الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه مسائل:
الأولي: تفسير قوله {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
وأبو داود: اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزيد السجستاني صاحب الإمام أحمد، ومصنف السنن والمراسيل وغيرهما، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين. رحمه الله تعالى.
1 سورة التوبة آية: 108.
باب: " من الشرك النذر لغير الله
"
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 1. وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2.
قوله: "باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى".
أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لل،. فيكون النذر لغير الله تعالى شركا في العبادة.
وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 3 فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووقاء بما تقرب به إليه.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} .
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين ابتغاء وجهه". اهـ.
إذا علمت ذلك، فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقربا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب. كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 4.
_________
1 سورة الإنسان آية: 7.
2 سورة البقرة آية: 270.
3 سورة الإنسان آية: 7.
4 سورة الأنعام آية: 136.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس
والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك العاذر للمخلوقات. فإن كلاهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلي الله عليه وسلم:" من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله "12. وقال فيمن نذر سمعة أو نحوها دهنا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين. وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة. فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 3؟ والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه، قال تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 4. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند5 والمجاورين عندها 6.
1 البخاري كتاب الأيمان والنذور (6650) : باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت، ومسلم: كتاب الإيمان (1647)(5) : باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 سورة الأنبياء آية: 52.
4 سورة الأعراف آية: 138.
5 في القاموس: البد - بضم الباء - الصنم، معرب، بد والجمع بددة –كقردة - وأبداد كخرج وأخراج. وهو اسم لصنم من أصنام الهنود.
6 في قرة العيون: وذلك لأن الناذر لله وحده علق رغبته به وحده لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركا بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكا لله في العبادة، فيكون قد أثبت ما نفته (لا إله إلا الله) من إلهية غير الله ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف - رحمه الله تعالى - تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب فقد خالف ما نفته "لا إله إلا الله" فعكس مدلولها فأثبت ما نفته ونفى ما أثبتته من التوحيد، وهذا معنى قول شيخنا. وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. فكل شرك وقع أو قد يقع فهو ينافي كلمة الإخلاص وما تضمنته من التوحيد.
وقال الرافعي في شرح المنهاج:
"وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة - تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء.
ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض; أو قدوم غائب أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا. ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء؛ فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم، سواء انتقع به هناك منتفع أم لا.
قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار:
النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة; ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر - إلى أن قال -: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليها فحرام بإجماع المسلمين.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه،
نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: قد
ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي1.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله، فيكون باطلا. وفي التنزيل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَه ُ} 3 والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغيره.
قوله: " وفي الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري.
قوله: "عن عائشة" هي أم المؤمنين، زوج النبي صلي الله عليه وسلم وابنة الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع4 وهي أفقه النساء مطلقا، وهي أفضل أزواج النبي صلي الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف5 ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها.
1 أحمد البدوي بطنطا لا يعرف له تاريخ صحيح، واضطربت الأقوال فيه، والمشهور أنه كان جاسوسا لدولة الملثمين. وكان داهية في المكر والخديعة. وقبره أكبر الأصنام في الديار المصرية; مثل هبل الأكبر أو اللات في الجاهلية. يؤتى عنده من أنواع الشرك الأكبر، وتقدم له النذور ويجعل له الفلاحون النصف والربع في أنعامهم وزروعهم، بل وأولادهم، فيأتي الرجل بنصف مهر ابنته ويضعه في الصندوق قائلا: هذا نصيبك يا بدوي، ويقام له كل عام ثلاثة موالد، يشد الرحال إليها الناس من أقصى القطر المصري، ويجتمع في المولد أكثر من ثلاثمائة ألف حاج إلى هذا الصنم الأكبر. عجل الله بهدمه وحرقه هو وغيره من كل صنم في مصر وغيرها.
2 سورة الأنعام آية: 121.
3 سورة الأنعام آية: 162-163.
4 عقد عليها قبل الهجرة بسنة، وبنى بها بعد الهجرة بسبعة أشهر تقريبا.
5 في قرة العيون: بل لا يقال: خديجة أفضل ولا عائشة أفضل. والتحقيق أن لخديجة من الفضائل في بدء الوحي ما ليس لعائشة من سبقها إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتأييده في تلك الحال التي بدئ بالوحي فيها كما في صحيح البخاري وغيره، فما زالت كذلك حتى توفيت رضي الله عنها قبل الهجرة، ولعائشة من العلم والأحاديث والأحكام ما ليس لخديجة لعلمها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن وبيان الحلال والحرام، وكان الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها فيما أشكل عليهم من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه - صلوات الله وسلامه عليه - ورضي عن أصحابه وأزواجه.
ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1.
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " أي فليفعل ما نذره من طاعة الله. وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه، إن حصل له ما علق نذره على حصوله. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به.
قوله: " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " زاد الطحاوي: "وليكفر عن يمينه" وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية.
قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا؟ وتقدم. وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح; كما هو مذهب أحمد وغيره، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي عن بريدة: " أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف،
فقال: أوفي بنذرك "2. وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين؛ لحديث عمران بن حصين مرفوعا: " لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين "3 رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي، فإن نذر مكروها كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله.
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ،6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ،3807 ،3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجه: الكفارات (2125 ،2126) ، وأحمد (6/36 ،6/41 ،6/208 ،6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .
2 صحيح: أبو داود (3312) كتاب الأيمان والنذور: باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر وإسناده حسن، وأحمد (5/353 ، 356) والترمذي، (3690) كتاب المناقب: باب في مناقب عمر بن الخطاب وقال: حسن صحيح غريب. وقال الألباني في الإرواء (8/314) : ((إسناده صحيح على شرط مسلم)) .
3 ضعيف: أحمد (4/433،440،443)، والنسائي (7/28) كتاب الأيمان والنذور: باب كفارة النذر. وضعفه الألباني في الإرواء (2587) .