المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده". انتهى.

ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1. قال: "أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة".

وفي الحديث عن الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره.

1 سورة هود آية: 7.

ص: 372

قوله: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا".

فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟

قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين. وهو أيضا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام. ويفارق الرياء بكونه عمل عملا صالحا، أراد به عرضا من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالا، كما في الحديث.

" تعس عبد الدينار "2. أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة، وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال

_________

1 سورة هود آية: 15-16.

2 جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري: كتاب الجهاد (2887) : باب الحراسة في الغزو في سبيل الله وسيأتي برقم (232) .

ص: 372

التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا.

قال: "وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ".

قال ابن عباس رضي الله عنه: "من كان يريد الحياة الدنيا" أي ثوابها. وزينتها: أي مالها. نوف أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد. "وهم فيها لا يبخسون" لا ينقصون، ثم نسختها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} 1 الآيتين. رواه النحاس في ناسخه.

قوله: "ثم نسختها" أي قيدتها. فلم تبق الآية على إطلاقها2. وقال قتادة: " من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة " ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة 3 عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد ابن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه "أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله

1 سورة الإسراء آية: 18.

2 من العجيب جدا دعوى النسخ (*) . فإن الآيتين في معنى واحد. وتفسير النسخ بتقييد مطلقها -يعني بالمشيئة- كذلك غير واضح، والظاهر أنها لا تثبت رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. (*) قوله:(من العجيب جدا دعوى النسخ) إلخ. أقول: ليس في ذلك ما يتعجب منه؛ لأن معنى النسخ عند السلف أوسع من معناه عند الفقهاء؛ لأن السلف يطلقون النسخ على تقييد المطلق وتخصيص العام؛ لكونهما غيرا المعنى المفهوم من النص المطلق والنص العام، ومعلوم أن آية هود مطلقة ظاهرها أن مريد الدنيا بأعماله يعطى مراده، وآية الأسرى بينت أنه لا يعطى من ذلك إلا ما شاء الله، وإن ذلك أيضا لا يحصل إلا لمن أراده الله، فاتضح من ذلك أن طالب الدنيا بأعماله قد يعطى مراده إذا شاء الله ذلك، وقد يعمل ولا يحصل له ما أراد؛ لأن الله سبحانه لم يشأ ذلك، وهذا واضح جدا، والله أعلم.

3 صحيح. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (2382) : باب ما جاء في الرياء والسمعة. وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان (2502- موارد) ، والحاكم (1/ 418 ، 419) ، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 13: 15) . وصحيح الجامع (1709) .

ص: 373

صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة1 ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره. ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه; واشتد به طويلا. ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعّر بهم النار يوم القيامة "2.

1 نشغ بفتح النون والشين المعجمة وبعدها غين معجمة; أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفا وخوفا.

2 تمام الحديث عند ابن جرير وغيره: "قال أبو عثمان الوليد: فأخبرني عقبة أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سيافا لمعاوية قال: فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا؟ فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر. ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) . قال المنذري: ورواه ابن خزيمة في صحيحه.

ص: 374

وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه.

فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله: من صدقة وصلاة، وصلة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.

النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه: وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.

النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.

النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله، أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، فقال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1.

ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلص، ويسكت عن

1 سورة المائدة آية: 27.

ص: 375

صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله اهـ.

في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش،

قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع " 1.

قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري. قوله: "تعس" هو بكسر العين ويجوز الفتح، أي سقط، والمراد هنا هلك. قاله الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي شقي. قال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك.

قوله: "عبد الدينار" هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن.

قوله: "تعس عبد الدرهم" وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزنا، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية، وهو زنة خمسين حبة شعير وخُمسا حبة، سماه عبدا له؛ لكونه هو المقصود بعمله، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته كما هو حال الأكثر.

قوله: "تعس عبد الخميصة" قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلَّمة، وتجمع على خمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة.

وقال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خَمَل من أي شيء كان.

قوله: "تعس وانتكس" قال الحافظ: هو بالمهملة، أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي

بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه. وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.

1 البخاري: الجهاد والسير (2887)، وابن ماجه: الزهد (4136) .

ص: 376

قوله: "وإذا شيك" أي أصابته شوكة "فلا انتقش" أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات. والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة. وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله:"تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.

وقد وصف ذلك بأنه "إن أُعطي رضي، وإن مُنِع سخط" كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 1. فرضاؤهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: -

وهكذا أيضا طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه. وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك; فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعا.

ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم:" تعس عبد الدينار; تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة ". وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها

1 سورة التوبة آية: 58.

ص: 377

طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض لله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصا.

قوله: "طوبى لعبد" قال أبو السعادات: "طوبى" اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: "قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".

ورواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم1 حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلا قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك; قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها "2.

وله شواهد في الصحيحين وغيرهما. وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا. قال وهب رحمه الله: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود3 وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، بينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ

1 ابن لهيعة وأبو الهيثم ضعيفان. كما صرح بذلك الإمامان أحمد وأبو داود. وقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ".

2 صحيح: أحمد (3/ 71) ، وابن حبان (2625- موارد) . وصححه الألباني في الصحيحة (1241) ، وصحيح الجامع (3818) لشواهده وطرقه.

3 الرياط: جمع ريطة -بفتح الراء المهملة- ثوب كالملاءة. قيل: كل ثوب رقيق لين. والبرد: كالعباءة (*) . (*) قوله: (والبرد كالعباءة) فيه نظر، والصواب أن البرد لا يشبه العباءة بل هو نوع آخر، قال في القاموس ما نصه:(البرد بالضم: ثوب مخطط جمعه أبراد وأبرد وبرود، وأكسية يلتحق بها. الواحدة بالهاء) انتهى.

ص: 378

من الفراش. خَبّا من غير مِهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أُذن راحلة منها أُذن صاحبتها، ولا برك راحلة برك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام. قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري. قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فائذن لنا بالسجود قدامك. قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، بأن لكل رجل منكم أمنيته. فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى: لقد قَصّرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قِصَر يَدٍ.

قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم1 التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقرّنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما

كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك. ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له".

وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: "فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها

1 في ابن جرير: "حتى يقضوهم أمانيهم". وفي ابن كثير: "حتى تقصر بهم أمانيهم".

ص: 379

من ذهب وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشُرَفها من قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف، فينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام. فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} 1. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا. قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 2. وهذا سياق غريب وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين3.

وقال خالد بن معدان: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، ضُروع كلها، ترضع صبيان

1 سورة الأعراف آية: 44.

2 سورة فاطر آية: 34-35.

3 قال هذا الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد: (13: 29)(الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) . وقال فيه ابن كثير: إنه سياق غريب وأثر عجيب اهـ. وظاهر عليه صبغة الإسرائيليات الملفقة. وكم لوهب بن منبه وكعب الأحبار من هذه الخرافات والآثار السخيفة التي تمجها الفطر السليمة، وقد فتن الناس بهذه الإسرائيليات وفسدت بها عقائد كثير منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 380

أهل الجنة، وإن سَقْط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" رواه ابن أبي حاتم.

قوله: "أخذ بعنان فرسه في سبيل الله" أي في جهاد المشركين.

قوله: "أشعث" مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل. و "رأسه" مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر.

قوله: "مغبرة قدماه" هو بالجر صفة ثانية لعبد.

قوله: "إن كان في الحراسة كان في الحراسة" هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم.

قوله: "كان في الحراسة" أي غير مقصر فيها ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال. قوله:"وإن كان في الساقة كان في الساقة" أي في مؤخرة الجيش، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلا أو نهارا، رغبة في ثواب الله وطلبا لمرضاته ومحبة لطاعته.

فيه مسائل:

الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.

الثانية: تفسير آية هود.

الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.

الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط.

الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".

السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش".

السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.

قال ابن الجوزي رحمه الله: " وهو خامل الذكر لا يقصد السمو ". وقال الخلخالي: " المعنى ائتماره بما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة؛ لأنهما أشد مشقة". انتهى. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله.

قوله: "إن استأذن لم يؤذن له" أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه.

قوله: "وإن شفع" بفتح أوله وثانيه "لم يشفّع" بفتح الفاء مشددة. يعني لو

ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم.

وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره

ص: 381

وروى الإمام أحمد أيضا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان "رضي الله عنه وهو يخطب على منبره-: " إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " 2.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدثني محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج. وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة. قال:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل

فخيولهم يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

رَهَج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي غبار خيل الليل في

أنف امرئ ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث، وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: " أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت، فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهد لَيْسَتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك حسنات "؟ 3 4

1 الترمذي: فضائل الجهاد (1667)، وابن ماجه: الجهاد (2766) ، وأحمد (1/64)، والدارمي: الجهاد (2424) . وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (2703) .

2 البخاري: كتاب الجهاد (2785) : باب فضل الجهاد والسير من حديث أبي هريرة بنحوه.

3 روى البخاري حديث سؤال الرجل هذا عن أبي هريرة. وفيه: فقال أبو هريرة: "فإن فرس المجاهد ليستن يمرح في طوله فيكتب له حسنات". والطول: الحبل. والاستنان: العدو. وروى مسلم مثله قريبا منه في فضل الجهاد في سبيل الله.

ص: 382