المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌1 - توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

‌نهاية النهاية

‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

كان انهيار الثورة الموريسكية وسحق الموريسكيين، خاتمة عهد الكفاح المرير بين شعب مهيض أعزل، يحاول أن يحتفظ بشخصيته وكرامته وحقه في الحياة، وبين القوة الغاشمة، التي تريد أن تسحق في بقية الأمة المغلوبة كل أثر للحياة الحرّة الكريمة. ولكن الثورة الموريسكية كانت من جهة أخرى، نذيراً عميق الأثر للسياسة الإسبانية. ذلك أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تجريدهم من كل مظاهر القوة المادية، قوة أدبية واجتماعية يخشى بأسها. وكان هذا الشعب المستكين الأعزل ما يزال رغم ضعفه وذلته، يملأ جنبات الجزيرة بفنونه ونشاطه المنتج، ويحتلّ مكانة بارزة في الشئون الإقتصادية. وكانت الكنيسة ما تزال تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض، على مجتمع لم تطمئن لولائه وصدق إيمانه. وقد وصف المطران جرّيرو ( GUERRERO) الموريسكيين في سنة (1565 م) بقوله:"إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة في سرائرهم، وهم يذهبون إلى القداس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمّون حتى في كانون الثاني - ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدّمون أولادهم للتنصير خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوروبية، فإذا عدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للرسوم العربية"(1). وهذه الأقوال تنطوي على كثير من الصّدق، ذلك أن الأمة الموريسكية المهيضة، بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف

(1) Marmol; ibid، 11. Cap. 1 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 213-214

ص: 365

والإرهاق متعلِّقة بتراثها الروحي القديم. بالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين في سرائرهم، يزاولون شعائرهم القديمة خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية، أو بالقشتالية المكتوبة بحروف عربية، وهي التي تعرف بالألخميادو ( Aljamiado) أي (الأعجمية). وقد وصلت إلينا كثير من الكتب الدينية والأدعية والمدائح الإسلامية الموريسكية مكتوبة بالألخميادو، وكثير منها يدور حول سيرة النبي العربي عليه الصلاة والسلام، وشرح تعاليم القرآن والسنة، يتخللّها كثير من الخرافات والأساطير المقدسة (1)، بيد أنها تدلي بما كانت تجيش به هذه النفوس المعذّبة من إخلاص راسخ لدينها القديم وإن التبست عليهم أصوله وشعائره بمضي الزمن.

وقد لبث ديوان التحقيق على نشاطه ضد الموريسكيين طوال القرن السادس عشر، ولم يفتر هذا النشاط حتى أواخر هذا القرن، مما يدل على أن آثار الإسلام بقيت بالرغم من كرّ الأعوام وتوالي المحن، دفينة في قلب الشعب المضطهد، تنضح آثارها من آن لآخر، يدل على ذلك ما تسجله محفوظات الديوان، من أن قضايا الموريسكيين أمام محاكم التحقيق، بلغت في سنة (1591 م)، (291) قضية، وبلغت في العام التالي (117) قضية، وظهر في حفلة:(الأوتو دا في Auto-da-Fe) التي أقيمت في (5 أيلول - سبتمبر سنة 1604 م) ثمانية وستون موريسكياً، نفذت فيهم الأحكام. وظهر في حفلة (7 كانون الثاني - يناير 1607 م) ثلاثة وثلاثون موريسكياً، واستعمل التعذيب في محاكمتهم خمس عشرة مرة، وكان الاتهام يوجه أحياناً إلى الموريسكيين جملة، على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات الموريسكية؛ فقد حدث مثلاً في سنتي (1589 و 1590 م) أن سجلت في قرية

(1) وضع القس الإسباني Pedro Loges عن حياة الموريسكيين الدينية كتابه Vida Religiose de Los Moriscos (Madrid 1915) وفيه يورد كثيراً من رسومهم وعوائدهم الدينية، وكثيراً من الآيات والمدائح النبوية بالقشتالية.

ص: 366

مسلاته الموريسكية بالقرب من بلنسية مائة قضية، وسجلت في قرية كارليت مائتان، واتهم أربعون أسرة بصوم رمضان. والواقع أنه كان من الصعب على مَن بقيت في نفوسهم جذوة أخيرة من دين الآباء. ولم يخمدها تعاقب جيلين أو ثلاثة من النصرانية المفروضة، أن يكونوا دائماً بمنجاة من الاتهام، ولهذا كان الشعب الموريسكي بأسره أينما وُجد، عرضة للاتهام بالحق أو الباطل، وإذا كانت ثمة أوقات يهدأ فيها نشاط محاكم التحقيق، فذلك يرجع بالأخص إلى استعمال الرشوة مع المأمورين، أو الحصول على براءات الحصانة بالمال. وتوضح لنا قضية بني عامر زعماء الموريسكيين في بلنسية هذه الحقيقة أتم وضوح. كانت أسرة بني عامر من أعرق الأسر المسلمة القديمة، التي أُكرهت على التنصير، وكان زعماؤها إخوة ثلاثة، هم: دون كوزمي، ودون خوان، ودون هرناندو بني عامر، ومنزل الأسرة في بنجوازيل (بني وزير) ضاحية بلنسية. وكان الثلاثة من ذوي المكانة والنفوذ، يسمح لهم بحمل السلاح وامتيازات أخرى محرمة على الموريسكيين. ففي (مارس - مايو سنة 1567 م) صدر قرار محكمة التحقيق باتهامهم، وتقرر القبض عليهم، ولكن بعد أن وافقت المحكمة العليا (سوبريما) نظراً لخطر مكانتهم، فاختفى الإخوة الثلاثة حيناً، ولكن الدون كوزمي قدّم نفسه للسلطات في (كانون الثاني - يناير 1568 م)، وقرر في التحقيق أنه يعتقد أنه نصّر طفلاً، ومع ذلك فإنه لا يعتبر نفسه نصرانياً بل مسلماً، وأنه جرى خلال حياته على مراعاة الشعائر الإسلامية، ولم يذهب إلى المعترف إلاّ خضوعاً للأوامر، على أنه ينبغي أن يكون في المستقبل نصرانياً، وأن يؤدي ما يطلبه المحققون إليه، ولم يقدم دون كوزمي خلال محاكمته أي دفاع، ولكنه أفرج عنه في (15 حزيران - يوليه) بضمان قدره ألفا دوق، على أن يبقى في بلنسية ولا يبرحها. ومع ذلك سافر دون كوزمي إلى مدريد، وحصل على عفو عنه وعن أخويه من الملك والمحكمة العليا، نظير فداء قدره سبعة آلاف دوق، واستطاع فوق ذلك بنفوذه القوي، أن يحصل للموريسكيين في بلنسية على

ص: 367

قرار التوفيق الصادر في سنة (1571 م) كما قدمنا.

وفي سنة (1577 م) جدِّدت التهم القديمة ضد بني عامر، وقبض على كوزمي وأخيه خوان، وحوكم كوزمي وشرح عقيدته الدينية، وهي مزيج من الإسلام والنصرانية، وعقدت الجلسات الأولى، ولكن القضية أوقفت قبل أن يصل التحقيق إلى مرحلة التعذيب، مما يدل على أن بني عامر بالرغم من سوء حالتهم المالية يومئذ استطاعوا أن يحصلوا على براءتهم وإطلاق سراحهم بدفع مبلغ آخر من المال (1).

وهكذا نرى أن الموريسكيين استطاعوا بالرغم من العسف المنظم، الذي فرضته الدولة والكنيسة عليهم زهاء قرن، أن يحتفظوا في قرارة نفوسهم الكليمة ببقية راسخة من تراثهم الروحي القديم.

هذا من ناحية الدين والعقيدة، أما من الناحية الاجتماعية فقد كان الموريسكيون يكوّنون مجتمعاً متماسكاً متضامناً قوياً بنشاطه ودأبه وذكائه، وقد بلغ عددهم في أواخر القرن السادس عشر وفقاً لتقدير سفير البندقية زهاء ستمائة ألف نفس، وقدّر بعضهم الآخر عددهم يومئذ بأربعمائة ألف نفس، وهو عدد ضخم بالنسبة لسكان إسبانيا في ذلك الوقت، وهو لم يتعد الثمانية ملايين. ووصفهم سفير البندقية في سنة (1595 م) - أي بعد قرن من سقوط غرناطة - بأنهم شعب ينمو باضطراد في العدد والثروة، وأنهم لا يذهبون إلى الحرب، ولكن يكرسون نشاطهم للتجارة واجتناء الربح. وذكر الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس (2) في بعض رسائله، أن الموريسكيين يتكاثرون وكلهم يتزوج، ولا يدخلون أولادهم قط في سلك الكهنوت أو الجيش، ويقتصدون في الإنفاق، ويكتنزون المال، فهم الآن أغنى الطوائف في إسبانيا. وأما عن الناحية الاقتصادية، فقد قيل: إن الموريسكيين كانوا

(1) Dr Lea: History of the Inquisition; V. 111. P. 362-365.

(2)

مجيل ثرفانتس دي سافدرا (1547 - 1616) من أعظم كتّاب إسبانيا وشعرائها، وهو مؤلف قصة الفروسية الشهيرة:"دون كيخوتي دي لامانشا".

ص: 368

يحتكرون تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها، ومنهم تجار البقالة والماشية، ومنهم القصابون والخبازون وأصحاب الفنادق وغيرهم، ولا يشترون العقارات احتفاظاً بحرية استعمال أموالهم، وقد كان ذلك من أسباب غناهم وقوتهم الاقتصادية (1).

كانت إسبانيا النصرانية إذاً أبعد من أن تطمئن إلى مجتمع العرب المتنصرين، فقد كانوا في نظر الكنيسة أبداً كفرة مارقين، وكانت الدولة من جانبها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع الدخيل ومطاردته، فهي تخشى أن يعود إلى الثورة، وهي تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمي إفريقية ومع سلطان الترك، وهي مازالت تحلم بتطهير إسبانيا من الآثار الأخيرة للشعب الفاتح، والقضاء إلى الأبد على تلك الصفحة من تاريخ إسبانيا.

والواقع أن صلات الموريسكيين مع أعداء إسبانيا، لبثت شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية. وقد كانت المماليك والإمارات المغربية في الضفة الأخرى من البحر، على استعداد دائماً لأن تصغي إلى هذا الشعب المنكود، سليل إخوانهم الأمجاد في الدين، وأن تعاونه كلما سنحت الفرص. وكان سلاطين الترك يتلقون من الموريسكيين صريخ الغوث من آن لآخر، وكانت المنافسة بين الترك وإسبانيا يومئذ على أشدها، في مياه البحر الأبيض المتوسط، وكانت طوائف الموريسكيين تعيش على مقربة من الثغور الشرقية والجنوبية، وأكثر من ذلك أن السياسة الإسبانية كانت تخشى دسائس فرنسا خصيمتها القوية يومئذ، وتخشى تفاهمها المحتمل مع الموريسكيين. وكانت هذه الظروف كلها تحمل إسبانيا النصرانية، على أن تعتبر الموريسكيين خطراً قومياً يجب التحوّط منه، والعمل على درئه بكل الوسائل.

وتسوق إلينا الرواية الإسبانية دلائل هذا الخطر في حوادث كثيرة، ففي سنة

(1) Dr Lea: The Moriscos. P. 204 ، 210.

ص: 369

(1583 م) وقفت السلطات الإسبانية، على أنباء مفادها أن أمراء تلمسان والجزائر يدبرون حملة بحرية لمهاجمة (المرسى الكبير) في مياه بلنسية، يعاونهم الموريسكيون فيها بالثورة، ولذا بادرت السلطات بنزع السلاح من الموريسكيين في بلنسية، وقيل بعد ذلك: إن هذه الحملة المغربية كانت ستقترن بغزوة فرنسية لأراغون، ينظمها حاكم بيارن الفرنسي، وأن سلطان الترك وسلطان الجزائر كلاهما يؤيد المشروع، وأن أساطيل الغزو كانت تزمع النزول في مياه برشلونة وفي دانية، وفيما بين مرسية وبلنسية، وأن الفضل في إخفاق هذا المشروع كله يرجع إلى حزم الدون خوان ونزع سلاح الموريسكيين. ومما يدل على أن إسبانيا لبثت حيناً على توجسها من فرنسا ودسائها لدى الموريسكيين، ما تسوقه الرواية الإسبانية من أن هنري الرابع ملك فرنسا، كانت له في ذلك مشاريع خطرة، ترمي إلى غزو إسبانيا من ناحية بلنسية، حيث يوجد حشد كبير من الموريسكيين، وأن زعماء الموريسكيين وعدوا بإضرام نار الثورة، وتقديم عدد كبير من الجند، ولم يطلبوا سوى السلاح، وكان من المنتظر أن تقوم الثورة الموريسكية في سنة (1605 م)، ولكن المؤامرة اكتشفت في الوقت المناسب وانهار مشروع الغزو. وهذه الروايات العديدة التي جمعها (ديوان التحقيق) الإسباني على يد أعوانه وجواسيسه، تنقصها الأدلة التاريخية الحقة (1).

على أن الخطر الحقيقي، كان يتمثل في غارات المجاهدين من خوارج البحر المسلمين على الثغور والشواطئ الإسبانية. وتملأ سير هذه الغارات فراغاً كبيراً في الرواية الإسبانية، وتسبغ عليها الرواية صفة الانتقام للأندلس الشهيدة. وقد لبثت هذه الغارات طوال القرن السادس عشر، واستمرت دهراً بعد إخراج العرب المتنصرين من إسبانيا. ويشير المقري مؤرخ الأندلس إلى مغزى هذه الغارات البحرية بعد إخراج الموريسكيين، فيقول: إنهم انتظموا

(1) Dr. Lea: The Moriscos; P. 281-284 and 286-288.

ص: 370

في جيش سلطان المغرب، وسكنوا مدينة سلا، وكان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن (1). ويجب أن نذكر أن مياه البحر المتوسط شرقه وغربه، خلال العصور الوسطى كانت دائماً مسرحاً سهلاً للأساطيل الإسلامية. فمنذ أيام الأغالبة والفاطميين، ومنذ خلافة قرطبة ثم المرابطين والموحدين، كانت الأساطيل الإسلامية تجوس أواسط البحر المتوسط وغربيه، وكانت الدول الإسلامية الأندلسية والمغربية، ترتبط مع الدول النصرانية الواقعة في شمال هذا البحر، مثل البندقية وجنوة وبيزة، بمعاهدات ومبادلات تجارية هامة، وكان التسامح يسود يومئذ علائق المسلمين والنصارى وتغلب المصالح التجارية والمعاملات المنظمة، على النزاعات الدينية والمذهبية. وقد كانت المغامرات البحرية الحرّة وأعمال (القرصنة)، توجد في هذه العصور دائماً، إلى جانب نشاط الأساطيل الرسمية. وكان البحر المتوسط منذ أقدم العصور مسرحاً لهذه المغامرات، وكان معظم خوارج البحر (القراصنة) يومئذ من الأمم التي غزت البحر في عصور متقدمة، مثل اليونان وأهل سردينيا وجنوة ومالطة. وفي أيام الصليبيين ازدهرت المغامرات في البحر الأبيض المتوسط، واستمر النصارى عصوراً زعماء هذه المهنة. ولم تكن ثمة بحريات منظمة تقوم بمطاردة أولئك الخوارج. وكانت المغانم الوفيرة من الاتجار في الرقيق، والبضائع المهرّبة، وافتداء الرقيق، تذكي عزمهم، وتدفع إليهم بسيل من المغامرين من سائر الأمم. ولما ظهرت الأساطيل الكبرى منذ القرن الرابع عشر، ضعف أمر أولئك المغامرين. ولم تكن هذه المياه خلواً من نشاط المغامرين المسلمين، ولكنهم لم يظهروا في هذا الميدان إلاّ منذ القرن الخامس عشر، حينما ضعف أمر الأندلس والدول المغربية وسادَتْها الفوضى، واضطربت العلائق البحرية والتجارية المنظمة بين المغرب والدول النصرانية. وكانت الشواطئ المغربية تقدم إليهم

(1) نفح الطيب (2/ 617)، وقد أنجز المقري كتابه سنة 1630 م.

ص: 371

المراسي الصالحة. ولما اشتد ساعد البحرية التركية بعد استيلاء الترك على القسطنطينية، زاد نشاط المغامرين المسلمين في البحر. وكان سقوط غرناطة واضطهاد الأسبان النصارى للمسلمين، إيذاناً بتطور هذه المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والموريسكيين المنفيين إلى ميدانها، واتخاذها مدى حين، صورة الجهاد والانتقام القومي والديني، لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق (1).

وقد بدأت هذه الغارات البحرية على السواحل الإسبانية، عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم للمسلمين على التنصير. في ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من الأندلسيين المجاهدين، أنفوا العيش في الوطن القديم، في مهاد الذلَّة والاضطهاد، تحت نير الإسبان، وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، وقلوبهم تفيض حقداً ويأساً، واستقروا في بعض القواعد الساحلية، مثل وهران والجزائر وبجاية، ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد في سبيل الله والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم، وظلموا أمتهم، وانتهكوا حرمة دينهم. وكان البحر يهيء لهم هذه الفرصة التي لم تهيؤها لهم الحرب البرية، وكانت شواطئ المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها وخلجانها الكثيرة، التي تحميها وتحجبها الصخور العالية، أصلح ملاذ لمشاريع أولئك التجار المجاهدين والقراصنة المغيرين. وكانت الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع، وكانت هذه الغارات البحرية تعتمد بالأخص على عنصر المباغتة، وتنجح في معظم الأحيان في تحقيق غاياتها.

ويصف بيترو مارتيري هذه الغارات بإسهاب ويقول: إن فرديناند الخامس أمر في سنة (1507 م) للتحوط ضد هذه الغارات، بإخلاء الساحل الجنوبي من جبل طارق إلى ألمرية لمدى فرسخين إلى الداخل. ثم صدرت مراسم

(1) Lane-Poole: The Barbary Corsairs ; P. 26 and 27.

ص: 372

متعددة تحظر على الموريسكيين السفر على أبعاد معينة من الشواطئ، ولكن هذا التحوط لم يغن شيئاً، واستمرت الغارات على حالها. وكان اللّوم يلقى في ذلك منذ البداية على الموريسكيين ولاسيما أهل بلنسية. وكان الموريسكيون كلما اشتدّ عليهم وطأة الاضطهاد والمطاردة، اتجهوا إلى إخوانهم في المغرب يستصرخونهم للتدخل والانتقام. وكان المجاهدون المغاربة يغيرون بسفنهم على الشواطئ الإسبانية، ويخطفون النصارى الإسبان، ويجعلونهم رقيقاً يباع في أسواق المغرب، وكان الموريسكيون يزودون الحملات المغيرة بالمعلومات الوثيقة، عن أحوال الشواطئ ومواضع الضعف فيها، ويمدّونها بالأقوات والمؤن. وكانت الحملات تجهز في أحيان كثيرة لنقل الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وقد استطاعت خلال القرن السادس عشر، أن تنقل منهم إلى الشواطئ الإفريقية جماعات كثيرة.

وقد ظهر منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي في الميدان عنصر جديد، أذكى موجة الغارات البحرية في هذه البحار. ذلك أن البحارة الترك، وعلى رأسهم الأخوان الشهيران عروج وخير الدين (1)، اندفعوا من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه، في طلب المغامرة والكسب. وفي سنة (1517 م) سار عروج في قوة برية وبعض السفن إلى الجزائر واستولى عليها. ولما قتل في العام التالي في معركة نشبت بينه وبين الإسبان، استولى أخوه خير الدين على الجزائر، ثم استولى على معظم الثغور المغربية الساحلية، وعينه السلطان سليم حاكماً على هذه الأنحاء، وأمدّه بالسفن والجند. وتألق نجم خير الدين في ذلك الحين، وأصبح اسمه يقرن بذكر أعظم أمراء البحر في ذلك العصر، وكان من معاونيه نخبة من أمهر الربابنة الترك، مثل طرغود الذي

(1) ويعرف كلاهما في الرواية الأوروبية: "بربروسا" أو ذو اللحية الحمراء، وقد انتهى إلينا عن مغامرات هذين الأخوين الشهيرين وغاراتهما البحرية كتاب بالعربية، منقول عن أصل تركي، نشر في الجزائر سنة (1934) بعنوان:"غزوات عروج وخير الدين". والظاهر أنّه من تأليف راوية معاصر، أو قريب من العصر.

ص: 373

خلفه في الرئاسة فيما بعد، وصالح ريس، وسنان اليهودي، وإيدين ريس وغيرهم من المغامرين، الذين اشتهروا بالجرأة والبراعة. وبسط أولئك البحارة الترك سلطانهم على معظم جنبات البحر الأبيض المتوسط، واشتهروا بغاراتهم على الشواطئ الإيطالية والإسبانية، والتفّ حولهم معظم المجاهدين والمغامرين من المغاربة والموريسكيين. وبدأ خير الدين غاراته في المياه الإسبانية بمهاجمة الشواطئ الشرقية، وقطع خلال هذه الغارة ثلاثة أشهر، عاث فيها في البقاع الساحلية، وجمع في سفنه كثيراً من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وأسر كثيراً من الإسبان. وعرج أثناء عوده على جزيرة منورقة. وكان من أهم الغارات التي نظمها خير الدين على الشواطئ الإسبانية، غارة وقعت في سنة (1529 م)، وذلك أن جماعة من الموريسكيين في بلنسية فاوضوه لكي ينقلهم خلسة إلى عدوة المغرب، فأرسل عدّة سفن بقيادة نائبيه: إيدين ريس، وصالح ريس، إلى المياه الإسبانية، ورست السفن المغيرة ليلاً عند أوليفا الواقعة شمال غربي دانية أمام مصب نهر (ألتيا)، ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تجمع من الأنحاء المجاورة نحو ستمائة من الموريسكيين الراغبين في الهجرة، وهنا فاجأت السفن المغيرة عدة من السفن الإسبانية الكبيرة، وطاردتها حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار). ولكن سفن بربروسا انقلبت فجأة من الدفاع إلى الهجوم، وانقضت على السفن الإسبانية وأغرقت بعضها، وأسرت بعضها الآخر، وسارت سالمة إلى الجزائر تحمل الموريسكيين الفارين، وعدداً من أكابر الإسبان أخذوا أسرى، ومعها عدة من السفن الإسبانية الفخمة. وكان صريخ الموريسكيين يتوالى إلى خير الدين وحلفائه من أمراء المغرب، ولا سيما أيام الثورات المحلية التي تشتد فيها وطأة الإسبان على الأمة المغلوبة، ومن ثم فقد توالت بعوث خير الدين وغاراته على الشواطئ الإسبانية، وتتابعت الفرص لدى الموريسكيين، للفرار والهجرة رفق السفن المغيرة، حتى بلغ ما نقلته سفن خير الدين منهم إلى شواطئ المغرب نحو سبعين

ص: 374

ألفاً (1).

وكان سلطان خير الدين وزملائه البحارة الترك في المياه المغربية، عاملاً في تحطيم كثير من مشاريع إسبانيا البحرية في المغرب. وكان الإسبان قد استولوا على ثغر وهران منذ سنة (1505 م)، واحتلوا مياه تونس سنة (1535 م)، بانضواء أميرها الحفصي المعزول تحت لوائهم، وكان كثير من أمراء الثغور والقواعد المغربية الذين يهدد الترك سلطانهم يتجهون بأبصارهم إلى الإسبان للاحتفاط برياستهم. ولدينا صور من عدة وثائق موجهة من هؤلاء الأمراء إلى الإمبراطور شارلكان، يستنصرون به، ويقطعون العهد على أنفسهم بطاعته، والانضواء تحت حمايته، وهي تدلي بموضوعها وأسلوبها بما انتهت إليه الجبهة الإسلامية في المغرب في هذا العهد من التخاذل والتفرق المؤلم.

وفي سنة (1559 م) قام أمير البحر التركي طرغود، الذي خلف خير الدين في الرياسة، بغارة كبيرة على الشواطئ الإسبانية، واستطاع أن يحمل معه ألفي وخمسمائة موريسكي، في سنة (1570 م) استطاعت السفن المغيرة أن تحمل معها جميع الموريسكيين في بالميرا، وفي سنة (1584 م) سار أسطول من الجزائر إلى بلنسية وحمل ألفين وثلاثمائة موريسكي وفي العام التالي، استطاعت السفن المغيرة أن تحمل جميع سكان مدينة كالوسا. وبلغت

(1) راجع كتاب الأستاذ لاين بول The Barbary Corsairs في الفصول الأول والثاني والثالث، حيث يورد كثيراً من التفاصيل المهمة، عن هذه الغارات البحرية، وعن مغامرات أوروج وخير الدين، وراجع كتاب "غزوات عروج وخير الدين في ص (19 و 48 و 81 و 82). وخير الدين وأخوه مجاهدان لا غبار على جهادهما، بذلا جهدهما في الدفاع عن المستضعفين من المسلمين الأندلسيين، وانتقما ممن ظلم أولئك المستضعفين، وأنقذا عشرات الألوف من المسلمين الأندلسيين المضطهدين من براثن الإسبان النصارى، فهما مجاهدان بالنسبة لنا، وقراصنة بالنسبة للمستشرقين وغير المسلمين، ولا عبرة باتهامهما من أعداء الإسلام بالقرصنة، ولكنّ على المسلمين ألاّ ينقلوا اتهام النصارى وأعداء المسلمين ويصدقونها.

ص: 375

الغارات البحرية التي وقعت على الشواطئ الإسبانية بين سنتي (1528 م و1584 م) ثلاثاً وثلاثين غارة. هذا عدا الغارات المحلية التي كانت تقوم بها سفن صغيرة لحمل جماعة من الموريسكيين المهاجرين. وقد وصف لنا الكاتب الإسباني الكبير ثرفانتيس هذه الغارات البحرية المروّعة في صور مثيرة شيّقة، ولا غرو فقد كان هو أيضاً من ضحاياها، إذ أُسر في الغارات التي وقعت سنة (1575 م)، وحمل أسيراً إلى الجزائر، ولبث يرسف في أسره بضعة أعوام، حتى تم افتداؤه في سنة (1580 م)(1).

وكان ممن عمل في البحر مجاهداً في تلك الأيام ضد الإسبان، بعض أكابر الزعماء الموريسكيين المنفيين الذي غدوا من أثر الاضطهاد من ألدّ أعداء إسبانيا، مثل الريس بلانكيو Blanquillo والرئيس أحمد أبو علي من أشونَة، ومراد الكبير جواد يانو من مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) وغيرهم، وقد أبلى هؤلاء الزعماء الموريسكيون في البحر خير بلاء، وكانوا خير مرشد لإحكام الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، ومضاعفة عصفها وعيثها.

ووقعت في سنة (1602 م) غارة كبيرة، قام بها بحار مغامر يدعى: مراد الريس على مدينة لورقة الواقعة غربي قرطاجنة على مقربة من الشاطئ، وحمل عدداً من الأسرى، وكثرت الغارات في الأعوام التالية على الشاطئ الجنوبي، وظهر فيما بعد أن منظمها بحار انكليزي مغامر، يحشد في سفنه نواتية من المغاربة، وكان يعيث في الشواطئ الأندلسية، ويقتنص الأسرى النصارى، ويبيعهم عبيداً في أسواق المغرب.

وكانت ثغور تونس في ذلك الوقت نفسه، في أيام حاكمها عثمان باي (سنة 1007 هـ،- 1019 هـ = 1598 م - 1610 م) ملاذاً لطائفة قوية من البحارة المغامرين، كانت تتكرر غاراتهم على الشاطئ الإسباني بلا انقطاع. وكان من أشهر أولئك البحارة يومئذ، عمر محمد باي الذي اشتهر بجرأته وبراعته،

(1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 363.

ص: 376

وقد قام بعدة غارات جريئة على شواطئ إسبانيا الجنوبية، وكان في كل مرة يعود مثقلاً بالغنائم والسّبي. وهكذا لبثت الغارات البحرية عصراً من الزمان، تزعج الحكومة الإسبانية، وقد زاد عددها واشتد عيثها، بالأخص منذ منتصف القرن السادس عشر، وكان هذا غريباً في الواقع، إذ كانت إسبانيا سيدة البحار، وكانت أساطيلها الضخمة تجوب مياه الأطلنطي حتى بحر الشمال وجزائر الهند الغربية، وتسيطر على مياه البحر الأبيض المتوسط الغربية، بيد أنها لم تستطع أن تقمع هذه الغارات البحرية الصغيرة المفاجئة، التي كان يقوم بها على الأغلب جماعات مجاهدة، من رجال البحر المغاربة، في سفن صغيرة، تدفعهم روح من المغامرة والاستبسال، وكان اللوم في ذلك يلقى دائماً على الموريسكيين، ولاسيما سكان الثغور منهم، فهم الذين يمدّون هذه الحملات المغيرة بالمعلومات، ويزودونها بالمؤن والعون، ويعينون لها مواقع الرسو والإقلاع، وقد كانت تأتي على الأغلب لمعاونتهم على الفرار إلى ثغور المغرب، وقد كان الموريسكيون بالرغم من اضطهادهم والتشدد في مراقبتهم، على اتصال دائم بمسلمي إفريقية وأمراء المغرب جميعاً.

لبثت هذه الغارات البحرية عصراً شغلاً شاغلاً للحكومة الإسبانية لا تجد سبيلاً إلى قمعها والتخلص من آثارها. وكان اقترانها خلال القرن السادس عشر بنضال الموريسكيين، عنصراً بارزاً في تنظيمها وتوجهها، وكانت فكرة الانتقام للأمة الشهيدة، تجثم في معظم الأحيان وراء هذه الغارات المجاهدة. ولما تمَّ نفي الموريسكيين من إسبانيا، زادت هذه الفكرة وضوحاً، واشتدت وطأة الغارات بما انتظم في صفوف المجاهدين من المنفيين، وغدت مدينة سلا بالأخص، مركزاً لأولئك المبعدين، ومنها توجه أقوى الحملات المغيرة على الشواطئ الإسبانية (1).

(1) نفح الطيب (2/ 617).

ص: 377

ولبث البحارة الترك عصراً، يتزعمون هذه الغارات بالبحرية، وجلّ اعتمادهم على النواتية المغامرين من المغاربة والموريسكيين، ثم أخذت هذه الغارات تفقد هدفها القديم بمرور الزمن، وتنقلب إلى حملات ناهبة، تنظم على الشواطئ الإيطالية، كما تنظم على الشواطئ الإسبانية، وترمي قبل كل شيء إلى تغذية أسواق المغرب والشرق الأدنى، بأسراب الرقيق. وكان يشترك مع البحارة الترك والمغاربة، مغامرون من الأفرنج من سائر الأمم. وألفى الباشوات أو الدايات الترك - الذين بسطوا حكمهم منذ أواخر القرن السادس عشر على طرابلس الغرب والجزائر - في هذه الحملات الناهبة، فرصة سانحة للغنم، فكانوا يمدون الرؤساء والزعماء بصنوف العون، عند الإنزال والإقلاع في ثغورهم، وكان الرؤساء من جانبهم، يقدمون إلى خزينة الباشا أو الداي عشر الغنائم. واسترق بهذه الطريقة عشرات الألوف من النصارى، واستمرت بعد ذلك هذه الغارات زمناً طويلاً (1).

وحدثت في تلك الآونة - التي اشتدت فيها الغارات البحرية على الشواطئ الإسبانية، في أوائل عهد فيليب الثالث في عدوة المغرب - أحداث أخرى، زادت في توجس السياسة الإسبانية من مساعي الموريسكيين في استعداء مسلمي إفريقية. ذلك أن الحرب الأهلية نشبت في مراكش، بين السلطان زيدان بن المنصور، وأخيه الشيخ المأمون، وتعددت المعارك بينهما، وانتهت بهزيمة الشيخ. وفر الشيخ مع أسرته وأمه الخيزران إلى إسبانيا، واستغاث بملكها فيليب الثالث، وتعهد بتقديم ثغر العرائش إلى إسبانيا نظير

(1) استمرت تلك الغارات في البحر المتوسط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت بعض الدول الأوروبية تعمل على تشجيعها لمضايقة بعضها الآخر، والإضرار بتجارتها. ومنذ القرن السابع عشر تعمل إنكلترا وهولندة وفرنسة على مقاومة هذه الحملات البحرية الجريئة والقضاء عليها، وذلك بمهاجمة الشواطئ المغربية وتدمير ثغورها، ولا سيما تونس والجزائر. على أنها لم تنقطع نهائياً إلاّ بعد أن غزت فرنسا الجزائر واستولت عليها في سنة 1830 م.

ص: 378

معاونته. وكان ذلك في أوائل سنة (1608 م - 1017 هـ)(1). وهنا أرسل الموريسكيون في بلنسية، رسلهم إلى مولاي زيدان، يوضحون له سهولة غزو إسبانيا ومحاربتها، وأنهم على استعداد ليقدموا له مائتي ألف مقاتل، متى أقدم على الغزو وفتح أحد الثغور الإسلامية الهامة، ولكن السلطان زيدان لم يحفل بهذا العرض، وأجاب الرسل بأنه لن يحارب خارج بلاده (2). واستجاب فيليب لدعوة الشيخ، وأرسل معه بعض سفنه إلى شاطئ المغرب، واستولى الإسبان على ثغر العرائش، فاشتد السخط على الشيخ، وانفض عنه كثير من أنصاره، ومازال الشيخ في مغامراته حتى قتل على مقربة من تطوان سنة (1022 هـ - 1613 م)، وانتهى بذلك أمره (3). واستمر السلطان زيدان حتى وفاته في سنة (1037 هـ - 1627 م) أعني بعد نفي الموريسكيين بنحو تسعة عشر عاماً، في كفاح دائم مع إسبانيا. وحدث خلال هذا الكفاح ذات مرة في سنة (1612 م) أن غنمت السفن الإسبانية في مياه المغرب، على شاطئ الأطلنطي فيما بين آسفي وأغادير، مركباً لمولاي زيدان شحنت بالتحف، وفيها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والآداب والفلسفة (4)، وكان مولاي زيدان قد غادر مراكش تحت ضغط الحوادث، وركب البحر ملتجئاً إلى الجنوب، وحمل معه مكتبته الثمينة وتحفه، فانتهبها الإسبان على هذا النحو، وحملت هذه الكتب إلى إسبانيا، وضمت فيما بعد إلى مجموعة الكتب الأندلسية بقصر الإسكوريال (5).

(1) الاستقصا (3/ 102).

(2)

Dr Lea: The Moriscos; P. 289-290.

(3)

الاستقصا (3/ 106).

(4)

الاستقصا (3/ 130).

(5)

نهاية الأندلس (362 - 375).

ص: 379