الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما بالنسبة للأندلس، فقد قضى المسلمون على نشاط القوط المعادي لهم فيها، والذي عرقل محاولات المسلمين لفتح مدينة سَبْتة على الساحل المغربي، القريبة من الأندلس، والتي يفصل بينها وبين الأندلس مضيق جبل طارق، فقد عاون الملك غَيْطَشَة آخر ملوك الأندلس قبل لذريق، حاكم سبتة الدوق يُلْيَان، على الثبات تجاه محاولة موسى بن نصير لفتح سبتة، فنجح يليان في صد المسلمين عن مدينته ولو لحين من الزمن لم يطل أمده. أما الأندلس ففتحها المسلمون ابتداء من سنة اثنتين وتسعين الهجرية (711 م) حتى سنة خمس وتسعين الهجرية (714 م)، وبذلك انتهى خطر القوط على الساحل المغربي من جهة، واطمأن المسلمون على حاضر الفتح الإسلامي في إفريقية والمغرب ومستقبله، وبخاصة الساحل الإفريقي والساحل المغربي على البحر الأبيض المتوسط، وذلك بحشد المرابطين في مدن الساحل، وبتصنيع السفن والمراكب الحربية محلياً بأيدي المسلمين وبمصانعهم الحربية، وبفتح الجزر المهمّة في البحر التي يمكن أن تكون قواعد للروم أو القوط أو أي عدوّ للمسلمين، وبالسيطرة على مياه البحر بالأسطول والمجاهدين وبالجزر المفتوحة.
لقد أعدّ موسى بن نصير ابنه الأكبر عبد الله، ليكون خلفه على إفريقية والمغرب، لذلك وجّهه من أول الأمر إلى فتوح إفريقية والمغرب، وإلى فتوح الجزر التي تحمي سواحل إفريقية والمغرب، ولم يشغله في فتوح الأندلس، ليبقى متفرِّغاً إلى واجبه الأصلي: ولاية إفريقية والمغرب، وهي الولاية الرئيسة التي كانت الأندلس تابعة لها، إذ كان والي إفريقية والمغرب هو الذي يعيّن والي الأندلس.
الإنسان
حين استدعى الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان من الأندلس موسى بن
نصير إلى دمشق، استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز، فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله (1)، وكان ذلك سنة خمس وتسعين الهجرية (2)(714 م).
وكان موسى قد استخلف ابنه عبد الله على إفريقية سنة ثلاث وتسعين الهجرية (712 م) حين عبر موسى إلى الأندلس فاتحاً، (3) فكان عبد الله على إفريقية والمغرب من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (711 م) في الواقع.
ولم يكن استدعاء موسى من الأندلس إلى دمشق طبيعياً، ولكن بعد وصوله إلى دمشق، تسامع الناس باضطهاده، فأصبح مصير موسى ومصير أولاده في مهب الريح، حيث أصبح موسى من المغضوب عليهم من الخلافة، وأصبح أولاده تبعاً له كذلك، وأصبح موسى وآل بيته وبخاصة أولاده الذين يتولون مناصب إدارية وقيادية رجالاً بلا غد.
ولم يطل انتظار عبد الله، فقد عزله سليمان بن عبد الملك بن مروان عن إفريقية والمغرب، وولّى مكانه محمد بن يزيد موْلى قُريش. فقد قال سليمان بن عبد الملك لرجاء بن حَيْوَة (4): "أريد رجلاً له فضلٌ في نفسه، أوليه
(1) ابن الأثير (4/ 516) والبيان المغرب (1/ 43 - 44) ونفح الطيب (1/ 286) وتاريخ خليفة بن خيّاط (1/ 311).
(2)
البيان المغرب (1/ 43) ونفح الطيب (1/ 234 و 277).
(3)
البيان المغرب (1/ 43) ونفح الطيب (1/ 233).
(4)
رجاء بن حيوة الكندي الشّامي الفلسطيني، ويقال: الأردنيّ: التّابعي الإمام، روى عن كثير من الصحابة وعن خلائق من التّابعين، وروى عنه جماعة من التابعين، وقال عنه بعض مَنْ رآه:"ما رأيت شاميّاً أفقه من رجاء بن حيوة"، وكان ثقة عالماً فاضلاً كثير العلم، وقال مَسْلَمة بن عبد الملك:"في كندة ثلاثة رجال، إنّ الله لينزل الغيث بهم، وينصر بهم على الأعداء، أوّلهم رجاء بن حيوة"، ومناقبه كثيرة مشهورة. قال البخاري:"قيل لرجاء، مالك لا تأتي السلطان؟ وكان يقعد عنهم، فقال: يكفيني الذي تركتهم له، يعني ربّ العالمين سبحانه وتعالى"، وكان قاضياً، وأجمعوا على جلالته وعظم فضله في نفسه وعلمه، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائة الهجرية رحمه الله، أنظر: =
إفريقية"، فقال له: "نعم"، فمكث أياماً، ثم قال: "قد وجدت رجلاً له فضل"، قال: "مَن هو؟ "، قال: "محمد بن يزيد مولى قريش"، فقال: "أدخله عليّ! "، فأدخله عليه. فقال سليمان: "يا محمد بن يزيد! اتّق الله وحده لا شريك له، وقم فيما ولّيتُك بالحق والعدل! وقد ولّيتكَ إفريقية والمغرب كله"، فودّع محمد بن يزيد سليمان بن عبد الملك وانصرف وهو يقول: "مالي عُذْرٌ عند الله إن لم أَعدل". وفي سنة سبع وتسعين الهجرية (715 م)، استقرّ محمد بن يزيد بإفريقية بأحسن سيرة وأعدلها. ثم وصله الأمر بأخذ عبد الله بن موسى بن نصير، وتعذيبه، واستئصال أموال بني موسى، فسجنه محمد وعذّبه، ثم قتله بعد ذلك. وكان سليمان قد أمره بأخذ أهل موسى وولده وكل من تلبّس به، واستئصال أموالهم وتعذيبهم، حتى يؤدوا ثلاثمائة ألف دينار (1).
وقتْلُ عبد الله وتعذيبه وسجنه، بأمر سليمان بن عبد الملك، وتنفيذ عامله محمد بن يزيد، أمور يصعب تصديقها، وبخاصة قضية قتل عبد الله، إذ ليس من السهل قتل رجل مسلم في تلك الأيام، بدون اقتراف ما يسوِّغ قتله شرعاً. ومما يزيد في الشك بذلك، أن القتل جرى بأمر سليمان، وهو:"مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلّى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز"، كما وصفه المؤرخون، فمن الصعب أن نصدِّق أنه يأمر بقتل عبد الله، وهو قادر على حجزه أو ترحيله بسهولة ويسر، كما أن من الصعب تصديق أن محمد بن يزيد ينفِّذ حكم الإعدام بعبد الله، وهو من المعروفين بحسن السيرة والعدل، ويكفي أن رجاء بن حَيْوَة الإمام المحدِّث الفقيه التابعي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، قد زكّى محمد بن يزيد لولاية إفريقية والمغرب، ولو لم يكن عَدْلاً متميزاً بين العدول لما رشحه رجاء لهذا
= طبقات ابن سعد (7/ 454 - 455) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 190) وتهذيب التهذيب (3/ 265 - 266) والبداية والنهاية (9/ 304).
(1)
البيان المغرب (1/ 47).
المنصب ولما زكّاه. ولا عبرة بترديد قسم من المؤرخين قصة سجن عبد الله وقتله (1)، فهم ينقلون عن بعضهم بالتعاقب.
والدليل على أن محمد بن يزيد لم يقتل عبد الله، ما ذكره بعض المؤرخين المعتمدين، من أن سليمان بن عبد الملك عزل عبد الله ابن موسى بن نصير، واستعمل محمد بن يزيد على إفريقية سنة سبع وتسعين الهجرية، فلم يزل عليها حتى مات سليمان (2)، ولا ذكر لسجن عبد الله وتعذيبه وقتله في تلك المصادر.
ولعل مما يضاعف الشك، في صحة ما جاء، من أن محمد بن يزيد عامل سليمان بن عبد الملك قد سجن وعذّب وقتل عبد الله بن موسى، ما ذكره البلاذري، من أن عبد الله كان لا يزال حيّاً يرزق في القيروان، بعد رحيل محمد بن يزيد معزولاً عن إفريقية والمغرب: "ثم لما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (3)، ولّى المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم (4)، فسار أحسن سيرة، ودعى البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر بن عبد العزيز كتبُاً يدعوهم إلى ذلك، فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي، فغلب الإسلام على المغرب. ولما ولي يزيد بن عبد الملك (5)، ولّى يزيد بن أبي مُسْلِم (6) مولى الحجاج بن يوسف إفريقية والمغرب، فقدم إفريقية في سنة
(1) النجوم الزاهرة (1/ 235).
(2)
ابن الأثير (5/ 23)، من دون أن يذكر أنّ سليمان أمر محمد بن يزيد بسجن عبد الله بن موسى وتعذيبه وقتله، ولو كان سليمان قد أمر بذلك، لما أغفله المؤرخ ابن الأثير، ويبدو أنّه وجده خبراً متهافتاً يصعب تصديقه، فأغفله إغفالاًَ كاملاً، ولم يتطرّق إليه من قريب أو بعيد.
(3)
مات سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين الهجرية، فخلفه عمر بن عبد العزيز، أنظر ابن الأثير (5/ 37 - 38) والعبر (1/ 118) والبيان المغرب (1/ 48).
(4)
أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 48).
(5)
توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة الهجرية، فخلفه يزيد بن عبد الملك، أنظر ابن الأثير (5/ 58) و (5/ 17) والعبر (1/ 120) والبيان المغرب (1/ 48).
(6)
أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 48).
اثنتين ومائة الهجرية، وكان حرسه البربر، فوسم كل امرئ منهم على يده:(حَرَسِيّ)(1) فأنكروا ذلك وملّوا سيرته، فدبّ بعضهم إلى بعض وتضافروا على قتله، فخرج ذات عشية لصلاة المغرب، فقتلوه في مصلاه، فولَّى يزيد بن بِشْر بن صفوان (2) الكلبي، فضرب عنق عبد الله بن موسى بن نصير بيزيد، وذلك أنه اتُّهم بقتله وتأليب الناس عليه" (3)، ومعنى ذلك، أن محمد بن يزيد لم يقتل عبد الله، بل قتله يزيد بن بشر بن صفوان الكلبي، الذي تولى إفريقية والمغرب ليزيد بن عبد الملك، سنة ثلاث ومائة الهجرية (4)(721 م).
ومن الواضح، أن رواية البلاذري هذه تُرجّح على الرواية الأولى، لأن من الصعب تصديق أن سليمان بن عبد الملك، هو الذي أمر بسجن عبد الله وتعذيبه وقتله، ويكفي أنه أمّرَه على المغرب وإفريقية بعد أبيه موسى بن نصير، ولم يعزله إلاّ في سنة سبع وتسعين الهجرية (5)، وإلاّ لما أبقاه في منصبه نحو سنتين، ولَعَزَله فوراً. ولأن من الصعب تصديق أن محمد بن يزيد، يمكن أن يُقدم على قتل عبد الله أو غيره ظلماً، وهو مَن هو في حسن سيرته وعدله (6)، ويكفي أنه مرشح رجاء بن حّيْوَة وهو من هو في استقامته وحرصه على مصلحة المسلمين العليا.
أما يزيد بن أبي مسلم الذي قَدِمَ على إفريقية سنة اثنتين ومائة الهجرية والياً عليها ليزيد بن عبد الملك، فقد كان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي وصاحب شرطته، وكان ظلوماً غشوماً، وكان البربر يحرسونه، فقام على المنبر خطيباً فقال: "إني رأيت أن أرسم اسم: حَرَسِي، على أيديهم، كما تصنع ملوك الرّوم
(1) حرسيّ: مفرد حرّاس، وهم أعوان الملك.
(2)
أنظر مجمل سيرته في البيان المغرب (1/ 49).
(3)
البلاذري (323 - 324).
(4)
البيان المغرب (1/ 49).
(5)
تاريخ خليفة بن خياط (1/ 324).
(6)
البيان المغرب (1/ 43).
بحرسها، فأرسم في يمين الرّجل اسمه، وفي يساره: حَرَسِي، ليُعْرَفوا بذلك من بين سائر الناس، فإذا وقفوا على أحد، أسرع لِمَا أمرتُ به"، فلما سمعوا ذلك منه، أعني حَرَسه، اتفقوا على قتله، وقالوا: "جعلنا بمنزلة النصارى"، فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب، قتلوه في مصلاّه (1).
وولّى يزيد بن عبد الملك، بِشْرَ بن صفوان الكلبي خلفاً ليزيد بن مسلم، فضرب عنق عبد الله بن موسى بن نصير بيزيد، وذلك أنه اتُهم بقتله وتأليب الناس عليه (2)، وهذا يدل على أن بشر بن صفوان، حقّق في أمر اغتيال يزيد بن مسلم، فوجد أن عبد الله بن موسى كان أحد المؤلِّبين على قتله، أو من أبرز المؤلِّبين، خاصة وأن بشر بن صفوان استصفى بقايا آل موسى بن نصير، ثم وفد على يزيد بن عبد الملك، فألفاه قد هلك (3).
وهذه الرواية أقرب إلى التصديق، ومعنى ذلك أن عبد الله قد قُتل سنة ثلاث ومائة الهجرية (721 م)، وهي السنة التي تولى فيها بشر بن صفوان إفريقية والمغرب (4).
لقد كان عبد الله والياً على إفريقية والمغرب لمدة أربع سنوات ابتداء من سنة ثلاث وتسعين الهجرية (712 م) حتى سنة سبع وتسعين الهجرية (715 م). بصورة مستقلة، وكان السّاعد الأيمن لأبيه موسى بن نصير منذ تولية إفريقية والمغرب حتى غادرهما إلى الأندلس فاتحاً، ولاّه أبوه موسى من سنة ثلاث وتسعين الهجرية إلى سنة خمس وتسعين الهجرية (714 م)، وأقرّه سليمان بن عبد الملك عليها بعد استدعاء أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق سنة خمس وتسعين الهجرية، حتى عزله سنة سبع وتسعين الهجرية (5)، فكان إدارياً
(1) البيان المغرب (1/ 48).
(2)
البلاذري (323 - 324).
(3)
البيان المغرب (1/ 49).
(4)
البيان المغرب (1/ 49).
(5)
تاريخ خليفة بن خياط (1/ 324).
حازماً، ولا نعلم أنه قصّر بواجبه والياً.
ولكن نشاطه بعد استدعاء أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق، ومحاسبة الخليفة سليمان له حساباً عسيراً، وبعد أن أصبح أبوه من المغضوب عليهم من الخليفة ومَن حوله، أصبح نشاطه محدوداً، وكان أقل من نشاطه قبل استدعاء أبيه، لأنه كان يعاني من القلق على مصير أبيه ومصيره ومصير آل موسى بن نصير، وكانت نفسيته مجهدة من جراء هذا القلق، كما أن تعاون الناس معه والتفافهم حوله، أصبح أقل من السابق، لأنهم كانوا يتوقعون تنحيته عن الولاية بين يوم وآخر، والناس دائماً مع (الواقف) الذي تكون الأيام له لا عليه.
والمعلومات عنه في المصادر المعتمدة إنساناً، شحيحة جداً، فلا نعلم متى ولد، وما هي سماته إنساناً، ولا عَدَد أولاده، ولا تفاصيل إنجازاته إدارياً، فهناك نوع من التعتيم على تفاصيل حياة أبناء موسى بن نصير، ونوع من الغيوم الداكنة التي تحجب تفاصيل حياتهم، ولعلّ غضب الخلافة على موسى بن نصير، كان له أثر في قلّة المعلومات عن أبنائه، وله تأثير في المؤرخين الذين لم يذكروهم إلاّ نادراً.
والذي نعرفه عن عبد الله، أنه كان أكبر إخوته، وقد عرفنا من إخوته: عبد العزيز الذي استخلفه موسى على الأندلس، وعبد الملك الذي استخلفه على سبتة وطنجة وما والاهما (1)، وعبد الأعلى الذي فتح بعض مدن شرقي الأندلس وجنوبي شرقيها (2)، ومروان الذي رافق أباه إلى دمشق (3).
وكان موسى بن نصير من التابعين (4)، فابنه عبد الله من تابعي التابعين، رضوان الله عليهم أجمعين.
(1) ابن الأثير (4/ 566).
(2)
أنظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار.
(3)
البيان المغرب (1/ 44).
(4)
تاريخ العلماء والرواة بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (442) ووفيات الأعيان (4/ 202) والبداية والنهاية (9/ 171).