المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

قوله: باب "ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان".

"وقول الله تعالى: { {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ".

"الوثن" يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 2. ومع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 3. وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 4. فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث.

قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حُيَيّ

_________

1 سورة النساء آية: 51.

2 سورة العنكبوت آية: 17.

3 سورة الشعراء آية: 71.

4 سورة الصافات آية: 95.

ص: 263

بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج. ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.

وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2.

وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان ". وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: " الجبت: الشيطان- زاد ابن عباس-: بالحبشية ". وعن ابن عباس أيضا: "الجبت: الشرك". وعنه: "الجبت: الأصنام". وعنه: "الجبت: حيي بن أخطب".

وعن الشعبي: "الجبت: الكاهن". وعن مجاهد: "الجبت: كعب بن الأشرف" قال الجوهري: "الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر" ونحو ذلك3.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: " وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها، مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ ".

1 قال الحافظ ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال: أنتم خير. قال: فنزلت فيهم: إن شانئك هو الأبتر) . ونزل (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) الآية. و"الكوماء" الناقة العظيمة السنام لسمنها. و"العناة" جمع "عان" وهو الأسير. و"الصنبور" الأبتر الذي لا عقب له. وأصله سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة التي دق أسفلها. أرادوا أنه إذا بلغ انقطع ذكره كما يذهب الصنبور لأنه لا عقب له.

2 سورة المائدة آية: 60.

3 زاد ابن كثير عن الجوهري: وفي الحديث: "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت". قال ابن كثير: رواه الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق.

ص: 264

قوله: "وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ".

يقول تعالى لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: قل يا محمد: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي أبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي غضبا لا يرضى بعده أبدا {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} 1. وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما - أو قال: لم يمسخ قوما - فجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ". رواه مسلم2.

قال البغوي في تفسيره: {قُلْ} يا محمد " هل أنبئكم " أخبركم {بِشَرٍّ مِنْ {ذلكم} الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا; لقوله تعالى:{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ {ذَلِكُمُ {النَّارُ} 3.

وقوله: {مَثُوبَةً} ثوابا وجزاء، نصب على التفسير {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي هو من لعنه الله {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يعني اليهود {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى. وعن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس:" أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير ".

{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما

سول له، وقرأ ابن مسعود4 "عبدوا الطاغوت"، وقرأ حمزة و "عُبُد" بضم الباء، و "الطاغوت "

1 سورة المائدة آية: 60.

2 رواه مسلم في كتاب القدر في باب بيان أن الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص من وجهين: أولهما: عن أبي بكر بن أبي شيبة; وأبي كريب عن مسعر. وهذا هو الذي فيه: "ولا عقبا". والثاني: عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر واللفظ لحجاج: وليس فيه "ولا عقبا".

3 سورة الحج آية: 72.

4 في البغوي: وتصدقها قراءة ابن مسعود.

ص: 265

بجر التاء1 أراد العبد. وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها، مثل سبْع وسبُع2 وقرأ الحسن "وعبد الطاغوت " على الواحد3.

وفي تفسير الطبرسي: " قرأ حمزة وحده "وعبُد الطاغوتِ" بضم الباء وجر التاء، والباقون "وعبَد الطاغوتَ" بنصب الباء وفتح التاء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب "وعُبُدَ الطاغوتِ" بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء، قال: وحجة حمزة في قراءته "وعبُد الطاغوت" أنه يحمله على ما عمل فيه "جعل" كأنه: وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى "جعل" "خلق". كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 4. وليس "عبد" لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 5. ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يَقُظَ ودَنُس; وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب.

وأما من فتح فقال {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 6 فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة: وهو قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ} ، وأفرد الضمير في "عبد" وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه، وفاعله ضمير "من" كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير "من" فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ. وأما قوله:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فهو جمع عبد7.

وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 8.

وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد; كبازل وبُزل، وشارف وشُرف، وكذلك عبد جمع عابد. ومثله عباد وعُبّاد". اهـ.

وقال شيخ الإسلام في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 9 الصواب أنه معطوف على ما قبله من الأفعال، أي من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله، مظهرا أو مضمرا. وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت. وهو الضمير في "عبد" ولم يعد سبحانه "من" لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.

1 فيكون على الإضافة، على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت، أي خدامه وعبيده.

2 في تفسير البغوي وقيل: هو جمع العباد وقرأ الحسن إلخ.

3 آخر النقل عن البغوي.

4 سورة الأنعام آية: 1.

5 سورة إبراهيم آية: 34.

6 سورة المائدة آية: 60.

7 قال ابن كثير: على أنه جمع الجمع. عبد عبيد عبد; مثل ثمار ثمر.

8 سورة الكهف آية: 21.

9 سورة المائدة آية: 60.

ص: 266

قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} مما تظنون بنا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} 1. قاله العماد ابن كثير في تفسيره، وهو ظاهر.

قوله: "وقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} ". والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " 2 أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم.

قوله: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3 أخرجاه". وهذا سياق مسلم.

قوله: "سنن" بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قال المهلب: الفتح أولى.

قوله: "حذو القذة بالقذة" بنصب "حذو" على المصدر. والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم. أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم قي ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى. وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة. وقد وقع كما أخبر، وهو عَلَم من أعلام النبوة.

قوله: " " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". وفي حديث آخر: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك " 4. أراد صلي الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله لا تترك منه شيئا. ولهذا قال سفيان بن عيينة: " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه من النصارى ". اهـ.

قلت: فما أكثر الفريقين، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبا.

1 سورة الفرقان آية: 24.

2 تقدم تخريجه برقم [166] .

3 205- ضعيف. هو جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان (2641) باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. وقال الترمذي: حديث غريب. والحاكم (1/128،129) . وضعفه المناوي في فيض القدير (5/347) .

4 الترمذي: الإيمان (2641) .

ص: 267

قوله: " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " هو برفع "اليهود" خبر مبتدأ محذوف; أي أهُم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني. قوله: "قال: فمن؟ " استفهام إنكاري. أي فمن هم غير أولئك؟

قوله: "ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وأني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". ورواه البرقاني في صحيحه وزاد:" وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله تبارك وتعالى "1.

هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف.

قوله; "عن ثوبان" هو مولى النبي صلي الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.

قوله: " " زوى لي الأرض " قال التوربشتي: " زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره". قال الطيبي:" أي جمعها، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها".

قوله: " " وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " قال القرطبي: " هذا الخبر وجد مخبره

1 مسلم: الإمارة (1920)، والترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) ، وأحمد (5/278 ،5/279 ،5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .

ص: 268

قوله: " فيستبيح بيضتهم" قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته. وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم، وإن قلوا.

قوله: " " حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". والظاهر أن "حتى" عاطفة، أو تكون لانتهاء الغاية، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضا. وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم.

قوله: " " وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد " قال بعضهم: أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم:" ولا راد لما قضيت "1.

قوله: "رواه البرقاني في صحيحه" هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب:" كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه كثير التصانيف، صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان. وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة".

وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن الله - أو قال: إن ربي - زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة2 ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي:

1 جزء من حديث أخرجه الطبراني بسند صحيح كما قال الحافظ في فتح الباري (11/513) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وأصل الحديث في صحيح البخاري بدون هذا الجزء. البخاري: كتاب القدر (6615) : باب لا مانع لما أعطى الله.

2 الذي في سنن أبي داود (ج4 ص15) مع شرح عون المعبود - وهي طبعة هندية مصححة بدقة- "بسنة بعامة". وقال في عون المعبود: وفي رواية مسلم: "بسنة بعامة" في باب الفتن.

ص: 270

يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق- قال ابن عيسى: ظاهرين ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى " 1.

وروى أبو داود أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " تدور رَحَى الإسلام لخمس وثلاثين; أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما، قال: قلت: أمِمّا بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى "32.

وروى في سننه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان وينقص العلم; وتظهر الفتن، ويلقى الشح; ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله أيّهْ هو؟ قال: القتل القتل "4.

قوله: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم، 5 كما قال تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 6. وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فيأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو هذا. وهذا

1 قال في عون المعبود: إسناده صحيح.

2 صحيح. أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4254) : باب ذكر الفتن ودلائلها. وأحمد أيضا (1/390،393) . وصححه الألباني في الصحيحة (974) وصحيح الجامع (2931) .

3 قال الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي في كتاب الأطراف: وأخرجه البخاري في الصحيح في الأدب وفي الفتن; ومسلم في القدر، وأبو داود في الفتن.

4 صحيح أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4255) : باب ذكر الفتن ودلائلها وهذا تقصير. (*) فالحديث أخرجه البخاري: كتاب الفتن (7061) : باب ظهور الفتن. ومسلم: كتاب العلم (11)(57) : باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.

5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (6: 119)(وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) وقال: (71: 37)(ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) . وأمثال هذه الآيات كثير، وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي.

6 سورة الأحزاب آية: 67.

ص: 271

هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها. وقد قال تعالى:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُيَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 1.

وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال.

ومن هذا الضرب: مَنْ يدّعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف; ويدعي أن الأولياء يُدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم; ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله، فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله!

وقوله صلي الله عليه وسلم: " وانما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال; وما وقع في خَلَد النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 4 الحديث.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون "5. رواه أبو داود الطيالسي. وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 6 رواه الدارمي.

وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين. فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو ملعون وحدثه مردود، كما قال صلي الله عليه وسلم:" من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا "7. وقال: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 8. وقال: " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "9. وهذه

1 سورة الحج آية: 12-13.

2 سورة الفرقان آية: 3.

3 سورة العنكبوت آية: 17.

4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89 ،3/94) .

5 صحيح. الطيالسي (975) . وأحمد (6/441) والطبراني. وفيه راويان لم يسميا كما قال الهيثمي في المجمع (5/239) . والحديث صحيح لشواهده. وراجع مجمع الزوائد (5/239،240) . وصححه الألباني في الصحيحة (1582) وصحيح الجامع (1547) . (*) وعزو الحديث لأبي داود كما فعل المؤلف وهم.

6 صحيح: الدارمي (1/70)، (2/311) . وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في الصحيحة (4/110) . والحديث أخرجه أيضا: أحمد (5/278،284) . وأبو داود: كتاب الفتن (4252) : باب ذكر الفتن ودلائلها. وابن ماجة: كتاب الفتن (3952) : باب ما يكون من الفتن وراجع تخريج رقم [206] .

7 البخاري: كتاب فضائل المدينة (1870) : باب حرم المدينة. كتاب الفرائض (6755) : باب إثم من تبرأ من مواليه. ومسلم: كتاب الحج (1370)(467) : باب فضل المدينة. من حديث علي رضي الله عنه. والبخاري: كتاب الاعتصام (7306) : باب إثم من آوى محدثا. ومسلم: كتاب الحج (1366)(463) : باب فضل المدينة من حديث أنس رضي الله عنه.

8 البخاري: كتاب الصلح (2697) : باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم: كتاب الأقضية (1718) . (17) : باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور من حديث عائشة رضي الله عنها.

9 صحيح. وهو جزء من حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود: كتاب السنة (4607) : باب لزوم السنة. وأحمد في المسند (4/127) وغيرهما وهو حديث صحيح. راجع السنة لابن أبي عاصم (27) . وفي الباب عن ابن مسعود عند ابن ماجة (46) . وعن جابر عند النسائي (3/188) .

ص: 272

أحاديث صحيحة. ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها. وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز، كما قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. ونظائرها في القرآن كثير.

وعن زياد بن حُدَير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: " وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان.

" هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زَلَة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين "3 رواه الدارمي.

وقال يزيد بن عمير: " كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته; فإن على الحق نورا "4. رواه أبو داود وغيره.

قوله: " وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ". وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع; وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى5.

قوله: " ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ""الحي" واحد الأحياء وهي القبائل. وفي رواية أبي داود: " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين "6.

والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون. برغبتهم عن أهل الإسلام ويلحقون بأهل الشرك.

وقوله: " حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ""الفئام" بكسر الفاء مهموز: الجماعات

1 سورة الأعراف آية: 3.

2 سورة الجاثية آية: 18.

3 صحيح. الدارمي (1/71) في المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي. وقال الألباني في تخريج المشكاة (1/89) : "وسنده صحيح" اهـ.

4 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4611) : باب لزوم السنة. وإسناده صحيح.

5 قال في قرة العيون: وفيه ما هو حق، كقتال أهل التوحيد لأهل الشرك بالله، وجهادهم على تركهم الشرك، وقد من الله بذلك على من أقامهم في آخر هذا الزمان بالدعوة إلى توحيده، لكن أهل الشرك بدأوهم بالقتال، وأظهرهم الله عليهم كما لا يخفى على من تدبر آيات هذا الدين في هذه الأزمنة. اهـ.

6 ابن ماجه: النكاح (1936) .

ص: 273

الكبيرة، قاله أبو السعادات. وفي رواية أبي داود:" وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ".

وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدبن لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان. وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد;1 فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب.

وفي معنى هذا الحديث: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية " 2 وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات، لما أسلمت ثقيف: " فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور والتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركا عندها وبها. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم; وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل

1 في قرة العيون: وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان حتى إنه لا يعرف أحد في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك حتى أقام الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- الذي أنكره ونهى عنه، ودعا الناس إلى تركه وإلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وأسمائه وصفاته، فرماه الملوك وأتباعهم عن قوس العداوة، فأظهره الله بالحجة، وأعز أنصاره على من ناوأهم. وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها; ولكن من الناس منهم من عرف ومنهم من أنكر. وانتفع بدعوته الكثير من أهل نجد والحجاز وعمان وغيرها. فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة جعلنا الله لها شاكرين. قال أبو طاهر -غفر الله لهما-: وإنما أظهره الله بتوفيق آل سعود للانضواء تحت راية التوحيد الذي دعا إليه الشيخ ابن عبد الوهاب. فكان لحديدهم مع بينات الشيخ هذا الأثر في ظهور كلمة التوحي، د وقيام دولة مرهوبة الجانب لأهل التوحيد تصديقا لقول الله تعالى:(57: 25)(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) والله نسأل أن يديم توفيقهم ويوفق ملوك المسلمين لمثل ما وفقهم له.

2 البخاري: كتاب الفتن (7116) : باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان. ومسلم: كتاب الفتن (2906)(51) : باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة.

ص: 274

وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء; وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس; وظهر الفساد، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين; ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين". اهـ ملخصا.

قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فسادا كما هو الواقع.

قوله: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي " قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون; منهم أربع نسوة " 1 أخرجه أبو نعيم، وقال: هذا حديث غريب". انتهى.

وحديث ثوبان أصح من هذا.

قال القاضي عياض: عدّ من تنبأ من زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالة، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا2.

وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر: طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلي الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه. ونقل أن سجاح تابت أيضا. ثم خرج المختار ابن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت

1 حسن. أبو نعيم في الحلية (4/179) وقال: غريب تفرد به معاذ بن هشام عن أبيه موجودا في كتابه اهـ وإسناده حسن.

2 للسيد صديق حسن خان كتاب "الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة". عد فيه أولئك الدجالين إلى زمنه، وعد منهم الدجال الإفرنجي الخبيث غلام أحمد القادياني الهندي قبحه الله وأخزاه، ومن اتبعه على كفره، فإنه ما قام بفتنته وادعى المهدوية ثم النبوة إلا بإيعاز ومساعدة دولة نصرانية، سياستها التفريق لجماعات المسلمين.

ص: 275

ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، وأعان عليه. فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه. ومنهم الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة.

وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء. وإنما المراد من قامت له شوكة وبدا له شبهة كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.

قوله: " " وأنا خاتم النبيين ". قال الحسن: الخاتم: الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين؛ كما قال تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1. وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكما بشريعة ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، تبارك وتعالى "2.

محمد صلي الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته. فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال النبي صلي الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية "3.

قوله: " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم " قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ".

قال ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم:"إنهم أهل الحديث". وعن ابن المديني رواية: "هم العرب". واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.

قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه. ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. اهـ ملخصا مع زيادة فيه. قاله الحافظ.

1 سورة الأحزاب آية: 40.

2 البخاري: العلم (71)، ومسلم: الإمارة (1037) ، و (1920) ، وأحمد (4/93) ، و (5/279)، والترمذي: الفتن (2229) .

3 البخاري: كتاب البيوع (2222) : باب قتل الخنزير. ومسلم: كتاب الإيمان (155)(242) : باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 276

قال القرطبي: " وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة"1.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية النساء.

الثانية: تفسير آية المائدة.

الثالثة: تفسير آية الكهف.

الرابعة: - وهي أهمها- ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟

الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.

السادسة: - وهي المقصود بالترجمة- أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعد.

السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.

قال المصنف رحمه الله: " وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية". قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.

قوله: " حتى يأتي أمر الله" الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة; ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال:" لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية "2. فقال

1 المراد من الإجماع: إجماع كل من يعتد به من هذه الأمة في جميع أقطار الأرض، ومعرفة ذلك غير متيسرة إلا فيما هو معلوم بالضرورة كالصلوات والصيام ونحوه، ولذلك يروى عن الشافعي وأحمد: أن من ادعى الإجماع بعد الصحابة فقد أخطأ.

2 صحيح. الحاكم (4/456،457) . وصححه ووافقه الذهبي. (*) وهذا تقصير فالحديث عند مسلم: كتاب الإمارة (1924)(176) : باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم".

ص: 277

عقبة بن عامر لعبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "1. قال عبد الله: " ويبعث الله ريحا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته; ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة ".

وفي صحيح مسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "2.

وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم. وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ.

وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة:" قيل: يا رسول الله، أين هم؟ قال: ببيت المقدس "3. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:

"هم بالشام". وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة. الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة. وأن الرسول حق وأن القرآن حق. وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة.

التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.

العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.

الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.

الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة. منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال.

وإخباره بأنه أُعطي الكنزين.

وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.

وإخباره بأنه منع الثالثة.

وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع.

وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة.

وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة.

قلت: ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن؛ فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه. وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة. والله على كل شيء قدير4.

1 مسلم: الإمارة (1924) .

2 تقدم تخريجه برقم [57] .

3 إسناده ضعيف. الطبراني في الكبير (7643) . وإسناده ضعيف فيه عمرو بن عبد الله الشيباني الحضرمي. قال الذهبي في ديوان الضعفاء (3188) : تابعي مجهول أفاده الدوسري (262) النهج السديد.

4 البخاري: كتاب المناقب (3641) : باب [28] .

ص: 278

ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة، وفي الحجاز وفي مصر، وفي العراق واليمن، وكلهم على الحق يناضلون، ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاما لأهل السنة; وحجة على كل مبتدع.

فعلى هذا، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.

وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فإن كل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلي الله عليه وسلم.

وقوله: "تبارك وتعالى" قال ابن القيم رحمه الله: البركة نوعان: أحدهما: بركة

هي فَعَلة والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركا بجعله تعالى.

والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك.

1 سورة مريم آية: 31.

ص: 279