الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: لا يستشفع بالله على خلقه
عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نُهِكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! فما زال
قوله: "باب لا يستشفع بالله على خلقه".
وذكر الحديت1 وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه:
"عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على
_________
1 يعني أن المصنف ساق حديث جبير بن مطعم ناسبا له إلى أبي داود ولكنه اختصره.
الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له، ودلت عليه من إثبات صفات الله –تعالى- التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مفتاح دار السعادة - بعد كلام سبق فيما يُعرّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك:
" والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء; فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين; وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير; وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيئته خاشعا لعظمته عانيا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه! وأعظم
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب". اهـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1 2. وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، وأما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه; كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 3. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة رضي الله عنهم، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لعمر رضي الله عنه 5 لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه6. فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا. فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق.
1 ضعيف: جزء من حديث ابن عمر أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال
…
الحديث. أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة (1498) : باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3562) : باب رقم (121)، وابن ماجة: كتاب المناسك (2894) : باب فضل دعاء الحاج وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (2248) ، وضعيف الجامع (6292) .
2 رواه أبو داود وأحمد في المسند (ج 1 ص 29 وج 2 ص 59) عن عبد الله بن عمر "أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له. فقال: يا أخي أشركنا في صالح دعائك; ولا تنسنا". قال عبد الرزاق في حديثه: فقال عمر: "ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس" لقوله: يا أخي.
3 سورة فاطر آية: 13-14.
4 سورة الأحقاف آية: 6.
5 صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (1010) : باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. من حديث أنس رضي الله عنه.
6 رواه البخاري. وقد حصل ذلك في عام الرمادة سنة ثمان عشرة، ودام القحط تسعة أشهر. قال الحافظ في الفتح (ج 2 ص 339) : وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقعت فيه. فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال:"اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة; وقد توجه القوم إليك بي لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث". فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.