الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: " ما جاء في كثرة الحلف
"
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1.
عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب "2. أخرجاه.
قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" أي من النهي عنه والوعيد. "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ".
قال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف، وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب ". أخرجاه". أي البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا. وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.
_________
1 سورة المائدة آية: 89.
2 البخاري: البيوع (2087)، ومسلم: المساقاة (1606)، والنسائي: البيوع (4461)، وأبو داود: البيوع (3335) ، وأحمد (2/242 ،2/413) .
قوله: "وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه " 1. رواه الطبراني بسند صحيح".
وسلمان: لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" سلمان منا أهل البيت2، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد"?. أخرجه الترمذي وابن ماجه. قال الحسن: كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة: سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي.
قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله" 3 نفي كلام الرب -تعالى وتقدس- عن هؤلاء
ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل " الله" بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه ". رواه الطبراني بسند صحيح.
العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه. وأن الكلام صفة من صفات كماله. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا، ولم يزل متصفا به. فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4. فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضا. وذلك في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإذا قالوا لنا يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله
1 صحيح: الطبراني في الكبير (6111) وفي الصغير (2/ 21) . وقال الهيثمي في المجمع (4/ 78) : "ورواته محتج بهم في الصحيح" اهـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3067) .
2 ضعيف: هذا الحديث هو في الأصل حديثان إلا أن المصنف جعلهما حديثا واحدا. أما الأول: منهما بلفظ: "سلمان منا أهل البيت". أخرجه الطبراني في الكبير (6040) . والحاكم (3/ 598) وإسناده ضعيف جدا، وضعفه العجلوني في كشف الخفا، وضعفه جدا الألباني في ضعيف الجامع (3272) . أما الثاني: بلفظ: "إن الله أمرني بحب أربعة
…
الحديث". أخرجه الترمذي: كتاب المناقب (3718) باب (21) ، وابن ماجة في المقدمة (149) وغيرهما، وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1566) .
3 في قرة العيون: هذا وعيد شديد في حقهم؛ لأنه قد تواتر أنه –تعالى- يكلم أهل الإيمان ويكلمونه في عرصات القيامة. والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وفيه الرد على الجهمية والأشاعرة نفاة صفة الكلام.
4 سورة يس آية: 82.
تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك: مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة". اهـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم.
قوله: " ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم". لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات.
قوله: "أشيمط زان" صغره تحقيرا له1؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا: محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله. وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه; بخلاف
الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية فينتهي ويراجع.
وكذا العائل المستكبر ليست له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و "العائل" الفقير، لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.
قوله: "ورجل جعل الله بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي الحلف به، جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه.
قوله: "وفي الصحيح" أي صحيح مسلم. وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ "خيركم"2.
1 تصغير أشمط; وهو الذي بشعره شمط أي شيب.
2 بل رواه باللفظين، فرواية:"خير أمتي أهل قرني" في فضائل الصحابة. ورواية: "خيركم" في عدة مواضع منه.
قوله: "عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- قال عمران؟ فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن " 1.
قوله: "خير أمتي قرني" لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء. "ثم الذين يلونهم" فضّلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به. وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأُزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.
قوله: " فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ " هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء.
فقال: " "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون " لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم.
قوله: "ويخونون ولا يؤتمنون" يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم. "وينذرون ولا يوفون" أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم.
قوله: "ويظهر فيهم السمن" لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم
1 البخاري: المناقب (3650)، ومسلم: فضائل الصحابة (2535)، والترمذي: الفتن (2221)، والنسائي: الأيمان والنذور (3809)، وأبو داود: السنة (4657) ، وأحمد (4/427 ،4/440) .
عن الدار الآخرة والعمل لها. وفي حديث أنس: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "1. قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك
وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته "2.
وقال إبراهيم: " " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار" ".
والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف3.
قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه.
قوله: " وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " 4".
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء؛ لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف. فكان الناس على حذر.
قوله: "قال إبراهيم -هو النخعي-: " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار "
1 البخاري: الفتن (7068)، والترمذي: الفتن (2206) ، وأحمد (3/132 ،3/177) .
2 البخاري: المناقب (3651)، ومسلم: فضائل الصحابة (2533)، والترمذي: المناقب (3859)، وابن ماجه: الأحكام (2362) ، وأحمد (1/378 ،1/417 ،1/442) .
3 في قرة العيون: فحدث التفرق والاختلاف في الدين، أو حدث الغلو في أهل البيت من بني بويه في المشرق، لما كان لهم دولة، وبنوا المساجد على القبور وغلوا في أربابها، وظهرت دولة القرامطة وظهر فيهم الكفر والإلحاد في شرائع الدين، ومذهبهم معروف وظهر فيهم من البدع ما يطول عده، وكثر الاختلاف والخوض في أصول الدين، وما زال أهل السنة على الحق، ولكن كثرت البدع والأهواء حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
4 في قرة العيون: في هذا الحديث أن خير القرون ثلاثة بلا شك.