المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

قال الذهبي في الكبائر: " ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة. قال: وكثير من الكبائر- بل عامتها إلا الأقل- يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه; ولا الوعيد عليه". اهـ.

ص: 321

‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

"

وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1.

قوله: "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء".

أي من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء. جمع "نوء" وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها. ومنه قوله تعالى:{الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 2. يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، ويقولون:"مطرنا بنوء كذا وكذا". وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي نهض وطلع.

قال: "وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . روى الإمام أحمد والترمذي"- وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول: شكركم {أَنَّكُمْ

_________

1 سورة الواقعة آية: 82.

2 سورة يس آية: 39.

ص: 321

تُكَذِّبُونَ} تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا: بنجم كذا وكذا " 1. وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين. وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بالآية.

قال ابن القيم رحمه الله: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون. قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب.

قوله: "عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب; والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم; والنياحة ". وقال:" النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ". رواه مسلم". أبو مالك: اسمه الحارث بن الحارث الشامي. صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام. وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا.

قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن" ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة. والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم. وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فهو جاهلية، فقد خالفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها، وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة. ولشيخنا رحمه الله مصنف لطيف، ذكر فيه ما خالف رسول الله صلي الله عليه وسلم فيه أهل الجاهلية، بلغ مائة وعشرين مسألة2.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين

1 ضعيف. أحمد (1/108،131) والترمذي: كتاب التفسير (3295) : باب ومن سورة الواقعة وقال: حسن غريب صحيح. وابن جرير (27/119) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/299) . وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ضعيف، وقد جاء موقوفا على ابن عباس رواه سعيد بن منصور في سننه، وإسناده صحيح كما في الفتح (2/522) .

2 كتاب مسائل الجاهلية طبع في المطبعة السلفية، وهو نفيس جدا ككل كتب شيخ الإسلام التي تفيض علما ونورا، رحمه الله.

ص: 322

الإسلام; وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها،

الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم،

ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} 1. فإن في ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.

قوله: "الفخر بالأنساب" أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم; وذلك جهل عظيم، إذ لا كرم إلا بالتقوى، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 3.

ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: " إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان "4.

قوله: "والطعن في الأنساب" أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص. ولما عَيّر أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه5 قال له النبي صلي الله عليه وسلم: 6 " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ". متفق عليه. فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية; وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام رحمه الله.

قوله: "والاستسقاء بالنجوم" أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم. كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " أخاف على أمتي ثلاثا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر "7.

فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا. فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر، فهذا شرك وكفر. وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعا، أو يدفع عنهم ضرا. أو أنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث

1 سورة الأحزاب آية: 33.

2 سورة الحجرات آية: 13.

3 سورة سبأ آية: 37.

4 حسن. أبو داود: كتاب الأدب (5116) : باب في التفاخر بالأحساب. وحسنه المنذري في الترغيب (3/614) ، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (ص73) .

5 وإنما عيره بسوادها فقط. فقال له: يا ابن السوداء. فكيف بالناس اليوم وقد أطلقوا لأقلامهم وألسنتهم العنان؟.

6 278- البخاري: كتاب الإيمان (30) ; باب المعاصي من أمر الجاهلية واللفظ له. ومسلم: كتاب الإيمان (1661)(38) : باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس. عن أبي ذر رضي الله عنه، وأبو داود: الأدب (5157) ، وأحمد (5/161) .

7 صحيح. أحمد (5/89،90) . وصححه الألباني لشواهده في السنة لابن أبي عاصم رقم (324) وراجع تخريج رقم [272] .

ص: 323

الله رسوله صلي الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله. كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 1. والفتنة الشرك، وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده. لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح في الفروع: بأنه يحرم قول: "مطرنا بنوء كذا". وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، ولم يذكر خلافا. وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركا أصغر. والله أعلم.

قوله: "والنياحة" أي رفع الصوت بالندب على الميت2؛ لأنها تَسخُّط بقضاء الله، وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة.

وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب "3. رواه مسلم.

قوله: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها" فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا. وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا:" إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "4. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان.

قوله: "تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" قال القرطبي: السربال واحد السرابيل، وهي الثياب والقُمُص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهن كالقمص; حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمهن بسبب الجرب أشد. وروي عن ابن عباس: إن القطران هو النحاس المذاب5.

1 سورة الأنفال آية: 39.

2 وضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

3 مسلم: الجنائز (934)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581) ، وأحمد (5/342 ،5/344) .

4 حسن. أحمد (2/132. 153) والترمذي: كتاب الدعوات (3537) : باب في فضل التوبة والاستغفار. وحسنه. وابن ماجة: كتاب الزهد (4253) : باب ذكر التوبة. وابن حبان (2249-موارد) . وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1899) .

5 ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره عند تفسير قوله تعالى: (14: 49، 50)(وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران) .

ص: 324

قال: "ولهما1 عن زيد بن خالد قال: " صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " 2".

زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل: غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.

قوله: "صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم" أي بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه إطلاق ذلك مجازا، وإنما الصلاة لله.

قوله: "بالحديبية" بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل3.

قوله: "على إثر سماء كانت من الليل" بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور: وهو ما يعقب الشيء.

قوله: "سماء" أي مطر؛ لأنه ينزل من السحاب، والسماء يطلق على كل ما ارتفع.

قوله: "فلما انصرف" أي من صلاته، أي التفت إلى المأمومين، كما يدل عليه

قوله: "أقبل على الناس" ويحتمل أنه أراد السلام.

قوله: "هل تدرون" لفظ استفهام ومعناه التنبيه. وفي النسائي: " ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ "4. وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم.

فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من

قوله: "قالوا الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى

1 رواه البخاري في الصلاة في باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم; وفي الاستسقاء في باب قول الله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان (71) (125) : باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.

2 البخاري: الجمعة (1038)، ومسلم: الإيمان (71)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/117)، ومالك: النداء للصلاة (451) .

3 قرية على حدود الحرم، وتسمى الآن الشميسي. وكان فيها صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين سنة ست من الهجرة، وكان هذا الصلح الفتح المبين.

4 صحيح. أحمد (4/116) ، النسائي (3/164،165) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (1326) .

ص: 325

عالمه. وذلك يجب1.

قوله: "أصبح من عبادي" الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2.

قوله: "مؤمن بي وكافر" إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه أشرك في الربوبية، والمشرك كافر. وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء.

ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز. وأيضا الباء تحتمل معاني، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ، فليست للسببية ولا للاستعانة، لما عرفت من أن هذا باطل. ولا تصدق أيضا على أنها للمصاحبة؛ لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله، فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهي عنه فاسد. فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقا لفساد المعنى. 3 وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف.

قال المصنف رحمه الله: "وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع" يشير إلى أنه الإخلاص.

قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "4.

قوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته" فالفضل والرحمة صفتان لله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات: كالحياة

1 وردهم هذا إنما كان يصح حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا حاضر المجلس؛ فإن الواجب رد العلم إلى الله ثم إليه. وأما بعد أن مات وفارق هذه الدنيا، فلا ينبغي رد العلم إلا إلى الله وحده. فمن الخطأ استعمال الناس هذه الجملة الآن وقولهم:"الله ورسوله أعلم".

2 سورة التغابن آية: 2.

3 وكذلك مثلها مما يستعمله الجاهلون، كقولهم: يا ربنا بمحمد وببنته، ونحو ذلك من ألفاظ في توسلاتهم ودعواتهم الجاهلية.

4 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038)، ومسلم: الإيمان (71)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/117) .

ص: 326

والعلم، وصفات الأفعال; كالرحمة التي يرحم بها عباده، كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره، فتفطن لهذا فقد غلط فيه طوائف.

وفي هذا الحديث: إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، وهذه حال أهل التوحيد.

قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا" إلى آخره، تقدم ما يتعلق بذلك. قال المصنف رحمه الله:"وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع".

يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر; فيكون من كفر النعم، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره، كما سيأتي في قوله تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَ} 1.

قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد: " وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق، وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث. فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم". انتهى.

قوله: " فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد" يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر، وقد يعتقد هؤلاء أن للنوء فيه شيئا من التأثير، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقد الذي ذكره. فلا اعتراض عليه بالآية للاحتمال المذكور.

ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ

ص: 327

قوله: "ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1. وبلفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا ". فقال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ".

هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما يشاء من خلقه على ما شاء. وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . فتكون "لا" صلة لتأكيد النفي; فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر، أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: قال بعض أهل العربية: معنى قوله: " {فَلا أُقْسِمُ} فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد فقيل: أقسم بمواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعد2، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئا بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم: مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه- وهو القرآن- من وجوه:

أحدها: أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة، وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول. ذكره ابن القيم رحمه الله.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 3 قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه.

1 سورة الواقعة آية: 75-76-77-78-79-80-81-82.

2 الآية تدل على أنه ما زال في الكتاب المكنون حتى كان ينزل به جبريل منجما، فكان ينزل مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مفهوم لما قاله بعض المفسرين: إنه نزل إلى السماء الدنيا مرة، ثم كان ينزل بعد ذلك إلى رسول صلى الله عليه وسلم منها.

3 سورة الواقعة آية: 76.

ص: 328

وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1 هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر أو كهانة، أو شعر. بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير؛ لأنه كلام الله.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته؛ فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم; وهو من كل شيء أحسنه وأفضله. والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف "الكريم" بالحسن. قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة".

وقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2 أي في كتاب معظم محفوظ موقر. قاله ابن كثير.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " اختلف المفسرون في هذا; فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} 4 فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه".

لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 5.

قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يمسه إلا المطهرون. قال: الكتاب الذي في السماء". وفي رواية: "لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة". وقال قتادة: "لا يمسه عند الله إلا المطهرون". فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس". واختار هذا القول كثيرون، منهم ابن القيم رحمه الله ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} 6. قال ابن كثير: هذا قول جيد. وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في هذه الآية: "لا يجد طعمه إلا من آمن به".

1 سورة الواقعة آية: 77.

2 سورة الواقعة آية: 78.

3 سورة عبس آية: 13-14-15-16.

4 سورة الواقعة آية: 79.

5 سورة الواقعة آية: 75-76-77-78-79-80-81.

6 سورة الشعراء آية: 210-211-212.

ص: 329

قال ابن القيم رحمه الله: " هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا، وأنزله على رسوله وحيا، لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه".

وقال آخرون: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر معناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلي الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " 1 2.

وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. قال ابن كثير: هذا القرآن منزل من رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه; وليس وراءه حق نافع. وفي هذه الآية: أنه كلام الله تكلم به.

قال ابن القيم رحمه الله: ونظيره: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 4. وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 5 هو إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 6؛ لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته. فأنزلها لنا بأمره.

قال ابن القيم رحمه الله: " وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع

1 صحيح. مالك في الموطأ (1/199) في كتاب القرآن: باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، مرسلا. وصححه الألباني لطرقه وشواهده في الإرواء (122) . وقال:"والنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به إمام أهل السنة أحمد بن حنبل.... " اهـ.

2 قال الحافظ ابن كثير: ورواه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري. قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الخ. قال: ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص. وفي إسناد كل منهما نظر. وقال الحافظ في التلخيص الحبير: ((وقد ضعف النووي وابن كثير في الإرشاد وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا)) . والضمير في الآية يعود على الكتاب المكنون; فهي صريحة في أنهم الملائكة. والمقصود بالآية - ما قال ابن زيد - الرد على قريش زعمها أنه تنزلت به الشياطين، فليس في الآية دليل ولا شبه دليل لمن يقول: إن المصحف لا يمسه إلا طاهر.

3 سورة الواقعة آية: 80.

4 سورة السجدة آية: 13.

5 سورة النحل آية: 102.

6 سورة الزمر آية: 6.

ص: 330

الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هَمَلًا، ويخلقهم عبثا. لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وذلك إنما تكون لخواص العقلاء".

قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 1. قال مجاهد: " أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم "؟

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2 3.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية الواقعة.

الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.

الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.

الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ; وتثنى عليه الخناصر; وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة; ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به; ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به; فهو روح الوجود، وحياة العالم; ومدار السعادة; وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟ ".

قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . تقدم الكلام عليها أول الباب; والله تعالى أعلم.

1 سورة الواقعة آية: 81.

2 سورة الواقعة آية: 82.

3 283- مسلم: كتاب الإيمان (73)(127) : باب بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا. * وحديث ابن عباس هذا ليس عند البخاري كما عزاه المؤلف هنا.

ص: 331