المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: كتاب التوحيد

- ‌باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

- ‌باب: ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما

- ‌باب: " ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌باب: " من الشرك النذر لغير الله

- ‌باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}

- ‌باب الشفاعة

- ‌باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}

- ‌باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

- ‌باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده

- ‌باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

- ‌باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌باب " ما جاء في السحر

- ‌باب: " بيان شيء من أنواع السحر

- ‌باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب: " ما جاء في النُّشْرة

- ‌باب: " ما جاء في التطير

- ‌باب: " ما جاء في التنجيم

- ‌باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله

- ‌باب: " ما جاء في الرياء

- ‌باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله

- ‌باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}

- ‌باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: "قول "ما شاء الله وشئت

- ‌باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله

- ‌بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ

- ‌باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

- ‌باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية

- ‌باب "لا يقال " السلام على الله

- ‌باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب " لا يقول عبدي وأَمَتي

- ‌باب " لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب: ما جاء في "لو

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ

- ‌باب: " ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: " ما جاء في المصورين

- ‌باب: " ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

- ‌باب: " ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

الفصل: ‌باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

الخامسة: قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " بسبب نزول النعمة.

السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.

السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.

الثامنة: التفطن لقوله " لقد صدق نوء كذا وكذا".

التاسعة: إخراج العالم للتعليم للمسألة بالاستفهام عنها لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم"؟

العاشرة: وعيد النائحة.

ص: 332

قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ".

لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية. قال في شرح المنازل: " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية؛ فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة؛ فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2. وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.

وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ؛ مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} من الكفار لأوثانهم. ثم روي عن ابن زيد قال:

_________

1 سورة البقرة آية: 165.

2 سورة البقرة آية: 165.

ص: 332

هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا بالله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم آلهتهم". 1 انتهى.

والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 فإن فيها قولين أيضا: أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن شرّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى: حكاية عنهم، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية4، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 5 به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 6. وهذه تسمى آية المحنة. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ

1 مدارج السالكين أول الجزء الثالث من طبعة المنار.

2 سورة البقرة آية: 165.

3 سورة الشعراء آية: 97-98.

4 في قرة العيون: وقد وقع الشرك في الربوبية أيضا في كثير من الخاصة والعامة في آخر هذه الأمة، فاعتقدوا أن لهؤلاء الأموات تصرفا في الكون ونحو ذلك.

5 سورة الأنعام آية: 1.

6 سورة آل عمران آية: 31.

ص: 333

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 1 ذكر لها أربع علامات:

إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين. قيل: معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمّن "أذلة" هذا المعنى عداه بأداة "على". قال عطاء رحمه الله: للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2.

العلامة الثالثة3: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة.

العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 4. فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته; بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه. وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته; فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم; بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان.

وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا

خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.

1 سورة المائدة آية: 54.

2 سورة الفتح آية: 29.

3لم يذكر الثانية. ولعله اكتفى بما في كلام عطاء من الإشارة إليها بقوله: وعلى الكافرين.

4 سورة الإسراء آية: 57.

ص: 334

قال أبو بكر: "جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله في أيام الموسم- فتكلم الشيوخ فيها; وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه; ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه; أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله; وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين".

وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة:

أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.

الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.

الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.

الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.

السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.

السابع: - وهو أعجبها- انكسار القلب بين يديه.

الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي1، وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك.

وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 2.

العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب.

قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ

1وذلك إذا مضى ثلثا الليل كما في حديث النزول.

2 سورة التوبة آية: 24.

ص: 335

وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ".

أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.

قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أي إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود- واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم "1.

فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلي الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها.

عن أنس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " 2 أخرجاه.

قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". أخرجاه" أي البخاري ومسلم.

قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث:" أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر "3. رواه البخاري.

فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض

1 صحيح. أحمد (2/ 28 ، 42 ، 84) . وأبو داود: كتاب البيوع (3462) : باب في النهي عن العينة. وقال الألباني في الصحيحة (1/ 15) : "وهو حديث صحيح لمجموع طرقه".

2 البخاري: الإيمان (15)، ومسلم: الإيمان (44)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5013)، وابن ماجه: المقدمة (67) ، وأحمد (3/177 ،3/275)، والدارمي: الرقاق (2741) .

3 البخاري: الأيمان والنذور (6632) ، وأحمد (4/233 ،4/336 ،5/293) .

ص: 336

للعقوبة فقد صدق; وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام رحمه الله.

فمن ادعى محبة النبي صلي الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب، كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 1. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد; ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا؛ إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة; وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق". انتهى.

وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب.

وفيه: أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها؛ فإنها محبة لله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها، وكل من كان محبا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح. وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه. وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله، لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده.

قوله: "ولهما عنه - أي البخاري ومسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله

1 سورة النور آية: 47.

ص: 337

أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "1 وفي رواية:" لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله " 2 إلخ".

قوله: "ثلاث" أي ثلاث خصال. قوله: "من كن فيه" أي وجدت فيه تامة.

قوله: "وجد بهن حلاوة الإيمان" الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.

قال السيوطي رحمه الله في التوشيح: "وجد حلاوة الإيمان" فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه".

وقال النووي: " معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول صلي الله عليه وسلم".

قال يحيى بن معاذ: " حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء". قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" يعني بالسوي: ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون "أحب" هنا على بابها. وقال الخطابي:" المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال. وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها، فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله". وفي بعض الأحاديث.

" أحبوا الله بكل قلوبكم "3. فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في

وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ".

مرضاته ما استطاع; ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4، فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه، فذلك عَلَم على عدم محبته لله ورسوله؛ فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه. ومن لا فلا; كما في آية المحنة ونظائرها. والله المستعان.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له. فمن أحب شيئا

1 البخاري: الإيمان (16)، ومسلم: الإيمان (43)، والترمذي: الإيمان (2624)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ،4988 ،4989)، وابن ماجه: الفتن (4033) ، وأحمد (3/103 ،3/113 ،3/172 ،3/174 ،3/176 ،3/206 ،3/230 ،3/248 ،3/251 ،3/272 ،3/275 ،3/278 ،3/288) .

2 البخاري: الأدب (6041) .

3 ضعيف: رواه البيهقي في الدلائل كما في الدر المنثور (3/ 67) . عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا فهو ضعيف لإرساله. أفاده الدوسري في النهج السديد (356) .

4 سورة النساء آية: 80.

ص: 338

واشتهاه، إذا حصل له مراده؛ فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهم؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.

ومن لوازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي. قال: وتفريغها. أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار". انتهى.

قوله: "أحب إليه مما سواهما" فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلي الله عليه وسلم، وفيه قولان:

وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى " 1 إلى آخره.

أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة؛ فإنها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث الخطيب2 إشعارا بأن كل واحد من

1 البخاري: الأدب (6041) .

2 وذلك ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم: "أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى. فقال له صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت. قل: من يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى". قال النووي: ((سبب الإنكار عليه أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح، واجتناب الإشارات والرموز. قال: ولهذا ثبت أن رسول الله كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه، قال: وإنما ثنى الضمير في قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"؛ لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم، فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف الخطبة)) اهـ. أقول: ولعلها حادثة حال لها ظروفها التي اقتضت أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والله أعلم.

ص: 339

العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.

الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا هو الجواز. وجواب ثالث: وهو أن هذا وارد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح.

قوله: "كما يكره أن يقذف في النار" أي يستوي عنده الأمران. وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا وإن تاب منه. والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة، مع كونهم في الأصل كفارا فهداهم الله إلى الإسلام، والإسلام يمحو ما قبله، وكذلك الهجرة. كما صح الحديث بذلك.

قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد" هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " 1

وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك. قال الشاعر:

أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليّ ولكن ملء عين حبيبها

قوله: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ". رواه ابن جرير". وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.

قوله: "من أحب في الله" أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك.

قوله: "وأبغض في الله" أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته؛ لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 الآية. قوله: "ووالى في الله" هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى أحب فيه، ووالى أولياءه، وعادى أهل معصيته وأبغضهم، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره. وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها; وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم.

قوله: "فإنما تنال ولاية الله بذلك" أي توليه لعبده. و "ولاية" بفتح الواو لا غير: أي الأخوة3 والمحبة والنصرة، وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأول. ولأحمد والطبراني عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ". رواه ابن جرير.

1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .

2 سورة المجادلة آية: 22.

3 لعل كلمة "الأخوة" زائدة أو مبدلة عن كلمة أخرى تناسب المقام.

ص: 340

" لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله "1. وفي حديث آخر: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله عز وجل " 2. رواه الطبراني.

قوله: "ولن يجد عبد طعم الإيمان" إلى آخره. أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، أي حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله; ويوالي فيه. وفي حديث أبي أمامة مرفوعا:" من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان "3. رواه أبو داود.

قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا. وذلك لا يجدي على أهله شيئا" أي لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

1 أحمد (3/ 430) . وقال الهيثمي في المجمع (1/ 89) : "وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف" ا. هـ.

2 حسن. الطبراني في الكبير (10531) ، (10537) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 260 ، 261) : رواه الطبراني بإسنادين ورجاله أحدهما رجال الصحيح. وحسنه الألباني لشواهده في صحيح الجامع (2536) . وراجع الصحيحة (1728) .

3 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4681) : باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. وصححه الألباني في الصحيحة (380) وصحيح الجامع (5841) .

ص: 341

إِلا الْمُتَّقِينَ} 1. فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به صلي الله عليه وسلم بقوله:

وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2 قال: المودة". فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية البقرة.

الثانية: تفسير آية براءة.

الثالثة: وجوب محبته صلي الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.

الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.

الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.

السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.

السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.

" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 3 4. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلي الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضا على نفسه محبة في الله وتقربا إليه. كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " "لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم" ". رواه ابن ماجه.

قوله: " وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قال: "المودة". هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

قوله: "قال: المودة" أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض; كما قال تعالى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 6.

قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} 7 الآيتين: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم؛

1 سورة الزخرف آية: 67.

2 سورة البقرة آية: 166.

3 مسلم: كتاب الإيمان (145) و (146) : باب بيان الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

4 رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة. والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود. وقد شرحه الحافظ ابن رجب شرحا نفيسا سماه " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة" طبع مرارا.

5 سورة الحشر آية: 9.

6 سورة العنكبوت آية: 25.

7 سورة البقرة آية: 166.

ص: 342

فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله. وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها: من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلي الله عليه وسلم تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشرك بينه وبين غيره; فضلا عن تقديم قول غيره عليه.

فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم. وقد قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 1. فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباء منثورا لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلا. وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعا. وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصا.

الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2.

التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.

العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية3 أحب إليه من دينه.

الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.

1 سورة الفرقان آية: 23.

2 سورة البقرة آية: 166.

3 هي الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.

ص: 343