الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس اختيارًا بمفارقة الأهل والمأنس ودخول البادية مع خوف القطاع كدخول البرزخ وأهواله وثواب الإحرام كالكفن ففيه لخرم عن جميع لذات الشهوات المكدرة للروح واستلام الحجر تجديد عهد يوم الميثاق لأنه يمين الله تعالى والعرفات كالعرصات فيه يتمثل قوله "موتوا قبل أن تموتوا" وبهذه الموتة الاختيارية حصول الحياة الطيبة ولذا كان ماشيًا أفضل إلا إذا ساء خلقه مع المشى لأن مقصود المجاهدات لخسين الخلق.
ولتفاصيل وظائفه أسرار يقصد عن استقصائها أمام المقام. وأنوار يحصر عن إحصائها لسان ما يقتضيه الحال من الاهتمام. فليطلب في موضعه اللائق من علوم الحقائق.
وللجهاد حفظ بيضة الإِسلام وتحقيق ما بعث له الأنبياء عليهم السلام وهو دعوة العباد والسعى في إخلاء العالم عن الفساد وتخليصهم عن الكفر الموجب للشقاوة الأبدية ورد كيد جند إبليس في السعى للغواية السرمدية وفيه تعذيب أعداء الله وتهذيب صدور أوليائه قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] الآية إن قلت فيه مفسدة تعذيب العباد وتخريب البلاد وملعون من هدم بنيان الرب حتى قيل يحاكم عصفور قتل عبثًا إذا الوحوش حشرت.
قلنا لكن تضمن مصلحة راجحة بالوجوه السالفة كخرق الخضر سفينة المساكين إذ الأمور بعواقبها كما في القصد وشرب الدواء المر كيف وهو تسليم المبيع الفاني بإبطال الحياة الزائلة المحاطة بالنقم لتحصيل الثمن الباقي والحياة السرمدية المحفوفة بالنعم.
فالغازى محظوظ يإحدى الحسنين إما الغنيمة والثواب وإما الشهادة التي تغبط بها أولو الألباب قال علي رضي الله عنه (لا بد من الموت ففى سبيله أحق وأولى).
جون جان سيردنيست بهر حالتي كه هست
…
دركوى عشق خوشتر وبرأستان دوست
المبحث الثالث: في المعاملات الخمسة
حكمها إجمالا حصول البقاء النوعي أو الشخصي لأن التصرفات المشروعة شب للاختصاصات الشرعية كملك الرقبة والمنعة والمنفعة وإباحتها المصححة للانتفاع الذي به البقاء ولا منافاة بين سببية تعلق البقاء بها وغرضية نفس البقاء منها بل شأن كل ماله علة غائبة أن يكون تعلقها به سبب وجوده وإقدام الفاعل عليه ومقصوده نفسها وتفصيلا.
فالمناكحات وهي أفضلها بقاء العالم ببقاء النوع الإنساني وكثير من المصالح الدينية والدنياوية كغض البصر وتخصين الفرج وتحقيق مباهاته عليه السلام وانتظام مقاصد
الزوجين الداخلية والخارجية ولذا اشتمل النكاح على معنى العبادة أيضًا وفضلناه على التخلى للنوافل حتى هى سنة مؤكدة.
وقيل فرض كفاية يدل عليه من الله تعالى علينا بالنسب والصهر الحاصلين به في الآية والنصوص النادبة والمرغبة بألفاظ الأوامر لا سيما المقرونة بالوعيد وأنه لولاه لزم التهالك حسب التغالب في اقتضاء الشهوات المركوزة في الطباع وفيه للعالم خلل والفراش فساد والنسل ضياع كيف وأنه ستة أصلية ورثناه من آدم عليه السلام حتى روى أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر فزوجها منه وأشهد الملائكة في خطبته المأثورة.
ثم الطلاق وهو الإطلاق عن رق النكاح إنما يرخص إذا لم يترتب مقاصد النكاح من التناسل والسكن والتحصين وإلا فمنهى لقوله عليه السلام "أبغض المباحات عند الله الطلاق" ولأنه ترك سنة المؤكدة أو فرض الكفاية وفيه إيحاش المستأنس فيكره إلا عند الضرورة ولذا أبقى مكثه التدارك فشرع متعددًا ثلاثًا لأنه الحدد الموضوع لإبلاء الأعذار وفوض إليه لأنه المالك بالمهر أو المتعة ولأنها ناقصة العقل مسرعة إلى التفريق بأدنى ضجر وأعقب بالعدة بثلاثة في الحرة لتروى النظر في أمر الرجعة وتعرف براءة الرحم كيلا يختل الإنساب وتنتين في الأمة لأنها النصف المكمل واكتفى بحيضة في الاستبراء لعدم تعلق النسب بها بل بالدعوى.
ثم العتاق مثله في المعالق الكثيرة فيه تقوية الضعيف بإثبات القوى الشرعية من الولايات والاستبداد في التصرفات بعد ما كان ملحقًا بالجمادات وعرضة للابتذال مسخرًا لمثله من البشر كالحيوانات جزاء لكفره ابتداء وإن جعل أمرًا حكميًا في البقاء ابتلاء كما فيمن ولد مسلمًا فإن بقاء الحكم يستغنى عن بقاء السبب كالحيض في النساء كأن تبعه لحواء لأجل أكل الشجرة فبقى في بنائها ولأن الرق أثر الكفر المسبب للموت كان الإعتاق إحياء كالإيلاد وجزاء له في الحديث وإعتاق رقبة مؤمنة كفارة قتل المؤمن خطأ ليعوض الناس من منافعه العائدة إليهم في الولايات والقتال وغيرها.
وللمبايعات اتساق أمور المعاش والمعاد والتجار عمال الله يوصلون أرزاقه إلى العباد فبالكسب عمارة البلاد وفيه ابتغاء فضل الله الممدوح في الآيات إذ به يتهيأ المروات ويحسن المعاشرات وهو سنة الأنبياء عليهم السلام كان آدم عليه السلام زراعًا وشيث عليه السلام نساجًا وإدريس عليه السلام خياطا وإبراهيم عليه السلام بزازًا وإسماعيل عليه السلام مصطادًا وروى عن جبريل عليه السلام قوله لو احتجت إلى الكسب لكنت سقاء وفي شرعها أيضًا إطفاء نائرة المنازعة ورفع النهب والحيل المكروهة والسرقة والطمع
والخيانة وفيها الغناء ففي رافعها البقاء وحين يفوت الشىء يفوت مقصوده لم يشرع ما يفض إلى النزاع كما لو جهل المبيع أو الثمن في البياع وكأنواع الربا ومع هذا ففيها ترك العدل والإحسان فيحرم وإن رضي به العاقدان كالزنا بخلاف أخذ مال الغير بغير إذنه لاحتماله الإباحة برضاه فحرمته لحقه لا لوضعه عقلا أو شرعًا فالربا أقبح من الغصب والسرقة وفيه المعارضة لله تعالى في عدله بعدوله فلذا قال تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] والحق الريبة بالربا.
ثم مما يتضمن معناها الصلح وفيه أنه خبر بالنص وبأنه ضد المنازعة أما على الإقرار ففيه المروة من المدعى بالبذل والإمهال وإما على الإنكار ففيه ترك كلفة المرافعات وليس كل شاهد يعدل ولا كل قاض يعدل وفي فداء اليمين تعظيم لها وصيانة العرض حتى لا يقال لبلية مقدرة أصابته بشوم خلقه ودفع زيادة ضغينة المدعى عليه قال عليه السلام "ردوا الخصوم كى يصطلحوا"(1) قال علم الهدى من لم يجوز الصلح على الإنكار فهو شر من إبليس لأنه يزيد بقاء الفتنة وتولد الأحقاد.
ثم في الإجارات دفع الحاجة مع الفاقة بقليل من الطاقة وتحصيل السرورين فالموجز بنيل المال بلا زوال ملك العين والمستأجر بحصول المقصود ولولاها لاحتاج الغني إلى شاق الأعمال والفقير إلى التنكدى والتذلل والحيل والحكمة يقتضى وضع كل شيء موضعه.
ومما يناسبها المزارعات والمساقاة لأن الله تعالى يخلق حياتنا بالأقوات وليس كل أحد يملك الأرض والبستان أو يهتدى إلى إصلاحهما ومنه يحلم الحاجة إلى الشركات بين من يهتدى لطرق التجارة ولا مال له أو يقل ماله وبين عكسه وللتعاون فقد يفعل المركب والمجموع ما لا يفعله المفردات.
ومن فنون الكسب الاصطياد فيه خلو الحاصل عن خبث الاختلاط بأموال الناس صافيًا عن كدر المنة والظلم ففيه نقاء البقاء وإنما حرم كل ذى ناب ومخلب لأن الظلم والإيذاء اللذن في طبعهما نجاسة معنوية تسرى إلى طبع الأكل قال عليه السلام "لا ترضعوا أولادكم بلبن الحمقاء فإن اللبن يؤثر"(2) ولذا يحكم بأن الأعمال تفسد بفساد
(1) بل موقوف: من قول الخليفة عمر رضي الله عنه أخرجه البيهقى في الكبرى (6/ 66) ح (11142) وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 534) ح (22896)، وعبد الرزاق في مصنفه (8/ 303) ح (15304).
(2)
مرسل: أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 464) والطراني في الأوسط (1/ 27) ح (65) والديلمى =
اللقمة الحرام والخبيث فقد قيل اللقمة نطفة العمل إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر فلا يحصل
من الحرام إلا المعصية ومن الشبهة إلا الغفلة ومن الحلال إلا الخير كذا جرت سنة الله
تعالى كما من البازى الكبر والإيذاء ومن الخنزير نهاية الحرص والخساسة وقلة الخير ومن الحمار الأهلي البلادة وسوء الأدب وفي الذبح مع ذكر الله فيه إزالة الحياة بأقل سعى وطهارة الأجزاء عن الدماء النجسة وفي ذكر الله تعالى مخالفة الكفار الذاكرين آلهتهم وظهور البركة تبارك اسمه وتعالى جده وفي التضحية ضيافة الله تعالى فلأنه لا بد من الإراقة ليطيب فيصلح لها نقل القربة إليها تسهيلا وكرامة لهذه الأمة فندب بالثلث التصدق وبالثلث الهبة وبالثلث الإمساك لنفسه وفي الأمم السالفة كانت لخرج عن ملكه ولأن الضحايا مطايا على الصراط بالحديث إذا الوحوش حشرف فعليه أن يخلص النية ويتحرى فيها التقوى وفي قسمة الشرب نظام العالم بظهور العدل كما في قصة صالح عليه السلام لأن الماء مباح فلو لم يقسم بالأنهار أو الأيام والكوى أفضى إلى النزاع.
وللمخاصمات تخليص الظالم من سخط الله ودفع طول التشاجر والتحاقد مع أن الترك والتحليل أولى رعاية لحق الأخوة وصيانة العرض والمروة ومندوب بالآية والحديث إلا إذا علم المدعى له يخلصه من إثم المطل وحرام الأكل من غير زيادة خصومة كان الدعوى مستحبة.
وفي القضاء إقامة حقوق الشرع فليزع السلطان أكثر مما يزع القرآن لغلبة الهوى على العقل والشرع فلا بد من زاجر حسي لبيقى النظام فالدين أس والسلطان حارس فما لا أس له مهدوم وما لا حارس له ضائع والدعوى عند الحكام أنموذج منبهة على أمر القيام بين يدي العلام يوم ينادى لا ظلم اليوم والشهادة أمانة عند الشاهد من الله تعالى للمدعى فلا يجوز أن يخون فيها مأمور بأدائها في الآية وجعل نصابها اثنين ليظهر الصدق فإن الواحد يعارضه برائة الذمة أو اليد وأربعًا في الزنا احتياطًا في ستر الفواحش فلإملاء الناس ولما مر من مفاسده وإذا قامت الشهادة وزكى الشهود وجب على القاضي الحكم إظهار الحق تقلد أمانة القضاء وللأمانات فللوكالة والكفالله رفع الحاجة الماسة إذ ليس كل أحد يرضى أن يباشر الأعمال أو يهتدى إليها ولا كل مديون يعتمد عليه ففى شرعهما ترفيه لأصحاب
= في مسند الفردوس (5/ 41) ح (7398) وأبو داود في المراسيل (1/ 181 - 182) ح (207).
المروات وتعليم لسنة التواضع بقبولهما وإظهار الشفقة ومراعاة حق الأخوة لا سيما في الكفالة ببذل الذمة في قبول الدين والمطالبة وتسكين قلب الطالب كما يتحقق الكل الشركة التي يتضمنها. وفي الحوالة تفريغ ذمة أخيك وتخليصه عن تحمل مذلة التقاضي قال عليه السلام "من فرج عن أخيه المسلم كربة"(1) الحديث وقال عليه السلام "إن من موجبات المغفرة إدخال السرور في قبل المرء"(2) وفي الرواية "أول ما يلقاه العبد إذا بعث من قبره السرور الذي أدخله في قلب أخيه المسلم متمثلا بصورة ذى وجه حسن يبشره الخير"(3) ثم في الهبة والإعادة إظهار المروة وإحسان بغير ضمان وخير الناس من ينفع الناس والتخلق بأخلاق الجواد الكريم وفي جود الأبرار استرقاق الأحرار فإن الإنسان عبد الإحسان.
قال عليه السلام "تهادوا فإن الهدية تذهب بالضغائن" ومن جمع المال ولم ينفق أثر ذلك في توطين القلب عليه فيهلك بحبه إذ حب الدنيا رأس كل خطيئة ولو أنفق أخلف ففيه صلاح دينه ودنياه عند التوسط بين الإفراط والتفريط لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أنفَقُوا} [لفرقان: 167] الآية وعليه سنة الله في قسمة أرزاق الخلق بقدر حالاتهم كما يقتضيه حكمته البالغة وكذا قبول الودائع وحفظ الأمانة من المروة والأمين محبوب عند الله تعالى وعند عباده. قال عليه السلام "الأمانة تجر الغناء والخيانة تجر الفقر"(4) ويقال كان ابتلاء الحلاج بالصلب لعدم حفظ أمانة سر الله.
ثم في الوصية بالمال والإيصاء إلى آخر تلافي التفريطات فإن الإنسان مغرور بأمره مقصر في عمله بحيث إذا خاف من عرض له المرض طي حياته وارد تلافى ما فرط فوصى فلو مات تحقق مقصده الأخروي ولو صح فله الرجوع وصرفه إلى أهم مقاصده وفيها ازدياد حياته والتمرين بمكارم الأخلاق وقت وفاته، لقوله عليه السلام: "إذا مات
(1) أخرجه مسلم (4/ 1996) ح (2580) وابن حبان في صحيحه (2/ 291) ح (533) والحاكم في مستدركه (4/ 425) ح (8159) والترمذي (4/ 34) ح (1425) والبيهقي في الكبرى (6/ 94) ح (11292) وأبو داود (4/ 273) ح (4893) والنسائي في الكبرى (4/ 308) ح (7284) وابن ماجه (1/ 82) ح (225) والإمام أحمد في مسنده (2/ 91) ح (5646).
(2)
أخرجه القضاعى في مسند الشهاب (2/ 179) ح (1139).
(3)
لم أجده.
(4)
أخرجه القضاعى في مسند الشهاب (1/ 72) ح (64).