الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشره: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أُذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
باب الشفاعة
1
وقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 2. وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 3.
قوله: "باب الشفاعة" أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه، وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.
_________
1 في قرة العيون: الشفاعة نوعان. شفاعة منفية في القرآن; وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى: (2: 254)(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) . وقال: (74: 48)(فما تنفعهم شفاعة الشافعين) . وقال: (2: 48)(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) ونحو هذه الآيات كقوله: (10: 18)(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) . يخبر تعالى أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك، وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع الشفاعة وأخبر أنها شرك بقوله:(سبحانه وتعالى عما يشركون) . وقال تعالى: (39: 3)(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعا بزعم أنه يقربه إلى الله، وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته؛ لأنه جعل الله شريكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه كما يحب الله تعالى أو أعظم. "النوع الثاني" الشفاعة التي أثبتها القرآن وهي خالصة لأهل الإخلاص; وقيدها تعالى بأمرين: الأول: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) . وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب; فإذا رحمه الله تعالى أذن للشافع أن يشفع له. الأمر الثاني: رضاه عمن أذن لشافع أن يشفع فيه. كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فالإذن بالشفاعة له بعد الرضاء; كما في هذه الآية، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
2 سورة الأنعام آية: 51.
3 سورة الزمر آية: 44.
قوله: "وقول الله عز وجل {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} " المخافة والتحذير منها.
قوله: "به" قال ابن عباس: "بالقرآن"{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} "وهم المؤمنون" وعن الفضيل بن عياض: "ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون; فقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية".
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} قال الزجاج: موضع "ليس" نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع. والعامل فيه "يخافون".
قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة 1.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 23. وقبلها {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 4. وهذه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك; يتنزه الرب تعالى عنه. وقد قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 6. فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم، أن ذلك منهم إفك وافتراء.
1 في قرة العيون: وتركوا التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه.
2 سورة الزمر آية: 44.
3 في قرة العيون: دلت الآية على أن الشفاعة له سبحانه؛ لأنها لا تقع إلا لأهل التوحيد بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في الآية السابقة، وقال تعالى:(10: 3)(يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم) . فلا شفاعة إلا لمن هي له سبحانه، ولا تقع إلا ممن أذن له فيها. فتدبر هذه الآيات العظيمة في اتخاذ الشفعاء.
4 سورة الزمر آية: 43.
5 سورة يونس آية: 18.
6 سورة الأحقاف آية: 28.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1 أي هو مالكها، فليس لمن تُطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلا لله.
قال البيضاوي: لعله رد لما عسى أن يجيبوا به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون.
وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها4 {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 5.
قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا6 هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قال الله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 7.
قال: "وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله. وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كما قال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 8، فبين أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع; ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصا غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح. 9 وسيأتي ذلك مقررا أيضا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
1 سورة الزمر آية: 44.
2 سورة البقرة آية: 107.
4 في قرة العيون: فليس لأحد في ملكه مثقال ذرة دونه سبحانه وبحمده، والإسلام هو أن تسلم قلبك وجوارحك لله بالإخلاص كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(فبالذي بعثك بالحق له ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك، وأن توجه وجهك إلى الله; وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وأن تؤدي الزكاة المفروضة) والآيات في بيان الإخلاص كثيرة، وهو أن لا يلتفت القلب ولا الوجه في جميع الأعمال كلها إلا لله وحده. كما قال تعالى:{فادعوا الله مخلصين له الدين} فأمر تعالى بإخلاص الدعاء له وحده، وأخبر أنه الدين الذي تصح معه الأعمال وتقبل. قال شيخ الإسلام:((الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه)) .
5 سورة الأنبياء آية: 28.
6 الأولى "ما نعبد أولياءنا" ولم أجد هذه الجملة كلها في تفسير ابن جرير.
7 سورة الزمر آية: 44.
8 سورة طه آية: 109.
9 وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله:"لا شيء له". ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" رواه النسائي في الجهاد (6/ 25) : باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. وإسناده حسن كما قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 328) ، وحسنه الألباني في الصحيحة (52) . وراجع أول كتاب الترغيب والترهيب للمنذري فهناك أحاديث كثيرة جدا بهذا المعنى.
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ". قال ابن كثير رحمه الله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3. {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4. فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين 5، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله; وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله; وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الكلام على هذه الآيات: "وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان
1 سورة النجم آية: 26.
2 سورة سبأ آية: 22-23.
3 سورة البقرة آية: 255.
4 سورة سبأ آية: 23.
5 في قرة العيون: فإذا كان هذا في حق الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (21: 26 – 29)(بل عباد مكرمون) الآيات. فظهر من هذه الآيات المحكمات ما يبين حقيقة الشفاعة المثبتة في القرآن التي هي ملك الله لا يملكها غيره. وقيد حصولها بقيدين كما في هذه الآية وغيرها كما تقدم قريبا: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) . والثاني: رضاه عمن أراد رحمته ممن أذنب من الموحدين. فاختصت الشفاعة بأهل الإخلاص خاصة، وأن اتخاذ الشفعاء بلا إذن من دين المشركين قد أنكره الله عليهم فيما تقدم من الآيات.
شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا; متنقلا من الأعلى إلى الأدنى; فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خَلوا من قبل ولم يُعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله; إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.
ثم قال: ومن أنواعه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص; إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جَرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه لله وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله، متبعا لأمره متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله. فهو لله وبالله ومع الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى".
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 1.
1 سورة النساء آية: 125.
قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلْك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة. فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أنه "يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له " ارفع رأسك وقُلْ يُسَمعْ وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع "2.
قوله: "قال أبو العباس" هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله.
"نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه; أو يكون عونا لله. فلم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 3. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم: " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع " وقال له أبو هريرة:" من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 4 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقتها: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " انتهى".
وقال أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 5 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص". اهـ كلامه.
قوله: "وقال أبو هريرة" إلى آخره. هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه: " وشفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2جزء من حديث الشفاعة الطويل. رواه البخاري: كتاب الأنبياء (3340) : باب قول الله عز وجل: (ولقدأرسلنا نوحا إلى قومه) وفي التفسير (4712) : باب قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) ومسلم: كتاب الإيمان (194)(327) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وراجع نظم المتناثر ص 149. وكتاب الشفاعة للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
3 سورة الأنبياء آية: 28.
4 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
5 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
لسانه; ولسانه قلبه " 1 وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا "2.
وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز. والله أعلم.
وقد عرّف الإخلاص بتعريف حسن فقال: "الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه". اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة: "تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلي الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله،
كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة،
1 البخاري: كتاب العلم (99) : باب الحرص على الحديث، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 483) وأحمد (2/ 307 ، 518) . وابن حبان (2594) .
2 مسلم: كتاب الإيمان (199)(338) : باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.
ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1. وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 2 وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلي الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب مَن عقلها ووعاها". اهـ.
وذكر أيضا - رحمه الله تعالى - أن الشفاعة ستة أنواع:
"الأول" الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم - عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه صلي الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها"، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد 3.
"الثاني" شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
"الثالث" شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم; فيشفع لهم أن لا يدخلوها.
"الرابع" شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي صلي الله عليه وسلم. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدّعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال.
"الخامس" شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا، كما قال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلي الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد فإذا أُذن له شَفَع.
السادسة: من أسعد الناس بها.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
"السادس" شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة الأنبياء آية: 28.
3 جزء من حديث أنس الطويل في الشفاعة العظمى. رواه البخاري: كتاب التوحيد (7510) : باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم (193)(326) كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
4 سورة الأنعام آية: 51.