الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمر بن عبد العزيز الذي اختاره لولاية الأندلس، وعند حسن ظنّ المسلمين في الأندلس بخاصة، والمسلمين في كلّ مكان بعامة، إذ كانت فيه أمانة وديانة (1)، وكان على جانب عظيم من القابلية الإداريّة والتنظيميّة والتنفيذيّة.
القائد
لعل مفتاح المزايا القياديّة لشخصيّة السَّمح، تبدو واضحة في أنّه كان أحد المجاهدين الصادقين، الذين كانوا يتمنّون على الله تعالى، أن يهبهم الشّهادة، لتكون خاتمة أعمالهم في هذه الحياة، فوهب روحه رخيصة في سبيل الله، لا فرق لديه أن يقع على الموت أو يقع الموت عليه، ما دام ذلك لإعلاء كلمة الله ونشر الإسلام، والنهوض بفريضة الجهاد لضمان حاضر الفتح الإسلامي ومستقبله بمجاهدة الأعداء الذين يحاولون التعرّض بحدوده الشمالية، ويحرضون على استعادة الأندلس إلى حكّامه القوط من جديد.
وحين وجد أنّ الفرنج متفوقون على قوّاته عَدَداً، لم يكترث بهذا التفوّق كما ينبغي، بل قَبِلَ المواجهة ولم يحاول التملّص منها، في محاولة لاستكمال استعداداته، ثم مواجهة الفرنج بعد ذلك، لضمان النّصر على الفرنج، ومن ثَمّ استئناف التقدّم شرقاً في فرنسة للفتح.
وخطّة الإنسحاب من ميدان المعركة قبل حصول المواجهة بين الجانبين، لا يجهلها السَّمح ولا يجهلها غيره، ولكنّه لم يطبِّقها ولم يأخذ بها، لأنّ المسلمين يوم ذاك لم يكونوا ينتصرون على أعدائهم لتفوّقهم على الأعداء في عَدَدهم، بل العكس هو الواقع، فقد كان العدو غالباً هو المتفوّق على المسلمين عَدَداً، ولكن المسلمين كانوا ينتصرون بإيمانهم العميق الذي يدفعهم إلى الاستقتال طلباً للشّهادة، أي أنّ المسلمين كانوا دائماً يتفوقون على أعدائهم بمعنوياتهم العالية، فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن
(1) ابن الأثير (5/ 55).
الله، وانتصار المسلمين انتصار عقيدة بلا مراء.
إنّ الفتح الإسلامي، في سعة رقعته، وسرعة تحقيقه، خلال القرن الأول الهجري، الذي هو خير القرون، خير دليل على انتصار العقيدة الراسخة في معارك الجهاد، وكان السَّمح أحد قادة الفتح الإسلامي، الذي كان حافزه الأول والأخير، إيمانه الراسخ، وحرصه على خدمة الإسلام والمسلمين، ورغبته في الشهادة، فليس من العدل والإنصاف في شيءٍ تقريباً، أن نحاسبه بالمقاييس الماديّة الشائعة في العسكرية الحديثة، بعد أن أصبحت المادة كلّ شيءٍ تقريباً؛ وحتى رفع المعنويات تكون بوسائل ماديّة؛ والسَّمح قد عاش في قرن كانت فيه المقاييس المادية ثانوية بالنسبة للمقاييس المعنوية، وهو القرن الأول الهجري، يوم كان الإسلام في مَدِّه العارم، يكتسح كلّ شيء، ولا يقف أمامه شيء.
ليس من العدل والإنصاف أن نقول: ما دام السَّمح قد علم بحشود الفرنج المتفوقة، فكان عليه أن ينسحب من ميدان المعركة، إلى منطقة إسلاميّة آمنة، حيث يكمل استعداداته للقتال، ثمّ يستأنف الفتح، ويكون احتمال انتصاره حينئذٍ على الفرنج كبيراً. لأنّ محاسبة أمثال السَّمح، بمثل هذا المنطق المادي ليس عدلاً ولا إنصافاً، فقد كان بوادٍ، وكانت المادة بوادٍ آخر. ولو كان للناحية المادية اعتبار، كالاعتبار الذي لها في هذه العصور، في غياب العقيدة الراسخة، لما كان فتح إسلاميّ، ولما أصبح ذلك الفتح فتحاً مستداماً، لأنه ليس فتح سيف حسب، بل فتح عقيدة قبل أن يكون فتح سيف، فلا عجب من انحسار ما استولى عليه الرومان والروم والفُرس واليونان والأمم الأخرى، وبقاء الفتح الإسلامي ثابتاً رصيناً، لأنّ ما استولت عليه الأمم احتلال واغتصاب، وما استولى عليه المسلمون فتح، وشتّان بين الاحتلال والاغتصاب الزائلين وبين الفتح الباقي.
إنّ المقاييس الماديّة كانت غائبة في أيام الفتح، وكانت المقاييس الروحية هي السائدة، وعلى هذا الأساس يمكن محاسبة السَّمح لا على أساس
المقاييس المادية حسب.
وإدراك السَّمح أنّ الفرنج متفوقون عليه، ومع ذلك لم يَهُن ولم تتزعزع معنوياته، دليل على أنه كان قائداً بصيراً بالأمور، لا تخفى عليه منها خافية، فلم يُؤْت من قِبَل غفلته، بل أُتِيَ من قِبَل حرصه على الشهادة وحرص رجاله عليها، فحقّق الله لهم وله أمنيتهم، فكان لهم إحدى الحُسْنَيين: النّصر أو الشهادة.
وما كان لمثل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو مَن هو عدلاً واستقامة، أن يولّي السَّمح أخطر منطقة من مناطق المسلمين وبلادهم، وهي الأندلس، لو لم يجد فيه الكفاية المتميِّزة في الإدارة والقيادة، فقد كان الوالي يومئذ إدارياً وقائداً، بل كانت سِمة القيادة فيه تعلو على سِمة الإدارة، وكان عمر وأمثاله من الخلفاء، يحرصون غاية الحرص على أن يضعوا الرجل المناسب في الواجب المناسب. كما أنّ فصل الأندلس عن ولاية إفريقيّة والمغرب، وجعل الأندلس مستقلّة عن ولاية إفريقيّة والمغرب بعد تولية السَّمح من عمر بن عبد العزيز، دليل على ثقة عمر بكفاية السَّمح في الإدارة والقيادة، وإلاّ لما فصل الأندلس وجعلها مرتبطة بالخلافة مباشرة، ولأبقاها كما كانت عليه من قبل، تابعة لولاية إفريقيّة والمغرب.
لقد كان السَّمح من القادة القادرين على إصدار القرار الصحيح السريع، وقراره في مواجهة الفرنج المتفوِّقين على المسلمين، بالنسبة للتفكير السائد في حينه، وبالنسبة لتفكير السَّمح، كان قراراً صحيحاً، أمّا بالنسبة للتفكير السائد اليوم، وبالنسبة لفكر العسكريين المحدثين، فقد كان قراراً غير صحيح، ولابد من الرجوع إلى الفكر السائد في حينه، للحكم على صحّة قرار السَّمح أو عدم صحته.
وكان يتمتّع بشجاعة شخصية نادرة، ولولا شجاعته لما واجه الفرنج المتفوقين على المسلمين عَدَداً، وقاتلهم قتال الأبطال.
وكان ذا إرادة قويّة ثابتة، إذا عزم على أمر، واعتقد أنّ تنفيذه صواب،
مضى في تنفيذه قوياً ثابتاً.
وكان يتحمّل المسؤولية، ويحب تحمّلها، ولا يتملص منها، أو يلقيها على عواتق الآخرين، خوفاً على نفسه من العواقب.
وكان ذا نفسية لا تتبدّل، لأنّه مؤمن قويّ الإيمان، فهو بخيرٍ أبداً، إذا أصابه الخير شكر، وإذأ أصابه الضرّ صبر.
وكان يتمتّع بمزيّة سبق النظر، فقد حصّن أربونة وحماها بالرجال، فثبتت طويلاً أمام الغزاة، ولولا ذلك لاستسلمت للغزاة.
وكان يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم، فيُحمِّل كلّ رجل منهم ما يستطيع حمله، ويضع الرجل المناسب في الواجب المناسب، استناداً إلى نفسيّته وقابلياته.
وكان يثق برجاله ويثقون به، ويثق بقيادته العليا وتثق به، فقد كان يعمل لغيره أكثر مما يعمل لنفسه، ويخدم مصلحة الإسلام والمسلمين أكثر من خدمة مصالحه الشّخصيّة.
وكان يحبّ رجاله، ويبادلونه حبّاً بحبّ، ويحبّ قيادته العليا، وتبادله حبّاً بحبّ، وكانت مزاياه الإنسانية تجعله آلفاً مألوفاً.
وكان يتمتّع بشخصية قويّة نافذة، يصدح بالحق بحضور الخليفة سليمان بن عبد الملك، فلفت إليه نظر عمر بن عبد العزيز - كما ذكرنا - وهذا موقف من مواقفه الكثيرة التي تدلّ على متانة شخصيته ورصانتها وقوّتها.
وحركته الدائبة بلا كلل ولا ملل إدارياً وقائداً، وإنجازه الإداري وفي الفتح، دليل على تمتّعه بالقابلية البدنيّة المتميِّزة.
وكان ذا ماض ناصع مجيد، يتميّز بالطهر والعفاف والنزاهة المطلقة والنظافة المثالية، بالإضافة إلى أنّه كان عربياً معروف النسب، غير مجهول المكان والمكانة.
وكان يستشير رجاله ويشاورهم، ولا يقطع بأمر مصيري يهمّهم بدون استشارتهم والعمل بما يرونه. وكان يستشير الخلافة، كما فعل في قضية
قنطرة قرطبة، فقد عرض أمرها على عمر بن عبد العزيز، وتلقّى توجيهاته حولها، ونفّذ تلك التوجيهات.
وكان لا يميِّز نفسه عن رجاله بشىءٍ ماديّ أو معنوي، ولا يتميّز عليهم في المظهر أو المَخْبَر، بل يساوي نفسه بهم، فكأنّه فرد منهم، لا يستطيع مَنْ لا يعرفه حين يراه معهم أن يعرف أنّه القائد وأنّهم الجنود، لأنّه كان يساوي نفسه برجاله في كلّ شيء، منطلقاً من إيمانه المطلق بمبدأ: المساواة.
وكان يطبِّق مبادئ الحرب بشكل عفويّ في معاركه، وهذه المبادئ ثابتة في كلّ زمان ومكان.
فقد كان يطبِّق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته، فهو يعرف ما يريد، ويُعدّ الخطّة المناسبة لتحقيق ما يريد، ويضع تلك الخطة في موضع التنفيذ، ولا يزال دائباً وراء مقصده، حتى يحقِّقه كاملاً غير منقوص.
وكان قائداً تعرّضياً، لم يتّخذ خطة الدفاع، حتى في حالة تفوّق الفرنج على المسلمين الذين بقيادته، ولا نعلم أنّه سلك مسلكاً غير مسلك التعرّض، في جهاده من أجل إعلاء كلمة الله.
وكان يحاول مباغتة العدو في المكان أو الزمان أو الأسلوب، ولا نعلم أنّ عدوّه استطاع مباغتة القوّات التي تعمل بقيادته في يوم من الأيام.
وكان يحشد رجاله للنهوض بواجباته فى الجهاد، ويستغلّ كلّ الطّاقات الماديّة والمعنوية المتيسِّرة للحشد.
وكان يحرص غاية الحرص على أمن قوّاته، ويتّخذ التدابير اللاّزمة لحمايتها في المعسكر والحركة وفي أثناء القتال، وبعد القتال وفي صفحات القتال كافة.
وكانت خططه مرنة، يمكن تبديلها وتعديلها وتحويرها وتطويرها حسب الظروف، كما أنّ قابليته على الحركة نسبياً جيدة، لتطبيق خططه العسكريّة.
وكان يؤمِّن التعاون بينه وبين رجاله أفراداً وجماعات وصنوفاً، كما كان يؤمِّن التعاون بينه وبين قيادته العليا، وكان التعاون بين الجميع وثيقاً.