الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحصينة وحاصرها بشدّة، وأطلق المسلمون عليها الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع حتى سلّمت. وفي رجب من العام التالي (725 هـ) سار إسماعيل إلى مرتش واستولى عليها عَنْوَة، وكانت أعظم غزواته، وامتلأت أيدي المسلمين بالسّبي والغنائم، ثم عاد السلطان إلى غرناطة مكلّلاً بغار النصر. بيد أنه لم تمض على عودته ثلاثة أيام، حتى قتل بباب قصره غيلة، وكان قاتله ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة، وقد حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن ظفر بها في معركة مرتش وبعث بها إلى حريمه بالقصر. ولما عاتبه محمد ردّه بجفاء، وأنذره بمغادرة البلاط، فتربص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه، فحمل جريحاً حيث توفى على الأثر، وكان مصرعه في السادس والعشرين من رجب سنة (725 هـ) - (تموز - يونيه 1325 م).
وكان السلطان إسماعيل يتمتّع بخلال باهرة، وكان يشتد في إخماد البدع وإقامة الحدود، وفي عهده حرِّمت المسكرات وطورد الفساد الأخلاقي، وحرم جلوس الفتيات في ولائم الرجال، وعومل يهود بشىء من الشدّة، وأُلزِموا أن يتخذوا لهم شعاراً بهم، هو عبارة عن العمائم الصفراء (1).
وكان من أوائل أعماله، تجديد معاهدة الصداقة مع أراغون، وكان ملكها خايمي الثاني قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة، ففعل كما ذكرنا.
2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه
وخلفه ولده أبو عبد الله محمد، وهو فتى يافع لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، وكانت أمه نصرانية تدعى علوة، وأخذ له البيعة وزير أبيه أبو الحسن
(1) الإحاطة (1/ 395 - 401) واللّمحة البدرية (71 - 74).
بن مسعود، وقام بكفالته بضعة أشهر حتى توفي، ثم خلفه في الوزارة وكيل أبيه محمد بن أحمد بن المحروق، فاستبدّ بالأمور واستأثر بكل سلطة، فحقد عليه السلطان الفتى، وكان رغم حداثته مقداماً قوي النفس، ولم يلبث أن بطش بوزيره المتغلِّب عليه، فقتل بأمره سنة (729 هـ).
وكان من أوائل أعماله، تجديد معاهدة الصداقة مع أراغون، وكان ملكها خايمي الثاني قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة التي عقدت بينه وبين أبيه وانقضى أجلها المحدّد بانقضاء أعوامها الخمسة، فوافق السلطان على تجديدها بسائر نصوصها وشروطها، ووقّعت المعاهدة الجديدة في جمادى الثانية سنة (726 هـ - مايس - مايو - 1326 م)(1).
ولأول عهده نشب الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة المغاربة وعلى رأسهم عثمان بن أبي العلاء، وامتنعوا ببعض الثغور الجنوبية ولا سيما ألمرية، وانضم إليهم عمّ السلطان محمد بن فرج بن إسماعيل، فقاموا بدعوته، ونشبت بين الفريقين عدّة معارك محلية كان النصر بينهما سجالاً فيها، وانتهز القشتاليون - كعادتهم - تلك الفرصة، فأثخنوا في الأراضي الإسلامية واستولوا على ثغر بيره وعدد من الحصون (2). ولما تفاقم عبث النصارى آثر السلطان التفاهم مع الخوارج عليه، وعقدت بينهما الهدنة على أن يستقروا بوادي آش باسمه وتحت طاعته. وتولى تدبير الأمور بعد مقتل ابن المحروق، الحاجب أبو نعيم رضوان النصري، فهدأت الفتنة واستقرّت الأمور نوعاً ما، ولكن ابن الأحمر كان يتوجّس شراً من اضطراب الأحوال في مملكته، ومن تربص النصارى بها، ورأى أن يتّجه بصريخه إلى بني مرين مرة أخرى، وكانت العلائق يومئذ على صفائها بين غرناطة وفاس، وكان بنو مرين حينما شغلوا بشئونهم الداخلية قد تركوا الجزيرة وحصونها لابن الأحمر (سنة
(1) Archivo de la Corona de Aragon ، No. 148
(2)
الإحاطة (1/ 544)، وبيره Vera بلدة حصينة تقع في شمال شرقي ولاية ألمرية على مقربة من البحر.
712 هـ)، فلما اشتدّت وطأة النصارى على غرناطة، عاد ابن الأحمر، فنزل عن الجزيرة إلى ملك المغرب السلطان أبي سعيد (سنة 729 هـ) لتكون رهينة ومنزلاً للأمداد المرجوّة من وراء البحر، ولكن النصارى استولوا على معظم حصونها وأضحى طريق الجواز ولا سيما بعد ضياع جبل طارق عسيراً محفوفاً بالمخاطر. وعبر ابن الأحمر في أواخر سنة (732 هـ) إلى عدوة المغرب، وقصد إلى فاس مستنجداً بملك المغرب السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن أبي يعقوب المريني، فاستقبله السلطان بمنتهى الحفاوة، وشرح له ابن الأحمر ما انتهت إليه شئون الأندلس، وما ترتّب على سقوط جبل طارق من قطع صلة الوصل بين المملكتين، ورجاه الغوث والعون.
والواقع أن استيلاء النصارى على جبل طارق في سنة (709 هـ - 1310 م) كان أعظم نكبة منيت بها الأندلس منذ سقوط قواعدها الكبرى. وقد شعرت مملكة غرناطة بفداحة النكبة، وازداد منذ وقوعها توجّسها من المستقبل. وكان المسلمون قد جدّدوا تحصيناتها في منتصف القرن السادس الهجري، حينما عبر إليها خليفة الموحِّدين عبد المؤمن بن علي، وأسماها جبل الفتح، وأمر بتجديد حصنها الذي ما يزال قائماً حتى اليوم فوق الصخرة من ناحيتها الشمالية. وكان سلطان غرناطة يتوق إلى استرداد هذا المعقل درع مملكته من الجنوب، وكان فوق اضطرامه بعاطفة الجهاد، يرى خطر إسبانيا النصرانية يلوح داهماً ليس على الأندلس فقط، بل وعلى المغرب أيضاً. ذلك لأن الأندلس أخذت تبدو من ذلك الحين جناح المغرب وخطّه الدفاعي الأول من الشمال، ولابد من تأمين هذا الخط والسّهر على سلامته، وذلك بدعم قوة الأندلس وتأييدها، وردّ خطر النصارى عنها. ومن ثم فقد استجاب أبو الحسن لدعوة ابن الأحمر، وبعث معه الإمداد بقيادة ولده أبي مالك، لمنازلة جبل طارق وافتتاحها، وتلاقت على أثرها السفن تحمل المدد والعدد والمؤن، وحشد ابن الأحمر قواته، وزحف على الجزيرة واستولى عليها. وطوّق المسلمون جبل طارق من البر والبحر، ورابط أسطول المغرب في
بحر الزقاق ليحول دون وصول الإمداد إلى النصارى، وهرع ملك قشتالة الفونسو الحادي عشر في قوة من الفرسان، لإنجاد الحامية المحصورة، فبادر ابن الأحمر إلى مهاجمة النصارى، وهزمهم أمام جبل طارق تجاه البرزخ الإسباني. وكان أكبر الفضل في إحراز هذا النصر راجعاً إلى همّة الحاجب رضوان النصري وإقدامه وبراعته. ثم شدّد المسلمون الحصار على الثغر، فقطعوا كل صلاته من البر والبحر، فلم تمض بضعة أسابيع حتى ساءت حالة الحامية النصرانية، واضطرت على التسليم قبل مقدم الجيش القشتالي. وبذلك استعاد المسلمون الثغر المنيع في أواخر سنة (733 هـ - 1333 م) بعد أن لبث في حوزة النصارى أربعة وعشرين عاماً، وكان أكبر الفضل في استرداده راجعاً إلى معاونة السلطان أبي الحسن في البر والبحر. ولما رابط المسلمون والنصارى في الميدان وجهاً لوجه، ورأى ملك قشتالة أنه لا أمل في كسب معركة انتهت بظفر المسلمين، آثر الصلح، وانتهى الأمر بعقد الهدنة بين الملكين (1). واعتزم السلطان محمد بن إسماعيل بن الأحمر العودة بجنده إلى غرناطة، ولكنه ما كاد يغادر جبل طارق في اليوم التالي عائداً إلى عاصمة ملكه، حتى اغتاله في الطريق جماعة من المتآمرين بتحريض بني أبي العلاء (ذو الحجة سنة 733 هـ). وكان أولئك القادة المغاربة وعلى رأسهم شيخهم عثمان بن أبي العلاء قد استفحل أمرهم في الدولة، وأخذوا ينازعون السلطان في أمر تصرفاته، وبدأ ابن الأحمر يتبرم بتدخلهم واستبدادهم، وكان حينما عبر السلطان أبو الحسن قد خاطبه في شأنهم وسبيل الخلاص منهم. واستراب بنو أبي العلاء منه، وتوجّسوا شرّاً، فأتمروا للتخلّص منه قبل أن يبطش بهم، ولحق به المتآمرون حين عوده، واغتالوه طعناً بالرماح، وتركت جثته في العراء حيناً، حتى نقلت بعد ذلك إلى مالقة ودفنت بها (2).
(1) الإحاطة (1/ 540 - 552) والّلمحة البدرية (77 - 82) وابن خلدون (7/ 255).
(2)
ابن خلدون (7/ 263 - 264).