الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1446 م)، وسيّر في الوقت نفسه جزءاً من قواته لمقاتلة خصمه ابن إسماعيل. وانتهز الأحنف فرصة الخلاف القائم يومئذ بين أراغون وقشتالة، فأرسل إلى ملك أراغون يعرض عليه محالفته ضد قشتالة، ونفذ هذا الحلف بأن غزا الأحنف أرض النصارى من ناحية مرسية، والتقى بالقشتاليين قرب جنجالة وهزمهم هزيمة شديدة (1450 م). ثم عادت قواته تكرر الإغارة والعبث في أرض النصارى وتشغل قواتهم. وكان ابن إسماعيل يقيم أثناء ذلك في حصن مونتي فريو، وقد أقرت بطاعته بعض البلاد والحصون المجاورة. وهكذا اتسع نطاق النضال، وعصفت الحرب الأهلية من جهة، وغزوات النصارى من جهة أخرى بقوى غرناطة. وكان السلطان الأحنف بالرغم من عزمه وقوة نفسه، يثير غضب الشعب بطغيانه وقسوته وعنفه، وكانت معظم الأسر الكبيرة تعمل لإسقاطه، لما لقيت من بطشه وعدوانه، وهكذا تهيأ الجو لانقلاب جديد.
6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه
عاد ملك قشتالة بعد أن سوّى خلافه مع أراغون إلى التدخل في شئون غرناطة، فزوّد ابن إسماعيل ببعض قواته. وسار الأحنف لقتال منافسه، ونشبت بين الفريقين في ظاهر غرناطة معركة شديدة، انتهت بهزيمة الأحنف وفراره، فدخل ابن إسماعيل غرناطة، وجلس على العرش، وكان ذلك في سنة (1454 م). وفي بعض الروايات الأخرى أن السلطان الأحنف استمر في الحكم حتى سنة (1458 م)، ثم خلفه في الحكم الأمير سعد بن علي حفيد السلطان يوسف الثاني، واستمر في الحكم أربعة أعوام. ثم عزل في سنة (1462 م) وأعيد السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحكم حتى سنة
(1463 م)(1).
وكان السلطان ابن إسماعيل أميراً عاقلاً حازماً عادلاً، محباً للإصلاح والأعمال الإنشائية، فعكف على ضبط الأمور وتوطيد الأمن، وإقامة الأبنية وتحصين القواعد والثغور. وكان فارساً بارعاً يشترك بنفسه أحياناً في مباريات الفروسية. ولأول عهده أرسل إلى ملك قشتالة خوان الثاني يؤكد طاعته، وساد السلم لمدة قصيرة بين المسلمين والنصارى، ولكن خوان الثاني توفي بعد أشهر قلائل، وخلفه ولده هنري الرابع. وأبى ابن إسماعيل أن يعترف بحماية ملك قشتالة الجديد، محاولاً بذلك أن يكتسب الشعب إلى جانبه، وأن يوطِّد مركزه. وسيّر بعض قواته في نفس الوقت، فأغارت على الأراضي القشتالية، وأصرّ ملك قشتالة من جانبه على وجوب خضوع ملك غرناطة وطاعته، واعتزم الضغط على المملكة الإسلامية الصغيرة دون هوادة، فسار إلى أراضي غرناطة في جيش ضخم وعاث فيها، وانتسف المروج والضياع، وقتل وسبى من أهلها جموعاً كبيرة، ولقيه المسلمون في قوات صغيرة أنزلت بجيشه خسائر كبيرة. وعاد القشتاليون في العام التالي إلى عبثهم في أراضي المسلمين، وغزا المسلمون من جانبهم منطقة جيّان وأوقعوا هنالك بالنصارى، واستمرت هذه المعارك مدى حين سجالاً بين الفريقين. وكان النصارى قد استولوا في تلك المدة المضطربة من حياة المملكة الإسلامية، على عدة من القواعد والثغور الإسلامية، بعضها اختياراً بتنازل سلاطين غرناطة، والبعض الآخر باحتلالها قسراً. وكانت أعظم ضربة أصابت غرناطة في عهد السلطان أبي إسماعيل سقوط ثغر جبل طارق في يد النصارى. ففي سنة (1462 م) سارت إليه قوة من القشتاليين بقيادة الدوق مدينا سيدونيا واستولت عليه بطريق المفاجأة. وكان سقوط هذا الثغر المنيع في يد النصارى، أول خطوة ناجعة في سبيل قطع علائق مملكة غرناطة بعدوة
(1) Conde: ibid; V. 111. P. 201 & 202، وأنظر أيضاً: Seco de Lucena: Una
المغرب، والحول دون قدوم الإمدادات إليها من وراء البحر.
على أن خطر الفورات الإسلامية القوية فيما وراء البحر، كان قد خبا منذ بعيد، وأخذت دولة بني مرين القوية، تجوز مرحلة الانحلال والسقوط، وكان آخر ملوكهم السلطان عبد الحق، قد خلف أباه السلطان أبا سعيد المريني في سنة (823 هـ - 1415 م)، وفي عصره ساد الاضطراب والتفكك في أنحاء المملكة، واستبدّ وزيره يحيى بن يحيى الوطاسي بالدولة. وكان بنو وطاس ينتمون إلى بطن من بطون بني مرين، وينافسونهم في طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبد الحق، بطش بمعظم رؤسائهم، وفي مقدمتهم وزيره يحيى، ونجا قسم منهم وتفرقوا في مختلف الأحياء. وأسلم عبد الحق زمام دولته إلى يهود، فبغوا وعاثوا بالدولة، فغضب الشعب على مليكه، واضطرمت الثورة، وعزل عبد الحق وقتل (869 هـ - 1464 م)، وانتهت بمصرعه دولة بني مرين، بعد أن عاشت زهاء مائتي عام، واستولى على تراث بني مرين وملكهم، بنو وطاس خصومهم القدماء، واستطاع زعيمهم محمد الشيخ أن يستولي على فاس في سنة (876 هـ - 1471 م)(1). وبذا قامت بالمغرب دولة فتية جديدة، بيد أنها لم تكن من القوة والمنعة بحيث تستطيع الإقدام على عبور البحر إلى الأندلس، في سبيل الجهاد والنجدة. أسوة بما كانت تعمله دولة بني مرين القوية الشامخة.
وهكذا كانت الأمة الأندلسية تشعر بأنها أضحت وحيدة في مواجهة عدوّها القوي، دون حليف ولا ناصر. ولم ير سلطان غرناطة بعد أن أضناه النضال، بدّاً من قبول ما فرضه عليه ملك قشتالة من الاعتراف بسلطانه، وتأدية الجزية اغتناماً للمهادنة والسلم. وكانت مملكة غرناطة، تجوز في هذه الآونة العصيبة ذاتها مرحلة من الاضطراب الداخلي، وكان من أهم أسباب هذا
(1) الاستقصا (2/ 148 و 150 - 151 و 160).
الاضطراب الخطر؛ إضرام المنافسة بين العرش وبين الأسر النبيلة القوية، مثل بني سراج، وبني أضحى، وبني الثغري وغيرهم، واضطرام المنافسة فيما بين هذه الأسر القوية ذاتها، وغلبة نفوذ النساء في البلاط. وكان من أثر ذلك أن حدثت في سنة (1462 م) فتنة خطيرة من جراء محاولة السلطان ابن إسماعيل أن يقضي على نفوذ بني سراج أقوى هذه الأسر وأعرقها، وهكذا كانت نذر التفكك تعمل عملها المشئوم (1). ومع أن غرناطة تمتعت بمزايا الهدنة الخادعة التي عقدتها مع قشتالة لمدى قصير، فقد كان من الواضح أن المملكة الإسلامية كانت تنحدر سراعاً إلى مصيرها الخطر، وتواجه شبح الانحلال الأخير.
ولم يمضِ قليل على ذلك، حتى وقع انقلاب جديد في ولاية العرش الغرناطي، ذلك أن الأمير سعداً عاد فهاجم الحمراء مع أنصاره، وانتزع العرش لنفسه (1462 م). وفرّ السلطان ابن إسماعيل وخصوم السلطان الجديد. وهنا تلقي الرواية الإسلامية بعض الضوء على ما تلا من الحوادث في غرناطة، وهذه الرواية هي رواية مؤرخ ورحّالة مصري زار المغرب والأندلس في تلك الفترة، هو عبد الباسط بن خليل الحنفي، دوَّنها في مؤلفه المسمى:"كتاب الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم"(2)، وهو يحدثنا عن بعض أخبار الأندلس التي سمعها أثناء زيارته للمغرب وغرناطة سنة (870 هـ)، ويروي لنا ما وقف عليه من الحوادث الأندلسية حتى سنة (887 هـ - 1482 م).
يقول الرحالة المصري: إن سلطان الأندلس في سنة (867 هـ - 1462 -
(1) يرى المستشرق جاينجوس أن منافسات بني سراج وبني الثغر، كانت من أهم أسباب التعجيل بسقوط غرناطة.
(2)
تحفظ نسخة مخطوطة. وحيدة من هذا الكتاب بمكتبة الفاتيكان الرسولية برقمي Borg. 728 ، 729، وهي في مجلدين: الأول في 259 ورقة كبيرة، والثاني في 66 ورقة، وترد أخبار الأندلس مبعثرة في حوليات المجلدين المتوالية.
1463 م) كان سعد بن محمد بن يوسف المستعين بالله المعروف بابن الأحمر، وأنه ما كاد يجلس على العرش، حتى ثار عليه ولده أبو الحسن بتحريض بني سراج، وأخرجه عن غرناطة وامتلكها، فسار سعد إلى مالقة، وحكم أبو الحسن مكانه. وفي العام التالي (868) لما اشتد ضغط النصارى على الأندلس، عاد أبو الحسن فعقد الصلح مع أبيه، وأطلق سراحه، واختار سعد السكن بألمرية، فلم يعترض ولده، ولم يلبث أن توفي في أواخر هذا العام وعندئذٍ خلص العرش لأبي الحسن. ولكن حدثت بعد ذلك منازعات حول ولاية العرش بين أبي الحسن وأخيه أبي الحجاج يوسف، ولم ينته هذا النزاع إلاّ بوفاة يوسف بعد ذلك بقليل.
وفي ذلك الحين بالذات، استولى محمد الفاتح رحمه الله عاهل الترك العثمانيين على القسطنطينية سنة (1453 م)، وانهار هذا الصرح المنيع الذي كان يحمي أوروبا النصرانية من جهة المشرق، من غزوات الإسلام. وانساب تيار الفتح إلى جنوب شرقي أوروبا، يكتسح في طريقه كل مقاومة، وروِّعت أوروبا النصرانية لهذا الخطر الجديد الذي يهدّد حريتها وسلامتها، وأخذت النزعة الصليبية تضطرم من جديد بقوّة مضاعفة. وتردّد هذا الصدى في إسبانيا النصرانية، حيث كانت مملكة غرناطة ما تزال بالرغم من صغرها وضعفها، تمثل صولة الإسلام القديمة في إسبانيا، وقد تغدو في المغرب نواة لهذا الخطر الإسلامي الداهم، الذي بدت طلائعه في المشرق على يد الغزاة الترك. ومن ثم فقد كان طبيعياً أن تجيش إسبانيا النصرانية بفورة صليبية جديدة، وأن يذكي هذا الخطر الجديد، اهتمامها بالقضاء على مملكة غرناطة. وبالرغم مما كانت تجوزه مملكة غرناطة يومئذٍ من فتن داخلية، وما كان يفت في قواها من عوامل الانحلال السياسي والاجتماعي، فقد كانت تعتبر دائماً في نظر إسبانيا النصرانية عدواً داخلياً له خطره، وكان أشد ما تخشاه إسبانيا النصرانية أن تغدو غرناطة قاعدة لفورة جديدة من الغزو الإسلامي تنساب من وراء البحر، كما حدث في الحقبة الأخيرة غير مرة. والحقيقة أن حياة هذه المملكة
الإسلامية الصغيرة، قد استطالت أكثر مما كانت تقدِّره إسبانيا النصرانية. وكانت مملكة قشتالة في تلك الآونة بالذات، تشغل بمنازعاتها الداخلية، ومضى زهاء ربع قرن آخر قبل أن تتحد إسبانيا النصرانية في مملكة قوية موحدة. وقد كانت خلال الأحداث التي توالت عليها في تلك المدة، تجيش دائماً بنزعتها الصليبية المأثورة. فلما تحققت الوحدة، واستقرت الأحوال، واجتمعت الموارد، أخذت فرصة القضاء الأخير على المملكة الإسلامية الصغيرة، تبدو لخصيمتها القوية إسبانيا النصرانية، في الأفق قوية سانحة (1).
(1) نهاية الأندلس (146 - 155).