الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم. فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه " 1.
وفي قصة عمر: بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفا للناس؛ فإنه قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "2. فصلوات الله وسلامه عليه.
1 مسلم كتاب الجهاد والسير (1801)(119) : باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وهذا تقصير، فالحديث أخرجه البخاري أيضا: كتاب الرهن (2510) : باب رهن السلاح.
2 البخاري: كتاب المناقب (3518) : باب ما ينهى من دعوى الجاهلية. مسلم: كتاب البر والصلة (2584)(63) : باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
1.
قوله: "باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} .
سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها. وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم "الرحمن" عنادا. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2. و"الرحمن" اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة وصفه سبحانه، وهي من صفات الكمال; فإذا كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه تعالى، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده، فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
…
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عن
…
هم بل حكاه قبله الطبراني
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله
_________
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة الإسراء آية: 110.
من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام. فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسما، هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات; فشبهوا أولا
وفي صحيح البخاري قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ "1.
وعطلوا ثانيا، وشبهوه ثالثا بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها؛ فإنهم أثبتوا لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتا لا تشبه الذوات، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه; فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك وتناقضوا. فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة، وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.
وقد صنف العلماء -رحمهم الله تعالى- في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع، وما فيها من التناقض والتهافت: كالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رده المشهور، وكتاب السنة لابنه عبد الله، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكتاني في رده على بشر المريسي، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد. وهو بشر المريسي، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم، وأهل الحديث. ومن متأخريهم: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم -رحمهم الله تعالى-. فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم.
قوله: "وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون
1 البخاري: كتاب العلم (127) : باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية لا يفهموا.
أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ ".
"علي": هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين. وسبب هذا القول - والله أعلم - ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ. فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل1 فربما استنكرها بعض الناس وردها. وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علما وعملا، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته، وكثرة خوضهم وجدلهم.
وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم، وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة؛ لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده. والمعصوم من عصمه الله.
وقد كان أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص; لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك; ويقول: " لا يقص إلا أمير أو مأمور "2. وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه
1 وقد كان هؤلاء القصاص لعدم تحريهم الصدق سببا في وضع كثير من الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكرها أئمة الجرح والتعديل، وحذروا الناس منها. ودونوا دواوين الصحاح والسنن والمسانيد. فلا ينبغي لأحد اليوم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثا إلا بذكر من خرجه، وخير وأولى أن يشفعه ببيان درجته من الصحة أو الضعف، إذا كان في غير الصحيحين.
2 ثبت هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عوف بن مالك بلفظ: " لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال". أخرجه أبو داود: كتاب العلم (3665) : باب في القصص. وأحمد (6/22، 6/27، 6/29) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (7630) .
رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات - استنكارا لذلك- فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رِقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه " 1. انتهى.
المستقيم علما وعملا ونية وقصدا، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: "وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فَرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه ". قوله:"وروى عبد الرزاق" هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرا.
ومعمر- بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيرا.
قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله بن طاوس اليماني. قال معمر: " كان من أعلم الناس بالعربية". وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن أبيه" هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذَكوان. قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء ابن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهروان. قال: فمن العرب أم من
1 صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (485) . وقال الألباني في تخريج السنة: "إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم غير ابن ثور واسمه محمد وهو ثقة اتفافا" ا. هـ.
الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك، ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، مَن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط ".
قوله: "عن ابن عباس" قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "1.
وروى عنه أصحابه أئمة التفسير: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء ابن أبي رباح، وطاوس وغيرهم.
قوله: "ما فرق هؤلاء؟ " يستفهم من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فَرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين2. قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال:"أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها". أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية. وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فتشبه حالهم حال من قال الله فيهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 3. فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
1 تقدم تخريجه برقم (44) .
2 قال الشيخ رحمه الله في قرة عيون الموحدين: وقد ظهر من البدع في زمن ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان. قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر. ثم بعد ذلك أظهر الجعد بن درهم بدعة الجهمية، فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد بمكة. اهـ.
3 سورة البقرة آية: 85.
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ} 1. فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس رضي الله عنهما تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع: كالخوارج والرافضة والقدرية، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته. وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم; فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس.
وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة
المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم. وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
" ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه"
قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم – وصححه-2 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا ". قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 3 الآية. قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله:{آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} 4 قال: "منهن قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 5 إلى ثلاث آيات، ومنهن "{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} 6 إلى آخر الآيات".
وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم:"المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات".
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 352- حسن: الحاكم (1/ 553) . وحسنه الألباني في الصحيحة (587) لطرقه.
3 سورة آل عمران آية: 7.
4 سورة آل عمران آية: 7.
5 سورة الأنعام آية: 151.
6 سورة الإسراء آية: 23.
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر " الرحمن " أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 2 فقال أبو فاختة: "هن فواتح السور، منها يستخرج القرآن {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} منها استخرجت البقرة، و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام، والحدود وعماد الدين". 4
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: "المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه. "وأخر متشابهات" في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق".
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان إنما قال: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ؛ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 5 يعني فيما بلغنا "الم" و "المص" و "المر".
قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان.
قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} . روى ابن جرير عن قتادة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش:"6 لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم. فقال: لا. اكتبوا كما يريدون: إني محمد بن عبد الله. فلما كتب الكاتب "بسم الله
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يُفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه.
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة آل عمران آية: 7.
3 سورة آل عمران آية: 1-2.
4 تمام الأثر عند ابن جرير: "وضرب لذلك مثلا. فقال: أم القرى مكة. وأم خراسان مرو. وأم المسافرين: الذي يجعلون إليه أمرهم. ويعنى بهم في سفرهم. قال: فذاك أمهم".
5 سورة آل عمران آية: 7.
6 الذي كان يقول ذلك هو سهيل بن عمرو الذي ندبته قريش ليتولى عنها عقد هذا الصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.