي هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كاز المدعو نبيا أو ملكا. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنا من كان؛ لأن دعوته تجعل داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 45 يبين أن هذا
1 سورة الإسراء آية: 23.
2 سورة الإسراء آية: 56.
3 ضعيف: لفظ حديث ضعيف أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات (3371) : باب ما جاء في فضل الدعاء وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (1 233) وضعيف الجامع (3003) . (*) رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4 سورة الإسراء آية: 57.
5 في قرة العيون: أي أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين كالمسيح وأمه والعزير، فهؤلاء دينهم التوحيد وهو بخلاف من دعاهم من دون الله ووصفهم بقوله:(يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) ، فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له وطاعته فيما أمر، وترك ما نهاهم عنه. وأعظم القرب التوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله، وأوجب عليهم العمل به والدعوة إليه، وهذا الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله:(ويرجون رحمته ويخافون عذابه) ، فلا يرجون أحدا سواه ولا يخافون غيره، وذلك هو توحيده؛ لأن ذلك يمنعهم من الشرك، ويوجب لهم الطمع في رحمة الله والهرب من عقابه، والداعي لهم - والحالة هذه - قد عكس الأمر، وطلب منهم ما كانوا ينكرون من الشرك بالله في دعائهم لمن كانوا يدعونه من دون الله. ففيه معنى قوله: 35: 14 (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) وقوله: 46: 6 (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) . وفيه: الرد على من ادعى أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام، وتبين بهذه الآية أن الله تعالى أنكر على من دعا معه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة ومن دونهم، وأن دعاء الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر هو من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وأن ذلك ينافي ما دلت عليه كلمة الإخلاص. فتدبر هذه الآية العظيمة يتبين لك التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، فإنها نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه والعزير، فهم المعنيون بقوله:(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) . ثم بين تعالى أن هؤلاء المشركين قد خالفوا من كانوا يدعونه في دينه فقال: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) وقدم المعمول لأنه يفيد الحصر، يعني يبتغون إلى ربهم الوسيلة لا إلى غيره. وأعظم الوسائل إلى الله تعالى التوحيد الذي بعث به الله أنبياءه ورسله، وخلق الخلق لأجله. ومن التوسل إليه: التوسل بأسمائه وصفاته، كما قال تعالى: 7: 180 (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وكما ورد في الأذكار المأثورة من التوسل بها في الدعوات كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام)، وقوله:(اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد) وغير ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة التي لم يشبها شرك. فالتوسل إلى الله هو بما يحبه ويرضاه، لا بما يكرهه ويأباه من الشرك الذي نزه نفسه عنه بقوله:(سبحان الله عما يشركون) وقوله: (سبحان الله وما أنا من المشركين) وقوله في الإنكار على من اتخذ الشفعاء 10: 18 (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير يأمر عباده بإخلاص العبادة له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، ويعظم عقوبته كما قد جرى على الأمم المكذبة للرسل فيما جاءوهم به من التوحيد والنهي عن الشرك. فأوقع الله تعالى بهم ما أوقع كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم؛ فإنهم عصوا الرسل فيما أمروهم به من التوحيد وتمسكوا بالشرك، وقالوا لنوح: 11: 27 (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) . وقالوا لهود: 11: 53 (ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) الآيات. وقالوا لصالح: 11: 62 (قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) . وقالوا لشعيب 11: 87 (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) . فتدبر ما قص الله تعالى في كتابه مما دعت إليه الرسل وما أوقع بمن عصاهم؛ فإن الله تعالى أقام به الحجة على كل مشرك إلى يوم القيامة. وأما ما ورد في معنى الآية عن ابن مسعود قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم". فإنه لا يخالف ما تقدم؛ لأن هذه الآية حجة على كل من دعا مع الله وليا من الأولين والآخرين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآية: "وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة والجن أو من البشر.
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1.
سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين. قال قتادة: " تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه "
1 سورة الإسراء آية: 57.
وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1. قال العماد ابن كثير: "وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين". وذكره عن عدة من أئمة التفسير.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب، وهو ابتغاء التقرب إليه. والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف. وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلي الله عليه وسلم:"والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة " وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق2 من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " 3 وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}
1 يعني أن جميع الصالحين الذين يدعوهم المشركون ويستغ يثون بهم إما توسلا إلى الله ليقضي حوائجهم، وإما استقلالا، بأن يطلبوا منهم قضاء الحاجة معتقدين بأن الله وهبهم التكوين والتصرف، أولئك الصالحون مشتغلون بأنفسهم يدعون الله لها ويتوسلون إليه بعبادته مخلصين له الدين خائفين عذابه راجين رحمته، وإذا لم يملكوا لأنفسهم نفعا ولا دفع ضر، فكيف يملكون لغيرهم ضرا أو نفعا؟ .
2 الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق، واحدتها صوة - كقوة- أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها.
3 حسن: أحمد (5/3)"من طريق أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه وليس عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده كما وهم ابن القيم وإسناده حسن ". أفاده الدوسري في النهج السديد (328) ورواه الحاكم (1/ 21) بمعناه من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني في الصحيحة لطرقه (333) وفي تخريج الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام رقم (3) .
(وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 1 أي "لا إله إلا الله".
فتدبر كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له2 من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج: كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها من الأوثان والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها. ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة. كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 4. فكل عبادة يقصد بها غير الله: من دعاء وغيره فهي باطلة، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} 5.
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
1 سورة الزخرف آية: 26-27-28.
2 في قرة العيون: فعبر عن المنفي بها قوله: (إنني براء مما تعبدون) وعبر عما أثبتته بقوله: (إلا الذي فطرني) فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك. فما أحسن التفسير لهذه الكلمة وما أعظمه. قال العماد ابن كثير في قوله تعالى:(وجعلها كلمة باقية في عقبه) : أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله; جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه (لعلهم يرجعون) أي إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله:(وجعلها كلمة باقية في عقبه) . يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها.
3 سورة التوبة آية: 31.
4 سورة الحج آية: 62.
5 سورة غافر آية: 73-74.
ابْنَ مَرْيَمَ ْ1} 2 وفي الحديث الصحيح:
أن النبي صلي الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: " يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلي الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم "34.
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله.
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 5 فكل من اتخذ ندا لله يدعوه من دون الله، ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم
1 الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى في الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) فصار ذلك عبادة لهم. وجعلوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله; فاتخذوهم بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية. وقال تعالى: 3: 80 (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) .
2 في قرة العيون: أي اتخذوه ربا بعبادتهم له من دون الله. وقال تعالى: 5: 117،116 (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتي كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) . فمن تدبر هذه الآيات تبين له معنى "لا إله إلا الله "، وتبين له التوحيد الذي جحده أكثر من يدعي العلم في هذه القرون وما قبلها من متأخري هذه الأمة، وقد عمت البلوى بالجهل بعد القرون الثلاثة لما وقع الغلو في قبور أهل البيت وغيرهم وبنيت عليها المساجد، وبنيت لهم المشاهد، فاتسع الأمر وعظمت الفتنة في الشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة. فبهذه الأمور التي وقع فيها الأكثر، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس ".
3 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3095) : باب ومن سورة التوبة. والبيهقي (10/ 116) وعزو الحديث لأحمد وهم كما أفاده الدوسري. والحديث حسنه الألباني في غاية المرام ص (20) .
4 رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير مطولا.
5 سورة البقرة آية: 165.
لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى1.
ويقولون "لا إله إلا الله" ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا:"لا إله إلا الله" فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقا في قولها؛ لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضا؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله؛ كما في الحديث. بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله.
فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين. فتدبر.
1 هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة؛ لأن حب الله لا يكون إلاعن معرفة بالله بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها - والله أعلم -: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها، مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله، والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. وقال في قرة العيون: الأنداد: الأمثال والنظراء، كما قال العماد ابن كثير وغيره من المفسرين. فكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه أو رهبة منه، فقد اتخذه ندا لله؛ لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -:((فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه أي مع الله بعبادته له، وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله وسوله أحب إليه مما سواهما، وأن لا تكون محبته لغير الله، فلا يحب إلا الله; كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار" ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها. ويصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر- بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة؛ فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه. وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة; كما لا مثيل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا، وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان، ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في المحبة الخاصة كان شركا لا يغفره الله كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) . والصحيح أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم; كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. انتهى.
2 سورة البقرة آية: 165.
قال: وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 2.
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: " قل " يا محمد3 للمشركين الذين عبدوا غير الله {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم؛ فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي بالكلية " ولا تحويلا " أي ولا أن يحولوه إلى غيركم.
والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في الآية:" كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون. يعني الملائكة والمسيح وعزيرا ".
1 سورة الإسراء آية: 57.
2 سورة الإسراء آية: 56.
3 يستعمل المفسرون هذا الخطاب كثيرا; تفسيرا لخطاب الله. ولكن يلاحظ أن الله لم يخاطب رسوله ولا مرة واحدة بهذا الخطاب "يا محمد"، بل كل خطاب الله "يا أيها النبي يا أيها الرسول " فينبغي أن يكون ذلك كذلك; والله أعلم.
وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا. وفي رواية: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم "1.
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: "عيسى وأمه وعزير". وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: "هم عيسى وعزير والشمس والقمر". وقال مجاهد: "عيسى وعزير والملائكة".
وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3 لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك: فإما أن يكون خائفا وإما أن يكون راجيا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في هذه الآية، لما ذكر أقوال المفسرين:"وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر. والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا. فيقول: هذا. فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن; فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة، فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله" اهـ.
وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحا ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئا، الشرك عبادة الأصنام.
قال: وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي}
1 أما الرواية الأولى فهي في البخاري: كتاب التفسير (4715) : باب (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) . وأما الرواية الثانية: ففي البخاري: كتاب التفسير (4714) : باب "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه".
2 سورة الزخرف آية: 26-27-28.
3 سورة الإسراء آية: 57.
الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها
ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي "لا إله إلا الله"2 جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها.
وروى ابن جرير عن قتادة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} قال: كانوا يقولون: الله ربنا. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4 قال: " الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده ". قلت: فتبين أن معنى "لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه. قال المصنف رحمه الله "وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله". وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى
…
طرا تولاه العظيم الشان"
قال: وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 الآية. الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلي الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية. قال: فقلت:
" إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى. إنهم حرموا عليهم
1 سورة الزخرف آية: 26-27.
2 فإن " لا إله إلا الله " مطابقة لقوله: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) ؛ لأن كلتيهما مركبة من جملتين: نفي، وهي "لاإله" و"إنني براء مما تعبدون" وإثبات: وهي "إلا الله " و"الذي فطرني " فينبغي أن يلاحظ المسلم عند نطقه بكلمة الشهادة ذلك ويحققه علما وعملا.
3 سورة الزخرف آية: 87.
4 سورة الزخرف آية: 28.
5 سورة التوبة آية: 31.
الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق1.
قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، فإن " الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله ".
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله. وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه ربا ومعبودا وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"؛ فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أربابا، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 3 أي شركاء لله تعالى في العبادة {يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 4 وهذا هو الشرك. فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع المتبع ربا ومعبودا; كما قال تعالى في آية الأنعام:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 5. وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 6 والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في معنى قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} : "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يكونون على وجهين أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله؛ اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله; كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" إنما الطاعة في المعروف "7.
1 تقدم تخريجه برقم (80) .
2 سورة التوبة آية: 31.
3 سورة آل عمران آية: 80.
4 سورة آل عمران آية: 80.
5 سورة الأنعام آية: 121.
6 سورة الشورى آية: 21.
7 البخاري: كتاب المغازي (4340) : باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي. كتاب أخبار الآحاد (7257) : باب ما جاء في إجازة الخبر الواحد، كتاب الأحكام (7145) : باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. ومسلم: كتاب الإمارة (1840)(40) : باب وجوب طاعة الأمراء من غير معصية الله.
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} 2 الآية. وقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التقصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة.
وأما من قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؟ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث:"إن يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب"4. انتهى.
وقال أبو جعفر ابن جرير في معنى قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً} 5 "أي وتجعلون لمن خلق ذلك أندادا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله". انتهى.
قلت: كما هوالواقع من كثير من عباد القبور.
قال: وقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 6 الآية.
1 سورة آل عمران آية: 199.
2 سورة المائدة آية: 83.
3 سورة الأعراف آية: 159.
4 صحيح. جزء من حديث طويل رواه ابن ماجة: كتاب الفتن (3989) : باب من ترجى له السلامة من الفتن. وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (4/185) . وأخرجه الحاكم (1/4) من طريق آخر وقال: صحيح لا علة له ووافقه الذهبي. وهو كما قالا وراجع النهج السديد ص (329) .
5 سورة فصلت آية: 9.
6 سورة البقرة آية: 165.
قال العماد ابن كثير رحمه الله: "يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: " يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2 ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك. فقال تعالى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} 3. قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 4. كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} 5. يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لاتنهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين. فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} 6 تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة7:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} 8. ويقولون:
1 تقدم تخريجه برقم (15) .
2 سورة البقرة آية: 165.
3 سورة البقرة آية: 165.
4 سورة البقرة آية: 165.
5 سورة الفجر آية: 25-26.
6 سورة البقرة آية: 166.
7 قال العماد ابن كثير في تفسير سورة القصص: ((وقوله تعالى: (وقال الذين حق عليهم القول) يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) فشهدوا عليهم أنهم أغووهم، ثم تبرأوا من عبادتهم)) اهـ. والدعاة إلى الكفر: هم من بني آدم ممن كانوا رؤساء وشيوخا لأولئك الغاوين كأصحاب الطرق الصوفية، فإنهم الذين زينوا لمريديهم ومتبوعيهم الشرك والكفر بالله ورسوله. فإن أساس طرقهم الشيطانية: أن يعبد المريد شيخه بأنواع التعظيم والخوف واعتقاد أنه جاسوس قلبه يدخل ويخرج والمريد لا يشعر. وأنه قبل أن يذكر الله يستحضر الشيخ في قلبه. ويعظمونهم بأنواع الطاعة العمياء أحياء وأمواتا- كما هو مدون في كتبهم- من شروط المريد وما يسمونه العهد الوثيق. وتجد أكثر هذا الكفر والضلال في كتب الشعراني. وأما آيات سورة الأحقاف فإنها صريحة في أن الذين يكفرون بشرك المشركين: هم من عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة بعد موتهم، واتخذوا قبورهم أوثانا، وما كانوا يحبون ذلك ولا يرضون به; من أمثال الحسين وإخوته وأبيه وأبنائهم، والإمام الشافعي في مصر، وأبي حنيفة وعبد القادر في بغداد ونحوهم، فإنهم يتبرأون يوم القيامة من أولئك المشركين.
8 سورة القصص آية: 63.
{سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1. والجن أيضا يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2" انتهى كلامه.
روى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} 3 مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 4 من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله. فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ " اهـ.
ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة واتخذه ندا من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 5. وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} 6 المراد بالظلم هنا الشرك. كقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 7 كما تقدم. فمن أحب الله وحده، وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك; كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 8
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبا له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى. فكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" تنفي كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى. وقد تقدم بيان أن "الإله هو المألوه الذي تألهه
1 سورة سبأ آية: 41.
2 سورة الأحقاف آية: 5-6.
3 سورة البقرة آية: 165.
4 سورة البقرة آية: 165.
5 سورة البقرة آية: 167.
6 سورة البقرة آية: 165.
7 سورة الأنعام آية: 82.
8 سورة البقرة آية: 21-22.
القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة" فلا إله إلا الله، نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده. فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلا بد من معرفة معناها واعتقاده وقبوله، والعمل به باطنا وظاهرا والله أعلم.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه أي مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب: أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمي عشقا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه " 1 الحديث 2. ومحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كنت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة؛ كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد. وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا. وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3. والصحيح: أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته. وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. ومن ضرب لمحبته
1 البخاري: الإيمان (16)، ومسلم: الإيمان (43)، والترمذي: الإيمان (2624)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ،4988 ،4989)، وابن ماجه: الفتن (4033) ، وأحمد (3/103 ،3/113 ،3/172 ،3/174 ،3/176 ،3/206 ،3/230 ،3/248 ،3/251 ،3/272 ،3/275 ،3/278 ،3/288) .
2 رواه البخاري عن أنس بلفظ: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
3 سورة البقرة آية: 165.
الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر والتجني بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا، فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت". انتهى.
وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " قوله في الصحيح: أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم فذكره.
وأبو مالك: اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة. وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم:"لم يرو عنه غير ابنه".
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي مالك قال: وسمعته يقول للقوم: " من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل " ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه. ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبي - الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر "لا إله إلا الله".
قوله: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله " اعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول "لا إله إلا الله" عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى. بل لا بد من قولها والعمل بها1.
قلت: وفيه معنى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 2.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل
1 في قرة العيون: فيه دليل أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله فدمه وماله حلال؛ لكونه لم ينكر الشرك ويكفر به، ولم ينفه كما نفته لا إله إلا الله. فتأمل هذا الموضوع فإنه عظيم النفع.
2 سورة البقرة آية: 256.
التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع! " انتهى.
قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: "لا إله إلا الله" فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلا. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1.
وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " 3 وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال:"لا إله إلا الله" ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمفتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون:"لا إله إلا الله"، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف".
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول:"لا إله إلا الله"؛ إذ كان بقولها في كفره. انتهى ملخصا.
وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم،
1 سورة الأنفال آية: 39.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .
كما جاء في الرواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به ".
وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد
ومنها: قول الخليل عليه السلام – للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 1 فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2.
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، 4 فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام. فكيف بمن أحب الند أكبر5 من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟ في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام". انتهى.
قوله: "وحسابه على الله" أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه.
قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يعبدون
ومنها: قوله صلي الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 6 وهذا من أعظم ما يبين معنى: " لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للذم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع!.
من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب"7 قلت: وذلك أن ما بعدها
1 سورة الزخرف آية: 26-27.
2 سورة الزخرف آية: 28.
3 سورة البقرة آية: 167.
4 الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع؛ لأنه ليس كل حب يكون عبادة حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: "كحب الله" ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب، يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء، ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم، ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم، فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجرد أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله; برا للوالدين أو صلة للأرحام أو إطعاما لجار بائس، أو مسكين من أهل قريته. هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله؟ ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله.
6 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
7 في قرة العيون: فقد ذكر فيها - رحمه الله تعالى - ما يبين التوحيد وما ينافيه، وما يقرب منه، وما يوصل إليه من الوسائل، وبيان ما كان عليه السلف من بعدهم عن الشرك في العبادة وشدة إنكارهم له وجهادهم على ذلك، وقد جمع هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لا يعذر أحد عن معرفته وطلبه بإقبال وتدبر. وكذلك الرد على أهل الأهواء جميعهم، فمن حفظه واستحضره وجد ذلك واستغنى به عن غيره في الرد على كل مبتدع، فتدبره تجد ذلك بينا. وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.
من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى "لا إله إلا الله". وفيه أيضا: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر ما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون "لا إله إلا الله"، فمن عرف ذلك وتحققه، تبين له معنى "لا إله إلا الله" وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقا، وبمعرفة وسائل الشرك والنهي عنها لتجتنب تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه.
وفيه أيضا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله