الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الخوف من الشرك
.
وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلي الله عليه وسلم".
قوله: باب "الخوف من الشرك" وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي من الذنوب لمن يشاء من عباده". انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلي الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " 3 رواه مسلم4 ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى، ومشاركة في خصائص الإلهية: من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، شبيها بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، واليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي
_________
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الأنعام آية: 1.
3 مسلم: الإيمان (148)، والترمذي: الفتن (2207) ، وأحمد (3/107 ،3/162 ،3/201 ،3/259 ،3/268) .
4 مسلم: كتاب الإيمان (148)(234) : باب ذهاب الإيمان آخر الزمان.
لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة; والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل. كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله.
وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب. وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار.
ولا يجوز أن يحمل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2 فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب. هذا ملخص قول شيخ الإسلام3.
قوله: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 4"
الصنم
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الزمر آية: 53.
3 في قرة العيون: قال النووي - رحمه الله تعالى -: ((أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصرا عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار، ثم أخرج منها وأدخل الجنة)) . اهـ. قلت: هذا قول أهل السنة والجماعة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك؛ لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد، ثم قال:(ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فخصص وقيد فيما دون الشرك، فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمل أن يقع فيه فلا يرجى له معه نجاة، إن لم يتب معه قبل الوفاة.
4 سورة إبراهيم آية: 35.
ما كان منحوتا على صورة، والوثن ما كان موضوعا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد.
قلت: وقد يسمى الصنم وثنا كما قال الخليل1 عليه السلام {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 2 الآية ويقال: إن الوثن أعم، وهو قوي، فالأصنام أوثان كما أن القبور أوثان.
قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 3 أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنبهم عبادة الأصنام، وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 4 فإنه هو الواقع في كل زمان. فإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام: أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله.
قال إبراهيم التيمي: " من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله، وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به5.
1 الخلة: أخص من المحبة، ولذلك اختص الله بها الخليلين: إبراهيم ومحمدا عليهما من الله أفضل الصلاة والسلام. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلا" رواه البخاري.
2 سورة العنكبوت آية: 17.
3 سورة إبراهيم آية: 35.
4 سورة إبراهيم آية: 36.
5 في قرة العيون: فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة، وابتلاه بكلمات فأتمهن، وقال:(وإبراهيم الذي وفى) وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه، وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك، ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام؛ لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه، لا بحوله هو وقوته. فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه. وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأصنام وعبدت، فالذي خافه الخليل عليه السلام على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها، واتخذ ذلك دينا، وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم، بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده (*) فذكر عليه السلام السبب الذي أوجب له الخوف عليه وعلى ذريته بقوله (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) ، وقد ضلت الأمم بعباة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده. فمن تدبر القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه والوعيد على فعله، والثواب على تركه. وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن، وجهله بما أمر الله به ونهى عنه. نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال تعالى عن عيسى:(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ، رد أمرهم إلى الله كما رده محمد عليه السلام، وقد بين الله تعالى فيما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حكمه في أهل الشرك بأنه لا يغفره لهم فلا معارضة، وقد بين حكمه فيهم في هذا الكتاب العزيز الذي 41: 42 (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) . (*) فإن أكثر الناس يعتقدون أن الأقطاب الأربعة وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء والإماتة والرزق والضر والنفع وأن مجلس أوليائهم تعرض عليه شئون العالم. اقرأ كتاب الشعراني، و "الإبريز" للدباغ، وكتب التيجانية وغيرها من كتب أولئك الضالين المضلين، تجد الشرك الذي ما كان يخطر على بال أبي حهل وإخوانه؛ لأنهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم.
وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء "1.
قال المصنف: "وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء" أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معزو. وقد رواه الإمام أحمد والطبراني
والبيهقي، وهذا لفظ أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ "2.
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، ورجحه ابن عبد البر والحافظ.
_________
1 أحمد (5/428) ، والطبراني في الكبير (4301) . وصححه الألباني في الصحيحة (951) وصحيح الجامع (1551) .
2 مسند أحمد (5/428 ،5/429) .
وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين، وقيل سنة سبع وتسعين. وله تسع وتسعون سنة.
قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" هذا من شفقته صلي الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه; كما قال صلي الله عليه وسلم فيما صح عنه:" ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم - الحديث1". فإذا كان الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله2.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " 3 رواه البخاري.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " الشرك أخفى من دبيب النمل. قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " الحديث. وفيه: " أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان
1 جزء من حديث رواه مسلم: كتاب الإمارة (1844)(46) : باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء.
2 في قرة العيون: فإذا كان يخافه صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين وحدوا الله بالعبادة، ورغبوا إليه وإلى ما أمرهم به من طاعته، فهاجروا وجاهدوا من كفر به، وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم، وما أنزله الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك، فكيف لا يخاف من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل مما هو أكبر من ذلك؟ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك الأكبر فيهم بقوله في حديث ثوبان الآتي ذكره:"حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" وقد جرى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وعمت به البلوى في أكثر الأقطار حتى اتخذوه دينا مع ظهور الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتخويف منه كما قال تعالى: 72: 5 (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار)، وقال: 30: 22 ، 31 (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به)، وهذا هو تحقيق التوحيد كما تقدم في الباب قبله. ثم قال تعالى محذرا عباده من الشرك:(ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) . ومن لم تخوفه هذه الآيات وتزجره عن الشرك في العبادة إذا تدبرها فلا حيلة فيه.
3 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374 ،1/402 ،1/407 ،1/462 ،1/464) .
قتلني فلان " اهـ من الدر1.
قال المصنف: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " 2 رواه البخاري 3.
قال ابن القيم رحمه الله: "الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان، وند يده، أي مثله وشبيهه" اهـ. قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4.
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار "5.
قوله: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا" أي يجعل لله ندا في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
…
ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
…
كان من حجر ومن إنسان
يدعوه، أو يرجوه ثم يخافه
…
ويحبه كمحبة الديان
واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:
الأول: أن يجعله لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر.
والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم لما قال له رجل:" ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 6رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.
1 صحيح: أبو يعلى ص (19، 20) مصورة المكتب الإسلامي. وابن المنذر كما في الدر المنثور (4/54) . والحديث صححه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (17) وذلك لشواهده الكثيرة.
2 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/462) .
3 في قرة العيون: وهذا الحديث فيه التحذير من الشرك أيضا والتخويف منه. والند: المثل والشبيه، فمن دعا ميتا أو غائبا وأقبل عليه بوجهه وقلبه رغبة إليه ورهبة منه سواء سأله أو لم يسأله فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، ولهذا حرم الله تعالى اتخاذ الشفعاء وأنكره على من فعل ذلك أشد الإنكار؛ لكونه ينافي الإخلاص الذي هو إقبال القلب والوجه للشفيع في كل ما يخافه العبد ويرجوه ويتقرب به ويدين به. ومن المعلوم أنه إذا التفت للشفيع يسأله فقد أعرض بوجهه وقلبه عن الله تعالى وذلك ينافي الإخلاص. ويأتي بيان ذلك في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
4 سورة البقرة آية: 22.
5 مسلم: الإيمان (93) ، وأحمد (3/325 ،3/344 ،3/374 ،3/391) .
6 حسن: أحمد (1/214 ، 224 ، 283 ، 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في عمل اليوم والليلة (995) . وابن ماجة: كتاب الكفارات (2117) : باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (ص55) . وحسنه الألباني في الصحيحة (139) .
وفيه: بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ".
جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما -1 مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة.
قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئا" قال القرطبي: أي لم يتخذ معه شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة: أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة. وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2.
العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
وقال النووي: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم
1 كان عبد الله والد جابر من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم نقيب بني سلمة. ثم حضر بدرا. وقتل يوم أحد، فأخذ يبكي عليه ولده جابر وأخته فاطمة بنت عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تبكيه أو لا تبكيه، لا زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".
2 سورة إبراهيم آية: 36.
حكم بكفره بجحده وغير ذلك1.
وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به. لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا. وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة. فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة.
وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته. أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي2 انتهى.
1 يعني أنهم مستوون في الخلود في النار، ولكنهم متفاوتون في دركاتها. ولا يظلم ربك أحدا مثقال ذرة.
2 يعني خالطت حلاوة هذا الإيمان بشاشة قلبه فأثمرت الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. وإلا فكم من مدع لهذا الإيمان الإجمالي والتفصيلي وهو عري عنه إجمالا وتفصيلا.