المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

وقال النووي: " فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم".

قوله: "قالها ثلاثا" أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.

السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 1 فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.

الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.

التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.

العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47)، ومالك: الحدود (1558) .

ص: 229

‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

؟ "

في الصحيح " عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض

قوله: باب "ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ ".

أي الرجل الصالح؛ فإن عبادته هي الشرك الأكبر. وعبادة الله عنده وسيلة إلى

ص: 229

عبادته، ووسائل الشرك محرمة; لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب.

قوله: "في الصحيح: "عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة 1 وما فيها من الصور. فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "2. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل".

قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين.

قوله: "أن أم سلمة" هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع. وقيل: الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "3.

ثلاث; وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة4 ماتت سنة اثنتين وستين.

قوله: "ذكرت لرسول الله" وفي الصحيحين: " أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم". و"الكنسية" بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.

قوله: "أولئك" بكسر الكاف، خطاب للمرأة.

قوله: "إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح" هذا- والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلي الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه التحري في الرواية. وجواز الرواية بالمعنى.

1 لأن دين الحبشة: النصرانية. وقد أسلم النجاشي وجماعة من أهلها لما هاجر إليها جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين: الهجرة الأولى.

2 البخاري: كتاب الصلاة (427) : باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (528 (16) باب النهي عن بناء المساجد على القبور.

3 إنما كانوا شرار الخلق؛ لأنهم ضلوا وأضلوا وسنوا لمن بعدهم الغلو في القبور وأهلها المفضي بالغالين إلى عبادتها، وكل من فعل فعلهم من هذه الأمة التي سبق عليها القول بأن بعضها يتبع سنن المشركين من أهل الكتاب فهو مثلهم، وفي مثل هؤلاء ورد الحديث الذي في الصحيح:"ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) الآية.

4 ثم عادت مع زوجها أبي سلمة إلى مكة، وهاجر أبو سلمة إلى المدينة، وحبسها بنو المغيرة بمكة سنة; ثم لحقت بزوجها في المدينة; وتوفي أبو سلمة رضي الله عنه سنة أربع من الهجرة.

ص: 230

قوله: "وصوروا فيه تلك الصور" الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة.

قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله" وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلي الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي.

قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا لعنهم النبي صلي الله عليه وسلم.

قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم

فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.

الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم; ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فحذر النبي صلي الله عليه وسلم عن مثل ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك 1.

قوله: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل" هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، ذكره المصنف رحمه الله تنبيها على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل؛ فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلي الله عليه وسلم

1 في قرة العيون: ولم يذكر غير بناء المساجد والتصوير؛ لكونه ذريعة إلى عبادة من بنوا عليه المسجد وصوروا صورته، فبذلك صاروا شرار الخلق. فانظر إلى ما وقع في هذه الأمة من ذرائع الشرك والوقوع فيه مما هو أعظم من هذا، كالبناء على القبور وتعظيمها وعبادتها ومع ذلك يعتقدونه دينا وهو الشرك الذي حرمه الله، وأرسل الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنه.

ص: 231

عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأنها هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلي الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون; سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه صلي الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم; إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه" اهـ كلامه رحمه الله تعالى.

قوله: "ولهما عنها- أي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " لما نُزل برسول الله صلي الله عليه وسلم طَفِق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك -: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. ولولا ذلك أبرز

ص: 232

قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "1 أخرجاه".

قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم. وهو يغني عن قوله في آخره "أخرجاه".

قوله: "لما نزل" هو بضم النون وكسر الزاي. أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.

قوله: "طفق" بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح. وبه جاء القرآن، ومعناه جعل.

قوله: "خميصة" بفتح المعجمة والصاد المهملة. كساء له أعلام.

قوله: "فإذا اغتم بها كشفها" أي عن وجهه.

قوله: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 2 يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى.

قوله: "يحذر ما صنعوا" الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي صلي الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم؛ فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعليه- تحذيرا لأمته

1 نزل: بضم النون وكسر الزاي أي نزل به علامات الوفاة، وخاف على أمته أن يتخذوا قبره مسجدا، ويغلوا فيه فيشركون بالله كما فعل الذين لعنهم فحذرهم من ذلك، جزاه الله خير الجزاء.

2 هذا هو الشاهد للترجمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على تحري الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يصلي لله. فمن كان يصلي عند القبور ويتخذها مساجد فهو ملعون؛ لأنه ذريعة إلى عبادتها، فكيف إذا عبد المقبور فيها بأنواع العبادة، وسأله ما لا قدرة له عليه. وهذا هو الغاية التي يكون اتخاذ القبور مساجد ذريعة إليها. وليست اللعنة خاصة باليهود والنصارى لأشخاصهم أو أزمانهم أو أسمائهم، وإنما هي لأعمالهم، وكذلك من فعل فعلهم، فمن فعل ما هو أعظم من فعلهم أولى باللعن، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم تحذير أمته أن يتعرضوا لما تعرض له اليهود والنصارى من اللعنة؛ ولذلك قالت عائشة "يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره".

ص: 233

أن يفعلوه معه صلي الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله.

قال القرطبي في معنى الحديث: " وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام". انتهى.

إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيت قال:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 1 نكرة في سياق النفي تعم كل شرك. قوله: "ولولا ذلك" أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلي الله عليه وسلم مسجدا لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.

قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" روي بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلي الله عليه وسلم وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه. وعلى

ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس

رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، قلم يبرزوا قبره، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيما بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله.

قال القرطبي: " ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلي الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلي الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يمكنوا أحدا من استقبال قبره". 2 انتهى

1 سورة يوسف آية: 38.

2 وكان هذا الوضع قد جعل القبر لاصقا بالجدار الذي فيه باب جبريل، ولكن قد أزيل هذا الوضع وأخلي حول القبر من جهاته الأربع، وأصبح كثير من المصلين يستقبلونه ممن يكون في الموضع الخاص بالأغوات، وفي المكان الخاص بالنساء، وأصبح عرضة لأن يطاف به. وقد رأيت كثيرا من العامة يطوفون به، ويحاولون التمسح به لولا منع الجند الذين خصصتهم الحكومة السعودية لذلك المنع، ومهما حرص الجند على أداء وظيفتهم، فلن يمكنهم ولا أي قوة أن تمنع هذا منعا باتا، اللهم إلا العلم الذي ينير قلوب الجمهور الإسلامي ويعرفهم حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها إنما تكون بإتباع دينه كما كان أصحابه رضي الله عنهم يفعلون، وهم أشد الناس حبا لله ولرسوله. وأن يعود الناس إلى الأمر الأول الذي كان عليه السلف الصالح في كل شئونهم، فعند ذلك لا حاجة لجند ولا قوة. والله يهدي الناس إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم.

ص: 234

قوله: "ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا; كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".

وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا،

قوله: "عن جندب بن عبد الله" أي ابن سفيان البجلي، وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين.

قوله: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله. والخلة فوق المحبة. والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخلة - بفتح الخاء - وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر:

قد تخللت مسلك الروح مني

وبذا سمي الخليل خليلا

هذا هو الصحيح في معناها. كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى.

قال القرطبي: " وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلي الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره".

قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلا" فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.

1 وقد ذكر الشارح بعد هذا بعض ما ذكر المصنف من المسائل المستنبطة من حديث الباب حذفناها لعدم التكرار.

ص: 235

قال ابن القيم رحمه الله: " وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها، ولعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم. وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين".

قوله: "ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة. وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف رحمه الله، وهو كما قال بلا ريب 1.

وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره. وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلي الله عليه وسلم لما قيل يصلي بهم عمر2، وذلك في مرضه الذي توفي فيه صلي الله عليه وسلم.

واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد

1 فإن أول من فعل ذلك العبيديون الذين زعموا كذبا أنهم فاطميون. شيدوا للحسين رضي الله عنه وبرأه الله منهم ومن شيعتهم ومحبيهم- قبرا بالقاهرة، ورفعوا عليه قبة عظيمة وبنوا له المسجد المشهور الذي بالقاهرة، يقام فيه من الأعمال الشركية ما يغضب الله ورسوله وآل بيته وكل من في قلبه حب الله ورسوله والإيمان الصحيح. وقد صنف كثير من العلماء السالفين في بيان كذب أولئك العبيديين وبيان نحلتهم الكافرة الفاجرة، وأنهم كانوا يظهرون الرفض ويبطنون الكفر. وممن كتب في ذلك الإمام أبو بكر الباقلاني في كتاب نفيس سماه كشف الأسرار وهتك الأستار; والإمام ابن الجوزي وغيرهم. انظر في ذلك البداية والنهاية للعماد ابن كثير في حوادث سنة 402 (ج 11 ص 249) .

2 الذي قال ذلك وعرضه: عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: قالت: "إن أبا بكر رجل أسيف، لا يملك نفسه إذا صلى. فمر عمر يصلي بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس".

ص: 236

بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه.

قوله: "ألا" حرف استفتاح "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد - الحديث" قال الخلخالي: وإنكار النبي صلي الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما.

الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول: هو الشرك الجلي. والثاني: الخفي. فلذلك استحقوا اللعن.

قوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته" أي كما في حديث جندب. وهذا من كلام شيخ الإسلام. وكذا ما بعده.

ثم إنه لعن وهو في السياق مَن فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يُبن مسجد.

قوله: "ثم إنه لعن، وهو في السياق1 مَن فعله" كما في حديث عائشة.

قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟ هذا أعظم مشاقة ومحادّة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون.

قوله: "الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد" أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله.

وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة

1 أي في سياق الموت، أصله "سواق" قلبت الواو ياء لكسر السين، كأن روحه تساق لتخرج من البدن، وسياق وسواق مصدران من ساق يسوق.

ص: 237

والحمام "1 رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم.

قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته - صيغة "لا تفعلوا"، وصيغة "إني أنهاكم عن ذلك"- ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عُدم من "لا إله إلا الله" فإن هذا وأمثاله من النبي صلي الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه،

وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا. وكل موضع قُصد الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلي الله عليه وسلم:" جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "2.

أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم لها أشد تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله، من هذا الباب دخل الشيطان على عبّاد يعوق ويغوث ونسر; ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة; فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم.

قال الشارح -رحمه الله تعالى-: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله. وهو الحق الذي لا ريب فيه.

قوله: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا" أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.

قوله: "وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا" أي وإن لم يبن مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، يعني وإن لم يقصد بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدا.

1 صحيح: أحمد (3/ 83) . أبو داود: كتاب الصلاة (492) : باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والترمذي: كتاب أبواب الصلاة (317) : باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام. وابن ماجة: كتاب المساجد (745) : باب المواضع التي يكره فيها الصلاة. وابن حبان (338- موارد) . والحاكم (1/ 251) : وصححه الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي. والألباني في أحكام الجنائز (137) . (*) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج 19/ 26) : "علة النهي أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين" اهـ.

2 البخاري: التيمم (335)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521)، والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) ، وأحمد (3/304)، والدارمي: الصلاة (1389) .

ص: 238

قوله: "كما قال صلي الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " 12" أي فسمى الأرض مسجدا، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة ونحوها.

ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 3 ورواه أبو حاتم في صحيحه.

قال البغوي في شرح السنة: " أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم; فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس". انتهى.

قوله: "ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه"4.

قوله: "إن من شرار الناس" بكسر الشين جمع شرير.

1 البخاري: كتاب الصلاة (438) : باب قول النيي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ومسلم: كتاب المساجد (523)(5) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

2 رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه، وفيه زيادة:"فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته".

3 صحيح. أحمد (1/ 435) . ابن حبان (340) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في الحمام والمقبرة. وقال ابن تيمية في الاقتضاء (158) : وإسناده جيد وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3844 ، 4143) وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 19) .

4 في قرة العيون: (قلت) وقد وقع هذا في الأمة كثيرا كما وقع في أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد زاد هؤلاء المتأخرون من هذه الأمة على ما وقع من أهل الجاهلية من هذا الشرك بأمور: (منها) أنهم يخلصون عند الاضطرار لغير الله وينسون الله. (ومنها) أنهم يعتقدون أن آلهتهم من الأموات يتصرفون في الكون دون الله. وجمعوا بين نوعي الشرك في الإلهية والربوبية، وقد سمعنا ذلك منهم مشافهة، ومن ذلك قول ابن كمال من أهل عمان وأمثاله: إن عبد القادر الجيلاني يسمع من دعاه ومع سماعه ينفع، فزعم أنه يعلم الغيب وهو ميت، فلقد ذهب عقل هذا وضل فكفر بما أنزله الله في كتابه كقوله:(35: 14)(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) . فما صدقوا الخبير فيما أخبر به عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، ولا آمنوا بما أنزله الله في كتابه بل بالغوا وعاندوا في رده وكذبوا وألحدوا، وكابروا المعقول والمنقول فالله المستعان.

ص: 239

قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء" أي مقدماتها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع.

فيه مسائل:

الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.

الثانية: النهي عن التماثيل وغِلظ الأمر في ذلك.

قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد" معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلي الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى. فما رفع أكثرهم بذلك رأسا، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغّبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.

قال شيخ الإسلام: " أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة. وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك "إلى أن قال" وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره. هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين".

وقال ابن القيم رحمه الله: " يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أُسست على معصية الرسول صلي الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما".

وقال القاضي ابن كج: " ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة".

ص: 240

الثالثة: العبرة في مبالغته صلي الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس، قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.

الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.

الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.

السادسة: لعنه إياهم على ذلك.

السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.

الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.

وقال الأذرعي: " وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه".

وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه: " نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه " 1: " وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه".

وقال ابن رشد: " كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف عليه".

وقال الزيلعي في شرح الكنز: " ويكره أن يبنى على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه؛ لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة - عند الحنفية رحمهم الله كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز".

وقال الشافعي رحمه الله: " أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم.

1 مسلم: كتاب الجنائز (970)(94) : باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.

ص: 241

التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.

العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.

الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد. الثانية عشرة: ما بُلي به صلي الله عليه وسلم من شدة الفزع.

الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.

الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.

الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.

السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.

قال الشارح -رحمه الله تعالى-: " وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا".

وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني، والكافي وغيرهما -رحمه الله تعالى-:" ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى "1 الحديث، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى 2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب. ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا; لعموم الاسم وعموم العلة؛ ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس".

وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي صلي الله عليه وسلم، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بني عليه مسجد، فلا يصلي في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك "3. وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم; واتخاذها مساجد أشد، وكذلك إن لم يكن عليه بني مسجد، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة

1 تقدم تخريجه برقم [166] .

2 وقد صرح ابن حجر الهيتمي المكي في كتابه الكبائر: ((أن بناء القباب على القبور من الكبائر المحرمة بالنص الصريح. وأن الواجب على ملوك المسلمين وأمرائهم وولاتهم أن يهدموا هذه القباب ويبدأوا بقبة الإمام الشافعي)) .

3 تقدم تخريجه برقم [167] .

ص: 242

التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجدا، كما قال صلي الله عليه وسلم:" جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "1. وإن كان موضع قبر أو قبرين. وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضي منع الصلاة عند كل قبر. وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال:" لا أصلي في حمام ولا عند قبر ".

فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولا لحريم القبر وفنائه، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا.

قال في رواية الأثرم: " إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز، ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تصلوا على القبور " 2. وقال: إسناده جيد". انتهى.

ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.

وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيّروا بها ما قصده الرسول صلي الله عليه وسلم بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص المقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها

1 تقدم تخريجه برقم [169] .

2 مسلم: كتاب الجنائز (972)(98) : باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.

ص: 243