الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان
اْوّل ما ظهرت كفاية عبد العزيز الإداريّة بوضوح، كان بالصّلح الذي عقده بينه وبين تدمير.
وهذا هو نص كتاب الصّلح الذي كتبه عبد العزيز بن موسى، لتدمير بن غبدوش:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز.
إلى تدمير.
أنّه نزل على الصّلح، وأنّه له عهد الله وذمّته، أن لا يُنزع عنه ملكه، ولا أحداً من النصارى عن أملاكه، وأنهم لا يُقتلون ولا يُسبون، أولادهم ولا نساؤهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا تحترق كنائسهم ما تَعَبّد كذا، (وصحتها تقيّد) وما نَصَح، وأنَّ الذي اشتُرط عليه أنّه صالح على سبع مدائن: أوريولة وبَلَنْتِلَة ولقنت ومولة وبَقْسَر وأنَّهْ ولورقة، وأنّه لا يأوي لنا عدوّاً، ولا يخون لنا أمناً، ولا يكتم خبراً عَلِمَهُ، وأنّه عليه وعلى أصحابه دينار كلّ سنة، وأربعة أمداد قمح، وأربعة أمداد شعير، وأربعة أقساط طِلا (1)، وأربعة أقساط خلّ، وقسط عسل، وقسط زيت، وعلى العبد نصف ذلك.
كتب في رجب من سنة أربع وتسعين من الهجرة.
شهد على ذلك: عثمان بن أبي عبيدة القرشيّ، وحبيب بن عبيدة الفِهريّ، وعبد الله بن ميسرة الفهميّ، وأبو قائم الهُذَلِيّ" (2).
وبهذه المعاهدة أصبح تدمير ومَن بقي معه على النصرانية، من أهل الذمة، في حماية المسلمين ورعايتهم، ولا مجال للتعليلات التي ذهب إليها
(1) الطِّلا: الطِّلاء، وهو ما طبخ من عصير العنب. ص:259.
(2)
بغية الملتمس - طبعة مدريد 1884 - 1885 م ص: 259 والرازى في ترجمته الإسبانية، الفقرة (12) نقلاً عن: فجر الأندلس (114 - 115).
المستشرقون، وتابعهم عليها بعض المؤرخين العرب والمسلمين، فمكانة أهل الذمّة بين المسلمين معلومة، وحمايتهم واجية، ورعايتهم أمانة، والالتزام بالعهود مُحَتَّم على المسلمين.
ومن الواضح أن عبد العزيز عقد هذه المعاهدة في أيام أبيه على الأندلس، لأنّها عُقدت سنة أربع وتسعين الهجريّة، وموسى بن نُصير غادر الأندلس سنة خمس وتسعين الهجرية، فلا مجال للتشكيك في موعد عقدها.
وتدمير هذا هو ابن ( Ergobados)(1)، وهو يقرأ: إمّا غوبادوش أو جوبادوش، وهو قريب من الاسم العربي الذي أطلقه عليه العرب (2)، وكان تدمير أحد كبار قادة غيطشة ملك الأندلس الذي اغتصب ملكَه لذريقُ، وكان نصرانياً مثقفاً، استطاع بعلمه وفضله اكتساب احترام المسلمين. وما دام تدمير لم يُسلم، وعقد الصّلح مع المسلمين على الجزية، فقد أصبح من أهل الذمّة، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم.
وحين غادر موسى بن نُصير الأندلس، ولّى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وترك معه مَن يعاونه من أقدر الرجال، مثل حبيب بن أبي عُبَيْدَة الفِهْرِي، أحد أحفاد عُقْبَة بن نافع الفِهْرِي، وترك مع ابنه كثيراً من القادة المسلمين الآخرين مع أفراد قبائلهم، ليدافعوا عن الأندلس (3) ويحموه، وقد اختار موسى إشبيلية عاصمة للبلاد، بسبب قربها من البحر والمضيق، كما جعلها أيضاً قاعدة بريّة بحرية للمسلمين في الأندلس (4).
وبدأت مشاكل عبد العزيز، بعد مغادوة موسى الأندلس إلى دمشق،
(1) Saavedra. OP. Cit. P. 81
(2)
كما جاء ذلك في: بغية الملتمس (269 و 337 و 400) وفي نظم العقيان لأحمد بن أنس العذري: غبدوش.
(3)
أخبار مجموعة (19) وفتح الأندلس (17) وابن الأثير (4/ 566) والبيان المغرب (2/ 23) ونفح الطيب (1/ 271) وابن خلدون (4/ 255).
(4)
أخبار مجموعة (19) ونفح الطيب (1/ 276) والرسالة الشريفية (210) وابن الأثير (4/ 566).
فأصبح يحارب في جبهتين: الجبهة الداخلية المتمثلة في الطّامعين بحكم الأندلس، المنافسين له على ولايتها، يشجِّعهم على ذلك موقف الخلافة من موسى بن نُصَير، في اضطهاده ومحاسبته حساباً عسيراً، فكان التيار السّائد على عبد العزيز لامعه. والجبهة الخارجية، المتمثلة بالمقاومة القوطيّة المتربِّصة بالفاتحين، التي تنتهز الفرصة للانقضاض على الفاتحين، وإعادة المناطق المفتوحة إلى الحكم القوطي من جديد.
وقضى عبد العزيز في ولايته نحو سنتين، عنى خلالهما بتحصين الثُّغور وقمع الخروج والعصيان، وأبدى همّة في تنظيم الحكومة الجديدة وإدارتها، وأنشأ ديواناً لتطبيق الأحكام الشرعيّة وتنسيقها. وشجع الزواج بين العرب والإسبان، وتزوج أجيلونا (إيجلونا) التي تسميها المراجع العربية: أَيْلُه (أيلونا) أو أم عاصم، وكانت أيلونا قبل ذلك زوجاً للذريق (1)، فيما تذهب إليه المراجع:"وكانت قد صالحت على نفسها في وقت الفتح، وباءت بالجزية، فأقامت على دينها، فحظيت عنده وغلبت على نفسه"(2) فتزوجها بعد خروج أبيه موسى من الأندلس، فجاءته من الدنيا بشيء كثير لا يُوصف (3).
وانتهز الطامعون بولاية الأندلس، المنافسون له بولايتها فرصة زواجه بأيلونا المسيحيّة، فزعموا أنّها ملكت زمام زوجها، فتابعها في كثير مما أرادت (4)، وأنّها عملت له تاجاً من الذّهب والجوهر، وحملته على أن يلبسه، لأنّ:"الملوك إذا لم يُتوّجوا، فلا ملك لهم" كما قالت، وما زالت به حتى قَبِل أن يلبسه إذا خلا إليها، فشاع تتويجه في خيار جند المسلمين، فلم
(1) وقال الواقدي ونقله ابن عبد الحكم، إنّها كانت ابنة لذريق لا زوجته، أنظر أخبار مصر (212) وفتوح مصر والمغرب (285) والبيان المغرب (2/ 23)، وضبطت فيه أَيْلُه.
(2)
فتح الأندلس (21) وابن الأثير (5/ 22).
(3)
فتوح مصر والمغرب (285).
(4)
فجر الأندلس (130).
يكن لهم هَمٌّ إلاّ كشف ذلك، حتى رأوه عياناً، فقالوا: تنصّر! ثم هجموا عليه، فقتلوه (1).
ولم تقف حرب الإشاعة على عبد العزيز إلى هذا الحد، ويبدو أنّ قصّة لبس التاج وتنصّره، تؤثِّر في الرأي العام لجند المسلمين في الأندلس، باعتبار أنّهم يرفضون كلّ انحراف عن تعاليم الإسلام، ولكنّ مثل تلك الإشاعة، لا تؤثّر في الذين خبروا مزايا عبد العزيز تقيّاً نقيّاً ورعاً، كما لا يصدِّقها العقلاء الذين في السُّلطة أو خارجها، فأشاعوا أنّه:"لما بلغ عبد العزيز بن موسى ما نزل بأبيه وأخيه عبد الله بن موسى الذي كان في القيروان على إفريقيّة والمغرب وآل بيته، خلع الطاعة وخالف، فأرسل إليه سليمان بن عبد الملك رسولاً فلم يرجع، فكتب سليمان إلى حبيب بن أبي عبيدة بن عُقبة بن نافع ووجوه العرب سراً بقتله، فلما خرج عبد العزيز إلى صلاة الفجر، قرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ سورة الواقعة، فقال له حبيب: حقّت عليك يا ابن الفاعلة! وعلاه بالسيف، فقتله"(2)، وقد ركز قسم من المستشرقين على تصديق اتّجاه عبد العزيز إلى الاستقلال عن الخلافة بالأندلس (3)، وتابعهم على تصديق هذا الزّعم المتهافت قسم من مؤرخي العرب والمسلمين.
وأمّا القول بأنّ الخليفة سليمان بن عبد الملك أوعز بقتله، فقول لا يجد ما يؤيِّده من الواقع ومن التفكير السّليم، لأنّ الخليفة لم يكن عاجزاً عن عزله إن أراد، وقد سبق للخليفة عزل أبيه موسى وهو أقوى منه وأكبر مكانة وأنصع تاريخاً وأكثر أتباعاً، فعزله بسهولة ويسر، واستخرجه من الأندلس مع رجل أو رجلين من رجال للخليفة، دون أن يستطيع موسى تحريك ساكناً. كما لم يكن سليمان ليخشى ثورته بالجند، لأنّ الجند كان مختلفاً عليه، وليس
(1) البيان المغرب (2/ 23).
(2)
البيان المغرب (2/ 23 - 24) وفتح الأندلس (23).
(3)
أنظر مثلاً: Losmozarales de Espana،:ibid، p. 778 Vol، 1، p.147-C.Julian F.j.Simonet: Historia de
بمعقول أن يكون حقد سليمان على عبد العزيز أشدّ من حقده على أبيه موسى، ما أوعز سليمان بقتل موسى ولا فكّر بذلك، ولا قتله حين أصبح في دمشق رجلاً بلا غد.
ومصداق ذلك، أن سليمان لما بلغه:"مقتل عبد العزيز بن موسى، شقّ ذلك عليه، فولّى إفريقيّة عُبَيْد الله بن يزيد القريشي، لا أدري لمن من قريش (يريد محمد بن يزيد مولى قريش والي إفريقية)، وإلى إفريقيّة كان أمر الأندلس وطَنْجَة وكلّ ما وراء إفريقية، وأمره سليمان فيما فعله حبيب بن أبي عُبَيْدة وزياد بن النّابغة من قتل عبد العزيز، بأن يتشدّد في ذلك، وأن يقفلهما إليه ومَن شركهما في قتله من وجوه النّاس. ثمّ مات سليمان، فسرّح عبيد الله بن يزيد والي إفريقيّة على الأندلس الحرَّ بن عبد الله الثَّقفي، وأمره بالنظر في شأن قتل عبد العزيز"(1) مما يفهم صراحة أنّ الأمر دُبِّر بغير علم الخليفة، وأنّ الخليفة لا علاقة له بقتل عبد العزيز.
ولم يكن من سمات خُلق سليمان بن عبد الملك الإقدام على الاغتيالات أو التحريض عليها، فقد وصف سليمانَ المؤرِّخون بأنّه:"مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السُّجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز"(2)، فلا يتّهمه بالاغتيال، أو يصدِّق هذا الاتّهام، عاقل غير متحيِّز.
كما أنّ عبد العزيز، لو أراد الاستقلال بالأندلس عن الخلافة، لأعدّ لذلك عدته، التي من أوّلها: إبعاد غير الموثوق بهم من صفوف جنده، واتِّخاذ الحماية الكافية لنفسه، وتقريب مَن يعينه سلى تحقيق ما يصبوا إليه.
ولم يتّخذ عبد العزيز شيئاً من هذه التدابير، ولو اتّخذ شيئاً منها، لما سهل على الطّامعين والمنافسين له اغتياله بسهولة ويُسر.
أمّا اتِّهامه بأنّه ضعيف مترف مُستَخذٍ لزوجه، وأنّه تنصّر، فلا سبيل إلى تصديق ذلك، فقد أقام مع زوجه أيلونا في دار متواضعة قريبة من موضع
(1) أخبار مجموعة (22 - 23).
(2)
الطبري (5/ 304).
اجتماع المسلمين ومكان صلاتهم. ولو كان ضعيفاً مترفاً لسكن أحد قصور إشبيلية الفخمة، ولما استقرّ في دار متواضعة، ليكون قريباً من رجاله ومن مسجده.
أمّا أنّه تنصّر، فقد كان خيّراً فاضلاً (1)، ومن خير الولاة (2)، ولمّا أُحضر رأس عبد العزيز بين يدي سليمان، حضر أبوه موسى، فقال له سليمان:"أتعرف هذا؟ "، قال:"نعم، أعرفه صوّاماً قوّاماً، فعليه لعنة الله إن كان الذي قتله خيراً منه"(3).
والمعقول، أنّ عبد العزيز ذهب ضحيّة الطامعين بولاية الأندلس والمنافسين له على الحكم، وبخاصة بعد أن أصبح أبوه موسى وأهل بيته من المغضوب عليهم، فكان موقف عبد العزيز في مدّة ولايته ضعيفاً، وأصبحت الفرصة سانحة أمام الطّامعين والمنافسين له:"ثمّ اجتمعوا على أيوب بن حبيب الَّلخْمِيّ الذي قُتل عبد العزيز بمشورته"، مما يدلّ بوضوح على أنّ الأمر تمّ في الأندلس بعد أن تشاور الطّامعون والمنافسون له، فشنّوا حرب الإشاعة، وكان موقف عبد العزيز يومئذ بعد نكبة أبيه واهناً، فنجح أعداؤه في قتله وتولّى السّلطة بعده، ولو إلى حين.
ويبدو أنّ حال عبد العزيز مع جنده لم يكن على ما ينبغي، لا لأنّهم كانوا ساخطين عليه، بل لأنّ نفراً منهم كان شديد التّطلع والطموح، وكان هؤلاء النّفر في الظّاهرين في جنده وكبار رجاله.
لقد أصبح عبد العزيز والياً على الأندلس منذ مبارحة أبيه موسى الأندلس في صفر من سنة خمس وتسعين الهجرية (تشرين الأول - تشرين الثاني - أكتوبر - نوفمبر من سنة 713 م)، وجرى اغتياله في رجب سنة سبع وتسعين
(1) نفح الطيب (1/ 234) وابن الأثير (5/ 489).
(2)
نفح الطيب (1/ 281).
(3)
جذوة المقتبس (271) وبغية الملتمس (386).
الهجرية (1)(كانون الثاني - يناير من سنة 716 م)، فقضى في ولايته زهاء عامين فقط، أنجز ما أنجز خلالهما من أعمال جِسام، ذكرنا قسماً منها، وكان بإمكانه أن ينجز أعمالاً أكبر مما أنجزه وأكثر، لولا أنّ نفسه كانت طوال أيام ولايته مروّعة ينتابها الخوف على مصير أبيه موسى بن نُصير، ومصير أسرته، فمال إلى السّكون والانتظار والترقب، وبهذا وحده يمكن أن نعلّل عدم نشاطه في العمل (2)، وقد عرفناه إلى ذلك الحين رجلاً مقداماً نشيطاً لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ويُتعب من يعمل معه دون أن يَتعب، فقد كان من أولئك القلائل الذين لا ينامون ولا يُنيمون.
ولا عبرة في ذكر شيء من حرب الإشاعة في بعض المصادر المعتمدة، التي أشاعها أعداء عبد العزيز عليه طمعاً بولاية الأندلس ومناصبها العليا، فقد تردّد ذكرها على ألسنة الناس وتناقلوها دون تدقيق ولا تمحيص، فسجّلها أحد المؤرخين ثقة بها أو كشفاً لزيفها، ثمّ تناقلها عنه غيره بالتدريج، ولا غبار على أنّها من الإشاعات المغرضة التي لا تُصدّق، فما كلّ ما خطّته المصادر صواب، ولا يخلو مصدر من هفوات.
وقد كان موسى بن نُصير من التابعين (3)، فيكون عبد العزيز ابنه من تابعي التابعين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
(1) البيان المغرب (2/ 34)، وأنظر جذوة المقتبس (271)، وفي بغية الملتمس (386): أنّه قتل سنة تسع وتسعين الهجرية.
(2)
فجر الأندلس (129).
(3)
تاريخ العلماء والرواة بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (457) ووفيات الأعيان (4/ 402) والبداية والنهاية (9/ 171).