الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلي الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول صلي الله عليه وسلم عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
"
روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.
قوله: "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله".
_________
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530)، والنسائي: الجنائز (2047) ، وأحمد (2/246) .
"روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد; اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1".
هذا الحديث رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: الحديث ". ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: " اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 قوله: "روى مالك في الموطأ" هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث، حتى قال البخاري:" أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقيل: أربع وتسعين.
وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيان
ودل الحديث على أن قبر النبي صلي الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها، كما قال
1 في قرة العيون: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يقع في أمته في حقه، كما وقع من اليهود والنصارى في حق أنبيائهم من عبادتهم من دون الله، وسبب ذلك الغلو فيها كما قال تعالى:(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) . وكذلك رغب صلى الله عليه وسلم إلى ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، وقد عبدت القبور بأنواع العبادة كما لا يخفى، وتقدم في حديث عائشة رضي الله عنها "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا". وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وصان قبره، وأحاطه بثلاثة جدران.
2 صحيح. مالك في الموطأ (رقم 85) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة. عن عطاء بن يسار مرسلا. وابن أبي شيبة (3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا. ووصله أحمد في المسند (2/ 246) من حديث أبي هريرة ووصله البزار (440- كشف الأستار) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 18 ، 19) .
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غُيّرت قيل: غيرت السنة "1 انتهى.
ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي صلي الله عليه وسلم.
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: " أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلي الله عليه وسلم "2 3 فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها; فخاف عليهم الفتنة".
وقال المعرور بن سويد: "صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلي الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر; فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قراه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة. فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنُعميّه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغيّر منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات
1 صحيح. أخرجه الدارمي (1/ 60) . والحاكم (4/ 514)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 188) . وصححه الألباني في صلاة التراويح ص (50) . وقال: وهذا الأثر وإن كان موقوفا فهو في حكم الرفع؛ لأن ما فيه من التحدث عن أمور غيبية لا تقال إلا بالوحي، فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد تحققت كل جملة فيه.. والحديث في مصادره مطول وقد اختصر هنا المصنف.
2 قال الحافظ في الفتح (7/ 448) : "وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت" اهـ.
3 كان ذلك في صلح الحديبية. وهي الشجرة التي ذكرها الله تعالى في سورة الفتح: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) ; وذلك حين أشاع الناس أن عثمان بن عفان قتلته قريش حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم سفيرا بينه وبين قريش، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا رسول الله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان على الموت، وكان المبايعون ألفا وأربعمائة، ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل. والقصة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السير والمغازي.
من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض 1.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال ابن القيم رحمه الله: " ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به; ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف ولعبدوه من دون الله".
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك; فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها- فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصا.
قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فيه تحريم البناء على
1 ذكرها الطبري (ج 4 ص 220) في حوادث سنة 17 قال: قيل لأبي سبرة هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما لنا بذلك؟ فأقره بأيديهم، ثم ذكر خبر دانيال وسبي بختنصر له من بيت المقدس وموته بالسوس; فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما فتحها المسلمون أتوا به فأقروه في أيديهم; حتى إذا ولى أبو سبرة عنهم إلى جندي سابور أقام أبو موسى بالسوس، وكتب إلى عمر فيه. إلخ القصة. وقد ذكرها أبو عبيد في الأموال ص 343 رقم 876 عن قتادة قال:"لما فتحت السوس وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في إبرن، وإذا إلى جانبه مال موضوع وكتاب فيه: من شاء أتى فاستقرض منه إلى أجل، فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلا برص. فكتب إليه عمر: كفنه وحنطه وصل عليه ثم ادفنه كما دفنت الأنبياء صلوات الله عليهم. وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين. قال: فكفنه في قباطي بيض وصلى عليه ودفنه". وقال البلاذري: ص 371 "ورأى أبو موسى في قبلتهم بيتا وعليه ستر فسأل عنه فقيل: إن فيه جثة دانيال النبي، فإنهم كانوا أقحطوا، فسألوا أهل بابل دفعه إليهم ليستسقوا به ففعلوا. وكان بختنصر سبى دانيال وأتى به إلى بابل فقبض بها. فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر أن كفنه وادفنه. فسكر أبو موسى نهرا حتى إذا انقطع دفنه ثم أجرى الماء عليه".
القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر. وفي القِرَى للطبري1 من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وعلل ذلك بقوله صلي الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2 الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك، سدا للذريعة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم - إلى أن قال- وقد ذكروا في أسباب كراهته لأن يقول: "زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم"؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا. وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة. وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه؛ فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا ترى إلى قوله: " فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " 5 مع زيارته لقبر أمه؛ فإن هذا يتناول قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين كالأنبياء والصالحين؛ فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة". اهـ.
وفيه: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
"ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: "أفرأيتم اللات والعزى" قال كان يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: "كان يلت السويق للحاج".
1 كتاب "القرى لقاصد أم القرى" تأليف المحب الطبري.
2 تقدم تخريجه برقم [176] .
3 سورة النجم آية: 19.
4 السويق: دقيق الحنطة أو الشعير. ولته: بله بالماء أو السمن، والحاج بمعنى الحجاج.
5 الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (976)(108) باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه من حديث أبي هريرة وفيه: "فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" فأخرجه الترمذي (1054) من حديث بريدة وابن ماجة (1571) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (178 ، 179) .
قوله: "ولابن جرير" هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من المجتهدين لا يقلد أحدا. وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشرة وثلاثمائة.
قوله: "عن سفيان" الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدا; وله أتباع يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن مجاهد" هو ابن جبر - بالجيم والموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم، مات سنة أربع ومائة. قاله يحيى القطان. وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه.
قوله: "كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره" في رواية: "فيطعم من يمر من الناس. فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات" رواه سعيد بن منصور.
ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنا من أوثان المشركين.
قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء" هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين.
قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم حدثنا أبو الأشهب1 حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: " كان اللات رجلا يلت سويق الحجاج "2.
1 أبو الأشهب هو جعفر بن حيان التيمي السعدي العطاردي الحذاء الأعمى. مات سنة 165.
2 البخاري: كتاب التفسير (4859) : باب "أفرأيتم اللات والعزى".
قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد:"لنا العزى ولا عزى لكم".
قوله: " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1. رواه أهل السنن".
قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه. 2 وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زوارات القبور "3.
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ، وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم. 4 قال علي بن المديني عن يحيى القطان:"لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ. وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". قال ابن معين: " ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه". انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي.
1 ضعيف بهذا اللفظ. أبو داود: كتاب الجنائز (3236) : باب في زيارة القبور. الترمذي في الصلاة (320) : باب كراهية أن يتخذ القبر مسجدا. والنسائي في الجنائز (4/ 94 ، 95) : باب التغليظ في إتخاذ السرج على القبور. وابن ماجة في الجنائز (1575) : باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور. بدون قوله: "المتخذين عليها المساجد والسرج". وضعفه الإمام مسلم وغيره بهذه الزيادة. وضعفه الألباني في الضعيفة (225) وتحذير الساجد (43 ، 44) بهذا السياق، والحديث صحيح بدون هذه الزيادة كما سيأتي في تخريج رقم [183] .
2 أخرجه الترمذي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور". وقال: هذا حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وحسان بن ثابت. وحديث حسان بن ثابت رواه الإمام أحمد في مسنده أيضا، وروى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزائها أهل ميت في ميتهم، فقال لها:"لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال: لو بلغت الكدى معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك".
3 صحيح. أما حديث أبي هريرة. فعند أحمد (2/ 337 ، 356) . والترمذي (1056) كتاب الجنائز: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء. وابن ماجة (1576) كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث حسان بن ثابت. فعند أحمد (3/ 442 ، 443) . وابن ماجة (1574) كتاب الجناثز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. والحاكم (374/ 1) . وقد مر من حديث ابن عباس. والحديث صحيح لغيره دون الزيادة المتقدمة في حديث ابن عباس كما قرره الألباني في تحذير الساجد (43) وصحيح الجامع (4985) والضعيفة (225) .
4 وأبو صالح اسمه باذام، أو باذان. وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث عن ابن عباس فانتفت تهمة التدليس; ثم قد حسن الترمذي هذا الحديث، وإن كان الحافظ المنذري قد تعقبه عليه. وقال الحافظ ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود في باب كراهية اتخاذ القبور مساجد. وفي صحيح أبي حاتم عن أبي صالح عن ابن عباس قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال أبو حاتم: أبو صالح هذا اسمه مهران ثقة. وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام. وقال الإشبيلي: هو باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جدا، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضا. اهـ.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وقد جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زوارات القبور " 1 وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذا، أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: " لو شهدتك ما زرتك "2. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال؛ إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته سواء شهدته أم لا.
قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.
وهدا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله ابن أبي مُليكة
عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله ابن أبي مليكة أيضا:" أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين أليس نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها"3.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها:" قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله:" لعن الله زوارات القبور " بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
1 الترمذي: الجنائز (1056)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1576) .
2 الترمذي: الجنائز (1055) .
3 صحيح: الحديث بهذا السياق عند الحاكم (1/ 376) ، وعنه البيهقي (4/ 78) وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح. وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 418)"رواه ابن أبي الدنيا في القبور، والحاكم بإسناد جيد". وراجع أحكام الجنائز ص (181) . أما سياق الترمذي: كتاب الجنائز (1055) : باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور فهو باللفظ الذي تقدم وفيه: "لو شهدتك ما زرتك".
ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر.
والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله صلي الله عليه وسلم فزوروها صيغة تذكير، وإنما يتناول النساء أيضا على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان، قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض
الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن الزيارة للقبور. وما علمنا أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.
ومنها: أن النبي صلي الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك: " يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين "1 هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر. وإذا كانت زيارة النساء مطنة وسببا للأمور المحرمة؛ فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك; ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها. فيحرم هذا الباب سدا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك. وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة؛ فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها.
ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلي الله عليه وسلم:" ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت" 2 وقوله لفاطمة: " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة " 3 ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز "4 ومعلوم أن قوله صلي الله عليه وسلم: " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " 5 هو أدل على العموم من صيغة التذكير؛ فإن لفظ "من" يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلي الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصا.
1 حسن. أحمد (3/ 237، 250) . وهو عند الحاكم أيضا (1/ 375 ، 376) . وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص 180) .
2 ضعيف. ابن ماجة (1578) كتاب الجنائز: باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز. والبيهقي (4/ 77) من حديث علي رضي الله عنه. وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والبوصيري في الزوائد وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (873) .
3 ضعيف. أحمد (2/ 168 ، 169) . وأبو داود (3123) كتاب الجنائز: باب التعزية. والنسائي: في كتاب الجنائز 4/ ، 27 ، 28) : باب النعي، وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والمنذري في مختصر السنن (4/ 289) والكدى: هي المقابر كما في اللسان.
4 البخاري: كتاب الجنائز (1278) باب اتباع النساء الجنائز. ومسلم: كتاب الجنائز (938)(34) باب نهي النساء عن اتباع الجنائز من حديث أم عطية رضي الله عنها.
5 الحديث بهذا اللفظ. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (945)(53) : باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. من حديث أبي هريرة. وهو عند البخاري بنحوه كتاب الجنائز (1325) : يا من انتظر حتى تدفن. وعند مسلم (946)(57) من حديث ثوبان أيضا.
قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصا للرجال، خص بقوله: " لعن الله زوّرات القبور
…
الحديث " فيكون من العام المخصوص.
وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضا.
منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض بما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ.
ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع. وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد: " فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب - بل كل - من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبرا قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن1 من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة". انتهى.
ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد" تقدم شرحه في الباب قبله.
قوله: "السُّرُج" قال أبو محمد المقدسي: " لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛
1 في تطهير الاعتقاد: ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج القبور إلخ.