المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته.

الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها. مع مبالغته صلي الله عليه وسلم وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.

ص: 218

‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

"

وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} 1.

قوله: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين".

قوله: "تركهم" بالجر عطفا على المضاف إليه. وأراد المصنف - رحمه الله تعالى - بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله.

قوله: "وقول الله عز وجل": {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 2 الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب - وإن كان لأهل الكتاب - فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم صلي الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير3 كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ

_________

1 سورة النساء آية: 171.

2 سورة النساء آية: 171.

3 في قرة العيون: وقد وقع ذلك الشرك في العبادة في هذه الأمة نظما ونثرا كما في كلام البوصيري والبرعي وغيرهما، وفيما فعلوه من الغلو والشرك محادة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم; فأين ما وقع فيه هؤلاء الجهلة من قول من قال للنبي صلى الله عليه وسلم:(أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا) ، فكره ذلك صلى الله عليه وسلم أشد الكراهة؟ كما سيأتي في الكلام على هذا الحديث - إن شاء الله تعالى -، وقول القائل:"ما شاء الله وشئت"، فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده".

ص: 218

مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1 ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 2 ويأتي.

فكل من دعا نبيا أو وليا من دون الله فقد اتخذه إلها، وضاهأ النصارى في شركهم، وضاهأ اليهود في تفريطهم. فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه. فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا. وقال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 3. ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كِندة4 فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء.

قوله: "في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 5

فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا; ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت". قوله:"وفي الصحيح" أي صحيح البخاري.

1 سورة الحديد آية: 16.

2 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3445) : باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

3 سورة المائدة آية: 75.

4 باب من أبواب الكوفة. الغلاة المحرقون: هم عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه. قالوا: إن عليا إلههم، فنهاهم فلم ينتهوا فحرقهم. وإنما أراد ابن سبأ بذلك إحداث فتنة، وخلق شيع; وفتح ثغرة في صفوف المسلمين. وقد حدث ما أراد هذا اليهودي الملعون. ووجد في الناس كثير ممن أطاعه وأله عليا وأبناءه وكفر بالله ورسوله وعادى عليا والمؤمنين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

5 سورة نوح آية: 23.

ص: 219

وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما "ودّ" فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما "سواع" فكانت لهذيل. وأما "يغوث" فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما "يعوق" فكانت لهمدان. وأما "نسر" فكات لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح - إلى آخره". وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.

قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس "أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة; فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر. فعبدوهم".

قوله: "أن انصبوا" هو بكسر الصاد المهملة.

قوله: "أنصابا" جمع نُصب، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسموها بأسمائهم. وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانا. فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبرا أو مشهدا أو صورة أو غير ذلك 1.

1 في قرة العيون: فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير على صور الصالحين سلما إلى عبادتها. وكل ما عبد من دون الله، من قبر أو مشهد، أو صنم، أو طاغوت، فالأصل في عبادته هو الغلو. كما لا يخفى على ذوي البصائر. كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصل. ذكره السخاوي عن أبي حيان. فزين لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون، ويطفئ الحريق وينجي الغريق، وصرفوا له الإلهية والربوبية وعلم الغيب، وكانوا يعتقدون أنه يسمعهم ويستجيب لهم من الديار البعيدة. وفيهم من يسجد على عتبة حضرته. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني; كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر من متأخري الحنابلة وله كتاب الغنية، وغيره ممن قبله وبعده من الحنابلة أفضل منه في العلم والزهد، لكن فيه زهد وعبادة، وفتنوا به أعظم فتنة. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت. وسبب ذلك الغلو دعوى أن له كرامات، وقد جرت الكرامات لمن هو خير منه وأفضل كبعض الصحابة والتابعين، وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به. وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره، وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى، كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم. والأصل في ذلك الغلو تزيين الشيطان. وذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام:"لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى كان عمرو بن لحي الخزاعي فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال:"لبيك لا شريك لك"، فقال الشيخ:"إلا شريكا هو لك". فأنكر ذلك عمرو وقال ما هذا؟ فقال الشيخ: "تملكه وما ملك". فإنه لا بأس بهذا. فقالها عمرو. فدانت بها العرب.

ص: 220

وسموها بأسمائهم. ففعلوا لم تُعْبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت "1

قوله: "حتى إذا هلك أولئك" أي الذين صوروا تلك الأصنام.

قوله: "ونُسي العلم". ورواية البخاري: "وينسخ" وللكشميهني: "ونسخ العلم" أي درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم عند الله.

قوله: "عبدت" لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة. كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌوَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 2. وهذا يفيد الحذر

وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف " لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".

من الغلو ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسنا. فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة: أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم؛ ليوقعهم فيما هو أعظم من

1 البخاري: تفسير القرآن (4920) .

2 سورة يس آية: 60-61-62.

ص: 221

ذلك من عبادتهم لهم من دون1 الله. وفي رواية: "أنهم قالوا: ما عظّم أوّلنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله" أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم. ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم: شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات.

قوله: "وقال ابن القيم رحمه الله: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".

قوله: "وقال ابن القيم رحمه الله" هو الإمام العلامة محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية. قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين

الموافق والمخالف; صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

قوله: "وقال غير واحد من السلف" هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه

1 وما جر إلى هذا الغلو الذي أدى إلى عبادتهم من دون الله إلا تعظيم قبورهم، وبناء القباب عليها، وسترها بالأستار، وإيقاد السرج، وقيام السدنة وشياطين الإنس عندها لدعوة الناس إلى عبادتها بأنواع النذور فيعود عليهم من تلك الأموال. وإلا فكم من عباد صالحين من الصحابة وأفاضل العلماء الذين كان لهم قدم صدق في الإسلام مدفونون في مقابر مصر والشام وغيرهما; هم أفضل آلاف المرات من أمثال البدوي والدسوقي; بل نعالهم أشرف وأكرم من هذا البدوي وأضرابه لا يعرفهم أولئك المشركون؛ لأنهم لم ينصب على قبورهم تلك الأنصاب ولم تتخذ عليها تلك الأوثان. ولذلك كان الذي يزعم أنه يزور للموعظة وتذكر الدار الآخرة، تلك القبور التي نصبت عليها هذه الأنصاب والمقاصير من أجهل الناس وأبعدهم عن هدى الإسلام الذي لا يعرف تلك القباب، وإنما يعرف القبور التي لا يبنى عليها ولا يكتب عليها ولا تستر بالأستار الحرير وغيرها؛ فإنه من أمحل المحال الاتعاظ بهذه الأوثان والأنصاب، ومن أعظم الجهل أن تسمى هذه قبورا تسن زيارتها كما تسن زيارة القبور التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها. فنسألك اللهم أن تعجل بهدم هذه الأوثان وتطهير الأرض منها كلها تحقيقا لما أمر به نبيك صلى الله عليه وسلم، وبعث علي بن أبي طالب به إلى اليمن صيانة للتوحيد من قذر الشرك الذي أعظم أسبابه هذه القبور.

ص: 222

ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيما ومحبة: عبادة لها.

قوله: "ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف - رحمه الله تعالى -. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض.

قال القرطبي: "وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها" اهـ.

قال ابن القيم رحمه الله: "وما زال الشيطان يوحي إلى عُبّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته; وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل، ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، اتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد

علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.

فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم

1 سورة الزمر آية: 45.

ص: 223

بالعظائم ونفّروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار

ص: 224

دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} 1" اهـ كلام ابن القيم رحمه الله.

وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله 2.

ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة، من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه.

ومنها: مضرة التقليد.

ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم علما وعملا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة.

قوله: "وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد; فقولوا: عبد الله ورسوله " 4 أخرجاه.

قوله: "عن عمر" هو ابن الخطاب بن نفيل- بنون وفاء مصغرا- العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم. ولي الخلافة عشر سنين ونصفا، فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه.

قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 5 الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه. قاله أبو السعادات. وقال غيره: أي لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.

1 سورة الأنفال آية: 34.

2 كان الشارح رحمه الله قد ذكرها بنقص السادسة والحادية عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة فاكتفينا بنص المصنف - رحمه الله لعدم التكرار.

3 حيث إن النبي أخبر -وهو الصادق- أن بعض هذه الأمة يتبع سنن أهل الكتاب في اتباع الهوى والقول على الله بلا علم، وابتداع دين لم يشرعه الله. فقد وقع ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام يطري النبي غاية الإطراء، فيعتقد فيه أنه يعلم الغيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وقد نفى الله عنه ذلك في القرآن فقال:(قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) . (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)(قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) . فكفروا به واعتقدوا ما أوحته إليهم الشياطين. وكثير منهم يعتقدون أنه يتصرف في الدنيا بعد موته ويزور من شاء في المشارق والمغارب. وقد بلغت الوقاحة بالدجال أحمد التيجاني أن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر مجلس مكائه وتصديته ومجالس كل من اتبعه في طريقه الضال، فصار هؤلاء الزائفون إذا جلسوا للغط واللغو الذي يسمونه صلاة الفاتح، ويزعمون بوقاحتهم وفجورهم أن المرة الواحدة منها أفضل من القرآن ستة آلاف مرة. وينشرون ثوبا أبيض في وسط حلقتهم ليجلس عليه النبي والخلفاء، وإنما زعم الدجال التيجاني هذا تمويها على أشباه الأنعام العامة ليتبعوه على دجله وباطله، ويريهم أنه أتى بما لم يسبق إليه. وصدق فإنه لم يسبق إلى هذه الوقاحة في الكفر فنعوذ بالله من عمى القلوب، وشرع ما لم يأذن به الله. بل تكاد السموات يتفطرن منه. وبعضهم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ويشرع له من الدين ما يخالف شرعه الذي أتمه الله وأكمله وارتضاه دينا قبل موته صلى الله عليه وسلم، ادعى ذلك الشعراني في كتاب العهود المحمدية. وزعم أن شيخه الخواص كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين، وهذا كله كذب وبهتان. فكم وقع بين الصحابة مع الخلافات ما كان أولى أن يجيئهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليرجعهم فيها إلى الصواب الذي يطفئ الفتنة، لو أمكن ظهوره. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وبعضهم يعتقد أن السموات والأرض وما بينهما مملوءة بالنبي، ولو كشف عنا الحجاب لرأيناه عيانا; فإذا سمع أهل الغرور هذه الخرافة أفنوا أعمارهم في الخلوات يهمهمون ويزمزمون، وأنفقوا أموالهم كلها على الدجالين المشعوذين الذين أغووهم، كل ذلك طمعا في المحال أن يروا النبي عيانا مالئا السماء والأرض وما بينهما; وقد انجر بنا الكلام إلى ذكر شيء من باطلهم تحذيرا لمن لم يقع في حبائلهم وإنذارا لمن وقع، وهذا نزر يسير مما نعرفه عنهم، وهو مسطور في كتبهم وأساطيرهم المطبوعة المنشورة، وليعلم الناظر في هذا أني كنت على عقيدتهم الخبيثة سنين فأنقذني الله منها على يد بعض المصلحين، فاستيقظت من نوع البدعة الذميمة فلاحت لي أنوار شمس السنة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

4 تقدم تخريجه برقم [160] ولم يروه مسلم. وهذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وراجع تخريجه والكلام عليه في شرح عشرون حديثا للبخاري ص (169 ، 170) .

5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (4: 171)(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) . قوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يتجاوزوا هذا القول. وقد أمر الله عباده بالصلاة والسلام عليه؛ لأن أشرف مقامات الأنبياء; العبودية الخاصة والرسالة.

ص: 225

قوله: "إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادّعوا فيه الإلهية. وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرا ونثرا ما يطول عده; وصنفوا فيه مصنفات.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه1 أنه جوّز الاستغاثة بالرسول صلي الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفا رده شيخ الإسلام، وردّه موجود بحمد الله. ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وذكر لهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عمى البصيرة.

قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو "2. ولمسلم

وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به"

سواك عند حدوث الحادث العمم"

وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلي الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلي الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له، وإنما يحصل تعظيم الرسول صلي الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء

1 هو علي بن يعقوب بن جبريل البكري المتوفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر سنة 724 هـ والرد عليه اسمه تلخيص كتاب الاستغاثة طبع بالمطبعة السلفية سنة 1346 على نفقة جلالة إمام الموحدين ناصر السنة وقامع البدعة، الملك الصالح الموفق عبد العزيز آل سعود، أيده الله بنصره وأطال حياته المباركة في خدمة الإسلام، ووفق ولي عهده المعظم صاحب السمو الملكي الأمير الأجل سعود إلى مثل ما يقوم به والده العظيم من نشر راية الإسلام وإعلاء كلمته، بطبع الكتب النافعة، وإقامة حدود الله.

2 النسائي: مناسك الحج (3057) .

ص: 226

بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونُصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علما وعملا، وارتبكوا ما نهى عنه ورسوله. فالله المستعان.

قوله: "وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ".

هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس.

وهذا لفظ رواية أحمد1 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم غداة جَمْع: " هلم القُطْ لي. فلقطتُ له حصيات هن حصى الخذف. فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا. وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " 2

قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار. ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به؛ فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك.

قوله: "ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا".

قال الخطابي: " المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل

فيه مسائل:

الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.

الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.

الثالثة: أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.

الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.

الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أُناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.

السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.

1 ورواه أيضا الإمام أحمد وأبو داود، وإنما اقتصر المصنف على ما هو أرجح وأقوى.

2 صحيح أحمد (1/ 215 ، 347) . ابن ماجة (3029) كتاب المناسك: باب قدر حصى الرمي ولم يروه الترمذي. وإنما هو عند النسائي أيضا (5/ 268) في المناسك: باب التقاط الحصى وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (ص 106) : إسناده صحيح على شرط مسلم. ووافقه الألباني في الصحيحة (1283) .

ص: 227

الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم".

ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقا، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز،

السابعة: جبلة الآدمي1 في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.

الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.

التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.

العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما تئول إليه.

الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.

الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.

الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.

الرابعة عشرة: وهي أعجب، وأعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.

الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.

ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب. قال الشيخ تقي الدين:" فهذا جاهل ضال". انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله: قال الغزالي: " والمتنطعون في البحث والاستقصاء".

وقال أبو السعادات: " هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا".

1 الجبلة بكسرتين فلام مشددة وكخشبة أيضا الخلقة والطبيعة; والمعنى أن الإنسان مجبول على نقصان الحق في قلبه وزيادة الباطل إلا من رحم الله، وأنزل في قلوبهم السكينة؛ فإن إيمانهم لا يزال يزيد ولا ينقص.

ص: 228