المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

أ - لبث الموريسكيون في عهد فرديناند الخامس (الكاثوليكي) زهاء عشرين عاماً، يتراوحون بين الرجاء واليأس، ويرزحون تحت وطأة المطاردة المنظمة. كان هذا الشعب المهيض الذي تنصّر قسراً، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة، وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروّض نفسه على حياته الجديدة. وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد. ولكن إسبانيا النصرانية، لبثت ترى في هذه البقية الباقية من الأمة الأندلسية، عدوّها القديم الخالد، وتتصوّر أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه ما يزال مصدر خطر دائم على سلامتها وطمأنينتها، ومن ثم كان هذا الإمعان في مطاردته وإرهاقه، بمختلف الفروض والقيود والمغانم، وفي انتهاك عواطفه وحياته، وفي تعذيبه وتشريده، وكان يلوح أن ليس لهذا الاستشهاد الطويل المؤثر من آخر سوى الفناء ذاته.

توفي فرديناند الكاثوليكي في (13 كانون الثاني - يناير 1516 م) بعد أن عانت بقية الأمة الأندلسية من غدره وعسفه ما عانت، وكانت زوجه الملكة إيزابيلا قد سبقته إلى القبر قبل ذلك بأحد عشر عاماً، في (26 تشرين الثاني - نوفمبر سنة 1504 م)، ودفنت تحقيقاً لرغبتها في غرناطة. في دير سان فرانسيسكو القائم فوق هضبة الحمراء، ودفن فرديناند إلى جانب زوجته بالحمراء، تحقيقاً لوصيته، ثم نقل رفاتهما فيما بعد إلى كنيسة غرناطة العظمى، التي أقيمت فوق موقع مسجد غرناطة الجامع، في عهد حفيدهما الإمبراطور شارلكان، وأقيم لهما فيها ضريح رخامي فخم، ما يزال حتى اليوم في مقدمة مزارات غرناطة النصرانية. وفي دفن مستعبدي غرناطة الإسلامية في حرم غرناطة القديم، مغزى خاص ينطوي على تنويه ظاهر بظفر إسبانيا، وظفر النصرانية على الإسلام.

ص: 336

وقد كان الغدر والرياء، أبرز صفات هذا الملك العظيم المظفّر، الذي أتيح له القضاء على دولة الإسلام بالأندلس. وقد نوّه بهذه الصفة الذميمة أكابر المؤرخين المعاصرين واللاّحقين، ومنهم المؤرخون القشتاليون أنفسهم. فمثلاً يقول المؤرخ ثوريتا ( Zurita) وهو من أكابر المؤرخين الإسبان في القرن السادس عشر في وصفه:"وكان مشهوراً، لا بين الأجانب فقط، ولكن بين مواطنيه أيضاً، بأنه لا يحافظ على الصدق، ولا يرعى عهداً قطعه، وأنه كان يفضل دائماً تحقيق صالحه الخاص على كل ما هو عدل وحق"(1). ويقول معاصره مكيافيللي فيه: "إن فرديناند الأرغوني غزا غرناطة في بداية حكمه، وكان هذا المشروع دعامة سلطانه. وقد استطاع بمال الكنيسة والشعب أن يمدّ جيوشه، وأن يضع بهذه الحرب أسس البراعة العسكرية التي امتاز بها بعد ذلك، وقد كان دائماً يستعمل الدين ذريعة ليقوم بمشاريع أعظم، وقد كرّس نفسه بقسوة تسترها التقوى لإخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وبمثل هذه الذريعة غزا إفريقية، ثم هبط إلى إيطاليا، ثم هاجم فرنسا .. "(2). وكانت سياسة فرديناند الكاثوليكي مثال الغدر المثير في جميع ما اتخذه نحو معاملة المسلمين عقب تسليم غرناطة، وما تلاه من حوادث تنصيرهم قسراً، ثم اضطهادهم، ومطاردتهم بأقسى الوسائل، وأشدّها إيلاماً لمشاريعهم وأرواحهم.

فلما توفي فرديناند، وخلفه حفيده شارل الخامس (الإمبراطور شارلكان) بعد مدة قصيرة من وصاية الكاردينال خمنيس على العرش، تنفّس الموريسكيون الصعداء، وهبت عليهم ريح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون العهد الجديد خيراً من سابقه. وأبدى الملك الجديد في الواقع شيئاً من اللّين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرّض لهم في أراغون بسعي النبلاء

(1) أنظر: Prescott، Cit. Zurita (Bnalesa ; ibid; P. 697 (note)

(2)

Machiavelli: The Prince (Everyman) ، P. 177-178.

ص: 337

والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعم. ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها؛ وصدر مرسوم جديد في (12 آذار - مارس سنة 1524 م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من إسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تقلب جميع المساجد الباقية إلى كنائس.

عندئذ استغاث المسلمون بالإمبراطور، والتمسوا عدله وحمايته، على يد وفد منهم بعثوه إلى مدريد، ليشرح للمليك ظلامتهم وآلامهم (سنة 1526 م)، فندب الإمبراطور محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في ظلامة المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحاً ملزماً، بمعنى يحتم عقاب المخالف بالموت أم يطبق عليهم القرار الجديد كمسلمين. وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة، لأنهم سارعوا بقبوله اتقاء ما هو شرّ منه، فكانوا في ذلك أحراراً في قبوله. ويعلق المؤرخ الغربي النصراني على ذلك القرار بقوله:"وهكذا اعتبر التنصير الذي فرضه القوي على الضعيف، والظافر على المغلوب، والسيد على العبد، منشئاً لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها"(1). وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين نصروا كرهاً، على البقاء في إسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت والمصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه أن تحول جميع المساجد الباقية في الحال إلى كنائس. فكان لهذه القرارات لدى المسلمين أسوأ وقع، وما لبثت الثورة أن نشبت في معظم الأنحاء التي يقطنها المسلمون، في أحواز

(1) راجع تاريخ De Marles الذي وضعه بالاقتباس من تاريخ كوندي: Domination des Arabes en Espagne; V.111. P. 389 Hist.de la

ص: 338

سرقسطة وفي منطقة بلنسية وغيرها، وأخمدت هذه الثورات المحلية الضئيلة تباعاً. ولكن بلنسية كان لها شأن آخر، ذلك أنها كانت تضم حشداً كبيراً من المسلمين، يبلغ سبعة وعشرين ألف أسرة (1)، وكان وقوعها على البحر يمهّد للمسلمين سبل الإتصال بإخوانهم في المغرب، ومن ثم فقد كانت دائماً في طليعة المناطق الثائرة، وكانت الحكومة الإسبانية تنظر إليها باهتمام خاص، فلما فرض التنصير العام، أبدى المسلمون في بلنسية مقاومة عنيفة، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير Benagwacil) واضطرت الحكومة أن تجرد عليهم قوة كبيرة مزوّدة بالمدافع، وأرغم المسلمون في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن ينصروا، وعدّلت عقوبة الرق إلى الغرامة (2). وفي باقي أراغون، أشفق السادة والنبلاء على مصالحهم وضياعهم من الخراب، إذا اضطهد المسلمون ومزّقوا، كما حدث في بلنسية، فأوضحوا للإمبراطور خطأ هذه السياسة، وأكدوا له أن المسلمين في أراغون جماعة عاملة هادئة ذلولة، لم ترتكب جرماً قط، ولم تبدر منهم خطيئة دينية أو سياسية، ومعظمهم زراع في أراضي الملك والسادة، ومنهم صناع مهرة، فإخراجهم من أراغون خسارة فادحة، ولا داعي لإرغامهم على التنصير، لأن ذلك لا يعني إخلاصهم للدين الجديد، ومن الخير أن يتركوا في سلام، ولكن مساعي السادة النبلاء في هذا السبيل ذهبت عبثاً، وأصرّ الإمبراطور على أن يطبق التشريع الجديد على جميع مسلمي أراغون، وأصدر أوامره إلى ديوان التحقيق، أن يقوم بتلك المهمة، فأذعن المسلمون إلى التنصير راغمين، وبذلك تم تنصيرهم جميعاً (سنة 1526 م). وتوالت الأوامر والقوانين المرهقة، فصدر قانون يحظر على الموريسكيين بيع الحرير والذهب والفضة والحلي والأحجار الكريمة، وحتم على كل مسلم بقي على دينه أن يحمل شارة زرقاء في قبعته، وحظر عليهم حمل السلاح

(1) Liorente، ibid.

(2)

Dr Lea: The Moriscos; 91-92.

ص: 339

إطلاقاً، وإلاّ عوقب المخالفون بالجلد، وأمروا أن يسجدوا في الشوارع متى مرّ كبير الأحبار. وفي بلنسية صدر قرار بأن يغادر المسلمون الأراضي الإسبانية من طريق الشمال، وحظر على السادة أن يبقوهم في ضياعهم، وإلاّ عوقبوا بالغرامة الفادحة. فعاد المسلمون في بلنسية إلى الثورة، وقاوموا جند الحكومة حيناً، ولكن الثورة ما لبثت أن أُخمِدت وتقدم المسلمون خاضعين على يد وفد منهم مثل في البلاط، يعرضون الدخول في النصرانية، على أن تحقق لهم بعض المطالب والظروف المخففة، فلا يمتد إليهم قضاء ديوان التحقيق مدى أربعين عاماً، لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وأن يحتفظوا خلال هذه المدة بلغتهم وملابسهم القومية، وبعض حقوقهم في الزواج والميراث طبقاً لتقاليدهم، وأن ينفق على مَن كان منهم من الفقهاء مِن دخل الأراضي التي وقفها المسلمون لأغراض البر، ويرصد الباقي لإنشاء الكنائس الجديدة، وأن يسمح لهم بحَمْل السلاح وتخفيض الضرائب (1). ولكن مجلس الدولة رأى أن يطبق عليهم سائر الأوامر، التي على الموريسكيين في غرناطة وغيرها، وأن يسمح لهم بالاحتفاظ بلغتهم وأزيائهم مدى عشرة أعوام فقط، وأن يمنحوا بعض الإمتيازات فيما يتعلق بالزواج ودفع الضرائب. وكانت هذه المنح أفضل ما يمكن نيله في هذه الظروف، فأقبل المسلمون في منطقة بلنسية على التنصير أفواجاً، عدا أقلية صغيرة آثرت المضي في المقاومة، ومزقتها جند الإمبراطور بعد حين قليل، وألفت محاكم التحقيق غير بعيد في مجتمع الموريسكيين في بلنسية ميداناً خصباً لنشاطها.

وحذا الموريسكيون في غرناطة حذو إخوانهم في بلنسية، فسعوا لدى البلاط في تخفيف الأوامر والقوانين المرهقة التي فرضت عليهم، وانتهزوا فرصة زيارة الإمبراطور لغرناطة سنة (1526 م)، فقدّموا إليه على يد ثلاثة من أكابرهم هم: الدون فرديناند بنجاس، والدون ميشيل دراجون، وديجولويز

(1) P. Longas ; vida Religi sa de Los Moriscos ، P. XL11.

ص: 340

بنشارا، وهم من سلالة أمراء غرناطة الذين نُصِّروا منذ الفتح، مذكرة يشرحون فيها ظلامتهم، وما يعانونه من آلام المطاردة والإرهاق المستمر، ولا سيما من أعمال القسس والقضاء الديني، فندب الإمبراطور لجنة محلية للتحقيق في أمر الموريسكيين في سائر أنحاء غرناطة، ثم عرضت نتائج بحثها على مجلس ديني قرر ما يأتي: أن يترك الموريسكيون استعمال لغتهم العربية وثيابهم القومية، وأن يتركوا استعمال الحمامات، وأن تفتح منازلهم أيام الحفلات وأيام الجمع والسبت، وألاّ يقيموا رسوم المسلمين أيام الحفلات، وألاّ يتسمّوا بأسماء عربية، ولكن هذه القرارات أُرجِىء بأمر الإمبراطور؛ ثم أعيد إصدارها، ثم أُرجئ تنفيذها مرة أخرى.

وصدرت عدة أوامر ملكية بالعفو عن الموريسكيين فيما تقدم من الذنوب، فإذا عادوا طبقت عليهم أشد القوانين والفروض، فأذعن الموريسكيون لكل ما فرض عليهم، ولكنهنم افتدوا من الإمبراطور بمبلغ طائل من المال، حق ارتداء ملابسهم القومية، وحق الإعفاء من المطاردة إذا اتهموا بالردّة (1).

وكان الإمبراطور شارلكان حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين قد وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تحقق قط، وشعر العرب المتنصرون من الساعة الأولى، أنهم مازالوا موضع الرّيب والاضطهاد، وفرضت عليهم فروض وضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئاً فشيئاً، وتترى ضدهم السعايات والاتهامات، وقد غدوا في الواقع أشبه بالرقيق منهم بالرعايا الأحرار. ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، وفشت فيهم هذه الرغبة، صدر قرار في سنة (1541 م) يحرّم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرّم عليهم النزوح إلى بلنسية، التي كانت دائماً طريقهم المفضّل إلى ركب البحر، ثم صدر قرار بمنع الهجرة من أي الثغور إلاّ

(1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 214-215، P. Longas،ibid،P.XL111.

ص: 341

بترخيص ملكي نظير رسم فادح. وكانت السياسة الإسبانية تخشى اتصال الموريسكيين بمسلمي المغرب، وكان ديوان التحقيق يسهر دائماً على حركة الهجرة، ويعمل على قمعها بمنتهى الشدّة. ومع ذلك فقد كانت الأنباء تأتي من سفراء إسبانيا في البندقية وغيرها هن الثغور الإيطالية، بأن كثيراً من الموريسكيين الفارين يمرون بها في طريقهم إلى إفريقية والعالم الإسلامي (1).

وخلال هذا الاضطهاد الغامر، كانت السياسة الإسبانية في بعض الأحيان، تجنح إلى شيء من الرِّفق، فنرى الإمبراطور في سنة (1543 م) يبلِّغ المحققين العامين، بأنه تحقيقاً لرغبة مطران طليطلة والمحقق العام، قد أصدر عفوه عن المسلمين المتنصرين من أهل (مدينة ولكامبو) و (أريفالو) فيما ارتكبوا من ذنوب الكفر والمروق، وأنه يكتفي بأن يطلب إليهم الاعتراف بذنوبهم أمام الديوان (ديوان التحقيق)، ثم تردّ إليهم أملاكهم الثابتة والمنقولة التي أخذت منهم إلى الأحياء منهم، ويسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلّص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها، بل تبقى هذه المهور للأولاد الذين يولدون من هذا الزواج، وأن يتمتع بهذا الامتياز النصرانيات الخلّص اللاّتي يتزوجن من الموريسكيين، بالنسبة للأملاك التي يقدِّمها الأزواج الموريسكيون برسم الزواج أو الميراث (2). وهكذا لبثت السياسة الإسبانية أيام الإمبراطور شارلكان (1516 م- 1555 م) إزاء الموريسكيين، تتردّد بين الإقدام والإحجام، واللّين والشدّة. بيد أنها على العموم كانت أقل عسفاً وأكثر اعتدالاً، منها أيام فرديناند وإيزابيلا، وفي عهده نال الموريسكيون كثيراً من ضروب الإعفاء والتسامح الرفيقة نوعاً ما، ولكنهم لبثوا في جميع الأحوال موضع القطيعة والريب، عرضة للإرهاق والمطاردة، ولبثت محاكم التحقيق تجد فيهم دائماً

(1) Dr Lea: ibid ; P. 187-189.

(2)

Arch. gen. de Simancas ; P. R. Leg. 28، Fol. 49.

ص: 342

ميدان نشاطها المفضّل.

ب - على أن هذه السياسة المعتدلة نوعاً ما، لم يتح لها الاستمرار في عهد ولده وخلفه فيليب الثاني (1555 م - 1598 م). وكان التنصير قد عمّ الموريسكيين يومئذٍ، وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام والعروبة، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قرارة هذه النفوس الأبية الكليمة، ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب. وكان الموريسكيون يحتشدون جماعات كبيرة وصغيرة في غرناطة وفي بسائطها، وفي منطقة البشرات الجبلية، تتوسطها الحاميات الإسبانية والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص في الزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية واجتماعية وثيقة بثغور المغرب، وهو ما كانت ترقبه السلطات الإسبانية دائماً بكثير من الحذر والريب. وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القديمة، ما زالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحن والخطوب اتحاداً، وتعلقاً بتراثه القومي والروحي، وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق، الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه، بكثير من البغضاء والحقد. فلما تولى فيليب الثاني ألفت فرصتها في إذكاء عوامل الاضطهاد والتعصّب التي خبت نوعاً ما في عهد أبيه شارل الخامس. وكان هذا الملك المتعصب جداً في قرارة نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ويرى في الموريسكيين ما تصوره الكنيسة والسياسة الرجعية، عنصراً بغيضاً خطراً دخيلاً على المجتمع الإسباني فلم تمض أعوام قلائل على تبوئه الملك، حتى ظهرت بوادر التعصب والتحريض ضد الموريسكيين، في طائفة من القوانين والفروض المرهقة. وكانت مسألة السلاح في مقدمة المسائل التي كانت موضع الاهتمام والتشدد. وقد عنيت السياسة الإسبانية منذ البداية بتجريد الموريسكيين من السلاح، واتخذت أيام فرديناند إجراءات لينة نوعاً ما، فكان يسمح بحمل أنواع معينة من السلاح المنزلي كالسكين وغيرها، وذلك

ص: 343

بترخيص ورسوم معينة. ولكن الحكومة خشيت بعد ذلك عواقب هذا التسامح، فأخذت تشدِّد في الترخيص، وجُرِّد المسلمون في بلنسية من سلاحهم جملة، وقيل لهم حينما أذعنوا للتنصير: إنهم سيعاملون كالنصارى في سائر الحقوق والواجبات، ويردّ لهم سلاحهم، ولكن الحكومة لم تفِ بعهدها. وفي سنة (1545 م) صدر قرار بمنع السلاح كافة، ولكنه نفِّذ بشيءٍ من اللين. وفي سنة (1563 م) في عهد فيليب الثاني، صدر قانون جديد يحرّم حمل السلاح على الموريسكيين إلاّ بترخيص من الحاكم العام، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فأثار صدوره سخط الموريسكيين، وكان السلاح ضرورياً للدفاع عن أنفسهم في محلاّتهم المنعزلة النائية.

بيد أن قانون تحريم السلاح، لم يكن سوى مقدمة لقانون أقسى وأشدّ إيلاماً، هو القانون الخاص بتحريم استعمال اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، على الموريسكيين. وقد لبثت اللغة والتقاليد العربية في الواقع للموريسكيين، من أوثق الروابط بماضيهم وتراثهم، وكانت عماد قوّتهم المعنوية، ومن ثم كانت عناية السياسة الإسبانية بالعمل على محوها بطريق التشريع الصارم، والقضاء بذلك على آخر الروابط التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي. وقد فكر بعض أحبار الكنيسة أن يتعلم القسس الذين يقومون بحركة التنصير اللغة العربية، لكي يستطيعوا إقناع الموريسكيين بلغتهم والنفاذ إلى أعماق نفوسهم، ولكن فيليب الثاني لم يوافق على هذا الرأي، وآثر أن يتعلم القشتالية أبناء الموريسكيين متذ طفولتهم؛ وكانت السياسة الإسبانية قد حاولت تنفيذ مشروعها منذ عهد الإمبراطور شارلكان، فصدر في سنة (1526 م) قانون يحرم على الموريسكيين التخاطب باللغة العربية وارتداء الثياب العربية، واستعمال الحمامات، وإقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، ولكنه لم ينفذ بشدة، والتمس الموريسكيون في بلنسية وغرناطة وقف تنفيذه أربعين عاماً، يحتفظون خلالها بلغتهم وثيابهم القومية، وقرنوا ملتمسهم بمطالب أخرى تتعلق بتطبيق شريعتهم وتقاليدهم، وتخفيف

ص: 344

الضرائب عن كاهلهم، وبالرغم من أن مطالبهم لم تُجب يومئذ كلها، فإن قانون تحريم اللغة والثياب القومية، نظير ضريبة معينة، أرجئ تنفيذه مرة أخرى، وأجيز للموريسكيين استعمال اللغة والثياب القومية نظير تلك الضريبة، واستمر هذا المنح سارياً حتى عهد فيليب الثاني، وكان يُجمَع من هذه الضريبة مبلغ طائل. ولكن فيليب الثاني كان ملكاً شديد التعصب، كثير التأثر بنفوذ الأحبار، وكانت الكنيسة ترى أن بقاء اللغة العربية من أشدّ العوامل لمنع تغلغل النصرانية في نفوس الموريسكيين، وأنه لابد من القضاء على ذلك الحاجز الصخري الذي تتحطم عليه جهود الكنيسة؛ وكانت قد مضت فوق ذلك أربعون عاماً مذ صدر قانون التحريم في عهد الإمبراطور شارلكان، ولم يبق للموريسكيين في ذلك حجة ولا ملتمس، وانتهت الكنيسة كالعادة بإقناع الملك بصواب رأيها، فلم يلبث أن استجاب لتحريضها، وأمر في (أيار - مايو سنة 1566 م) بأن يجدّد القانون القديم بتحريم الثياب العربية واللغة العربية، وهكذا حاول بطريق التشريع أن يسدّد الضربة الأخيرة للغة الموريسكيين وتقاليدهم العربية، فأصدر هذا القانون الهمجي الذي لم يسمع بصدور مثله في تاريخ المجتمعات المتمدنة. ويقضي هذا القانون بأن يمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكل معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة، ولا يُعتدّ بها لدى القضاء أو غيره. ويجب أن تسلم الكتب العربية، من أية مادة، في ظرف ثلاثين يوماً إلى رئيس المجلس الملكي في غرناطة، لتفحص وتقرأ، ثم يردّ غير الممنوع منها إلى أصحابها، لتحفظ لديهم مدى الأعوام الثلاثة فقط. وأما الثياب فيمنع أن يصنع منها كل جديد وأي جديد مما كان يستعمل أيام المسلمين، ولا يصنع منها إلاّ ما كان مطابقاً لأزياء النصارى، وحتى لا يتلف منها ما كان من زي المسلمين، فإنه يسمح بارتداء الثياب الحريرية منها لمدة عام، والصوفية لمدة عامين، ثم لا يسمح

ص: 345

باستعمالها بعد ذلك. ويحظر التحجّب على النساء الموريسكيّات، وعليهن أن يكشفن وجوههنّ، وأن يرتدين عند خروجهنّ، المعاطف والقبّعات على نحو ما تفعل النساء الموريسكيات في أراغون. ويحظر في الحفلات إجراء أية رسوم إسلامية، ويجب أن يجري كل ما فيها طبقاً لعرف الكنيسة وعرف النصارى، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال، وفي أيام الجمعة وأيام الأعياد، ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع في داخلها من المظاهر والرسوم المحرمة. ويُحرم إنشاد الأغاني القومية، ولا يشهر الزّمر (الرقص العربي) أو ليالي الطرب بالآلات أو غيرها من العوائد الموريسكية، ويحرم الخضاب بالحناء. ولا يسمح بالاستحمام في الحمامات، ويجب أن تهدم جميع الحمامات العامة والخاصة. ويحرم استعمال الأسماء والألقاب العربية، ومَن يحملها يجب عليه المبادرة بتركها. ويجب أخيراً على الموريسكيين الذين يستخدمون العبيد السود، أن يقدّموا رخصهم باستخدامهم، للنظر فيما إذا كان حرياً بأن يسمح لهم باستبقائهم (1).

هذه هي نصوص ذلك القانون الهمجي الذي أريد به تسديد الضربة القاضية لبقايا الأمة الأندلسية، وذلك بتجريدها من مقوماتها القومية الخيرة. وقد فرضت على المخالفين عقوبات فادحة، تختلف من السجن إلى النفي والإعدام، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية ولاسيما القرآن الكريم، يعتبر في نظر السلطات من أقوى الأدلة على الردّة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب.

وأعلن هذا القانون المروّع في غرناطة في يوم (أول كانون الثاني - يناير سنة 1567 م)، وهو اليوم الذي سقطت فيه غرناطة، واتخذته إسبانيا عيداً قومياً لها تحتفل به في كل عام، وأمر ديسا رئيس المجلس الملكي بإذاعته في غرناطة، وسائر أنحاء مملكتها القديمة، وتولى إذاعته موكب من القضاة شقَّ

(1) Marmol; ibid; 11. Cap. VI.، وأنظر أيضاً: P. Lognas، ibid; P. XLV - XLV1

ص: 346

المدينة، ومن حوله الطبل والزمر، وعلّق في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة، وفي سائر ميادينها الأخرى، وفي ربض البيازين، فوقع لدى الموريسكيين وقع الصاعقة، وفاضت قلوبهم الكسيرة سخطاً وأسىً ويأساً، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدّة، فحطّمت الحمامات تباعاً. واجتمع زعماء الموريسكيين وتباحثوا فيما يجب عمله إزاء هذه المحنة الجديدة، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغاء هذا القانون، أو على الأقل لتخفيف وطأته، ورفعوا احتجاجهم أولاً إلى الرئيس ديسا على يد رئيس جماعتهم مولاي فرنسيسكو نونيز، فخاطب الرئيس ديسا، وبيّن له ما في القانون من شدة وتناقض، وخرق للعهود، وطلب إرجاء تنفيذه. وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني، وإلى وزيره الطاغية الكاردينال أسبينوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وكان يعطف على هذا الشعب المنكود، ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته، وسار معه إلى مدريد اثنان من أكابرهم هما: خوان هرناندث من أعيان غرناطة، وهرناندو الحبقي من أعيان وادي آش، والتمس الوفد إلى الملك إرجاء تنفيذ القانون، كما حدث أيام أبيه، وبعث الدون هنريكس، بمذكرة إلى جميع أعضاء مجلس الملك يبيِّن فيها ما يترتب على تنفيذ القانون من حرج واضطراب، ولكن مساعيه كلها ذهبت عبثاً، وأجاب الكاردينال اسبينوسا بأن جلالته مصمم على تنفيذ القانون، وأنه أصبح أمراً واقعاً، وكذا عرض المركيز دى مونديخار حاكم غرناطة على الملك اعتراض الموريسكيين، وأوضح له خطورة الموقف، وأن اليأس قد يدفعهم إلى الثورة، وأن الترك قد أصبحوا في شواطئ المغرب على مقربة من إسبانيا، وأن الموريسكيين شعب عدو لا يدين بالولاء، فلم تفد هذه الاعتراضات شيئاً، وقيل إن الموريسكيين شعب جبان، ولا سلاح لديه ولا حصون. وهكذا حملت سياسة العنف والتعصب في طريقها كل شيء، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حدّدت لها، ولم تبد السلطات في تنفيذها أي رفق أو ...................................................

ص: 347

مهادنة (1).

ولم يحظ بلمحة من الرفق سوى الموريسكيين في بلنسية، وكان زعيمهم وكبير أشرافهم كوزمي بن عامر من المقربين إلى البلاط، فسعى للتخفيف عنهم، وكلّلت مساعيه بالنجاح في بعض النواحي، وهو أن يعامل الموريسكيون بالرفق في حالة اتهامهم بالردّة، ولا تنزع أملاكهم بتهمة المروق، وذلك على أن يدفعوا إتاوة سنوية قدرها ألفان وخمسمائة مثقال لديوان التحقيق (2).

وأما في غرناطة، فقد بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة، والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني، أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم، آخر جذوة من الكرامة والعزّة، وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز، وكانت نفوسهم ما تزال تضطرم ببقية من شغف النضال والدفاع عن النفس، وكانوا يرون في المناطق الجبلية القريبة ملاذاً للثورة، ويؤملون أن يصلوا بالمقاومة إلى إلغاء هذا القانون الهمجي أو تخفيفه. وهنا يبدأ الصراع الأخير للموريسكيين وإسبانيا النصرانية، ومن المؤسف أنه لم تذكر المصادر العربية عن هذه المرحلة شيئاً، فهي تقف عند محنة التنصير الأولى عقب سقوط غرناطة، فلا بد من الرجوع إلى المصادر النصرانية حول ذلك.

سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق، فعوّلوا على الثورة، مؤثرين الموت على ذلك الاستشهاد المعنوي الهائل ونبتت فكرة الثورة في غرناطة أولاً حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة منهم تحتشد في ضاحية البيازين. وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها

(1) Marmol; ibid; 11. Cap. وأنظر: Prescott: Philip 11 of Spain; V. 111. P. 12-89 وأنظر: Dr. Lea: The Moriscos; P. 150-151 and 230-234.

(2)

Dr Lea: ibid. P. 126.

ص: 348

موريسكي يدعى: فرج بن فرج، وكان فرج صباغاً بمهنته، ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية، كان رجلاً جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرم بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم، ولا غرو فقد كان ينتسب إلى بني سراج، وهم كما رأينا من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرات، وثيق الصلة بمواطنيه، فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوّة كبيرة منهم، تزحف سراً إلى غرناطة، وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجئ حامية الحمراء وتسحقها وتستولي على المدينة، وحدّدوا للتنفيذ (يوم الخميس المقدس)، من شهر نيسان - أبريل سنة (1568 م) إذ يشغل النصارى يومئذ باحتفالاتهم وصلواتهم. ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسرّبت إلى السلطات منذ البداية، فاتخذت الاحتياطات لدرئه، وعزّزت حامية غرناطة وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة، أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى.

ووضع أديب من زعماء الثورة، يدعى باسمه المسلم محمد بن محمد بن داود، قصيدة ملتهبة، يصف فيها آلام بني وطنه، ويستمدّ فيها الغوث والعون من الله ومن ونبيه عليه الصلاة والسلام، فضبطت معه في ثغر أدرة، وأرسلت إلى البلاط مع ترجمتها القشتالية، وهذا هو ملخص ما ورد في تلك القصيدة التي تعتبر كأنها صرخة ألم أخيرة لشعب شهيد: (تفتتح القصيدة بحمد الله والثناء عليه والتنويه بقدرته، وخضوع جميع الناس والأشياء لحكمه، ثم يقول: استمعوا إلى قصة الأندلس المحزنة، وهي تلك الأمة العظيمة التي غدت اليوم ضعيفة مهيضة، يحيط بها الكفرة من كل صوب، وأضحى أبناؤها كالأغنام الذين لا راعي لهم. وفي كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة، حتى ينقذنا الموت مما هو شرّ وأدهى. وقد حكّموا فينا يهود الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وفي كل يوم يبحثون عن ضلالات وأكاذيب وخدع وانتقامات جديدة.

ص: 349

"ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، وهي مسخ للواحد القهار، ولا يجرؤ أحد على التذمر أو الكلام. وإذا ما قرع الناقوس، ألقى القس عِظَته بصوت أجشّ، وفيها يشيد بالنبيذ ولحم الخنزير، ثم تنحني الجماعة أمام الأوثان دون حياء ولا خجل

".

"ومَن عَبَدَ الله بلغته قُضى عليه بالهلاك، ومَن ضُبط أُلقِي إلى السجن وعُذّب ليل نهار، حتى يرضخ لباطلهم".

ثم يصِف وسائل إرهاقهم والتضييق عليهم، من التسجيل والتفتيش وغيرها، وما يفرض عليهم من الضرائب الفادحة، وكيف تُؤدى عن الحي والميت، والكبير والصغير، والغني والفقير، وكيف يرهقهم القضاة الظلمة، ولا يفلت من ظلمهم كائن، وكيف يُلقى بهم في السجن، ويرغمون على التنصير بالاعتقال والتعذيب، وكيف تهشّم أوصال الفرائس، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق أمام الجمع الحاشد. وكيف تكدّس المظالم على رءوسهم تكديساً، ويسومهم الخسف أصاغر النصارى، وكل منهم يفتنُّ في ضروب الاضطهاد.

ثم يقول: "ولقد علّقوا يوم العيد (عيد سقوط غرناطة) في ميدان باب البنود، قانونا جديداً، وأخذوا يدهمون الناس في نومهم، ويفتحون كل باب، يزمعون تجريدنا من ثيابنا وقديم عاداتنا، ويمزقون الثياب، ويحطمون الحمامات".

"ونحن إذ نيأس من عدل الإنسان، نستغيث بالنبي عليه الصلاة والسلام، معتمدين على ثواب الآخرة، وقد حثنا شيوخنا على الصلاة والصوم، وأن نقصد وجه الله، فهو الذي يرحمنا في نهاية الأمر"(1).

وضبط في نفس الوقت مع ابن داود خطاب موجه من أحد زعماء البيازين

(1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة لهذه القصيدة، والترجمة للأستاذ محمد عبد الله عنّان نقلاً عن: نهاية الأندلس (345 - 346)، أنظر: Marmol; ibid; 111. Cap. 1X

ص: 350

إلى زعماء المغرب ورؤسائهم وإخوانهم في الدين. وكان هذا الكتاب واحداً من كتب عديدة، وجّهت خفية إلى أمراء الثغور في المغرب، يطلبون إليهم الغوث والعون، فحمل الكتاب إلى حاكم غرناطة، وفيه يناشد كاتبه إخوانه بالمغرب، ويستحلفهم الغوث بحق روابط الدين والدم، ويصف ما قرره النصارى من إرغامهم على ترك اللّغة، وتَرْكُها فَقْدٌ للشريعة، وكشف الوجوه الحيية المحتشمة، وفتح الأبواب، وما أنزل بهم من محن السجن والأسر ونهب الأملاك، ويطلب إليهم أن يبلغوا استغاثتهم إلى سلطان المشرق قاهر أعدائه، ثم يقول:"لقد غمرتنا الهموم، وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا لكم في ليالٍ تفيض بالعذاب والدّمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح المعذّب"(1). ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعي الغوث سوى جماعة من المتطوعين، الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم في البشرات، ومنهم كثير من البحارة المجاهدين، الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الإسبانية في ذلك العصر.

واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، وأرسلت خطابات عديدة من ابن فرج وزملائه إلى مختلف الأنحاء يدعون فيها إخوانهم إلى التأهب وإخطار سائر إخوانهم. وفي شهر (كانون الأول - ديسمبر 1568 م) وقع حادث كان نذير الانفجار، إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الإسبانيين في طريقهم إلى غرناطة، ووثبت جماعة منهم في نفس الوقت بشرذمة من الجند، كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق، ومثلت بهم جميعاً. وفي الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه، ونفذ إلى المدينة ليلاً، وحاول تحريض مواطنيه في (البيازين) على نصرته، ولكنهم أَبَوْا أن يشتركوا

(1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة، أنظر: Marmol، ibid، 111، Cap. 1X

ص: 351

في مثل هذه المغامرة الجنونية. ولقد كان موقفهم حرجاً في الواقع، لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية، وهم أعيان الطائفة، ولهم في غرناطة مصالح عظيمة يخشون عليها من انتقام الإسبان، بيد أنهم كانوا يؤيدون الثورة؛ يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم، فارتد ابن فرج على أعقابه، واجتاز شعب جبل شلير (سيرانفادا) إلى الهضاب الجنوبية فيما بين بلش وألمرية، فلم تمض بضعة أيام، حتى عمّ ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية في أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج، ووثب الموريسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم، ففتكوا بهم ومزّقوهم شرّ ممزق.

ج - اندلع لهيب الثورة في أنحاء الأندلس، ودوّت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة أو الموت، وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفّون حوله، ويكون رمز ملكهم القديم، فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى: الدون فرناندو دى كردوبا فالور (1). وكان هذا الاسم النصراني القشتالي، يحجب نسبة عربية رفيعة. ذلك أن فرديناند فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية، وكان سليل الملوك والخلفاء الذين سطعت في ظلهم الدولة الإسلامية في الأندلس، زهاء ثلاثة قرون. وكان فتى في العشرين، تنوِّه الرواية القشتالية المعاصرة بوسامته ونبل طلعته، وكان قبل انتظامه في سلك الثوار مستشاراً ببلدية غرناطة، ذا مال ووجاهة. وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التي انتدب لها. وكان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً، ففي الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال، ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية بزنار ( Beznar) فهرعت إليه الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه في (29 كانون الأول - ديسمبر سنة 1568 م) في احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام

(1) كردوبا أي قرطبة، وفالور قرية غرناطية تقع على مقربة من أجيجر.

ص: 352

إسلامية ذات أهلّة، فصلى عليها الأمير متّجها نحو مكة، وقبّل أحد أتباعه الأرض رمزاً للخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمَّى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أميّة صاحب الأندلس وغرناطة، واختار عمه المسمى: فرناندو الزغوير (الصغير) واسمه المسلم ابن جوهر قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وانتخب ابن فرج كبيراً للوزراء، ثم بعثه على رأس بعض قواتها إلى هضاب البشرات، ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس، واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء، يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعود إلى دينهم القديم (1).

ووقعت نقمة الموريسكيين بادئ ذي بدء، على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم في أنحاء البشرات، ولا سيما القسس وعمال الحكومة، وكان هؤلاء يقيمون في محلاّت متفرقة سادة قساة، يعاملون الموريسكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان القسس بالأخص سبب بلائهم ومصائبهم، ومن ثم كانوا ضحايا الثورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى في تلك الأنحاء ومزقوهم تمزيقاً، وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثّلوا بهم أشنع تمثيل. وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة، لم ينج منها حتى الأطفال والنساء والشيوخ. وذاعت أنباء المذبحة الهائلة في غرناطة، فوجم لها الموريسكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة؛ وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش بهم النصارى انتقاماً لإخوانهم ومواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة، فتسقط المدينة بأيديهم، وعندئذ يحل بهم النكال المروِّع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية فتقول: إنه لم يحرِّض على هذه المذابح، ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها، وحاول أن يحول دون وقوعها، وعزل نائبه ابن فرج

(1) Marmol ; ibid; 1V ، Cap. V11.

ص: 353

عن القيادة، فنزل راضياً واندمج في صفوف المجاهدين، وهنا يختفي ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث من جديد (1).

د - وكانت غرناطة في أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً، وكان حاكمها المركيز منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى. بيد أنه لم يكن يقدّر مدى الانفجار الحقيقي. فغصّت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة، رغم احتجاجهم وتوكيدهم بأن لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم. وخرج منديخار من غرناطة بقواته، في (2 كانون الثاني - يناير سنة 1569 م) تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تندليا، وعبر جبل شلير (سيرا نفادا) وسار توّاً إلى أعماق البشرات، حيث يحتشد جيش الثوار. وكانت الثورة الموريسكية في تلك الأثناء قد عمّت أنحاء البشرات الشرقية والجنوبية، واضطرمت في أجيجر وبرجة وأدرة وأندراش ودلاية ولوشار ومرشانة وشلوبانية وغيرها من البلاد والقرى، واستطاع الموريسكيون أن يتغلبوا بسهولة على معظم الحاميات الإسبانية المتفرقة في تلك الأنحاء، بل لقد سرت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة، حيث أندلع لهيبها في وادي المنصور وفي قراه ودساكره، ولم يتخلّف عن المشاركة في الثورة سوى رندة ومربلة ومالقة، وكانت بها حاميات إسبانية قوية، ونشبت الثورة في معظم أنحاء ألمرية، وهكذا عمّت الثورة الموريسكية معظم أنحاء الأندلس، واشتد الأمر بنوع خاص في بسطة ووادي آش وألمرية (2).

وكان محمد بن أمية متحصناً بقواته في آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم، قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها، فما كاد الإسبان يقتربون حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول بطرنة،

(1) Prescott:Philip 11; V. 111. Ch. 11 وكذلك Dr Lea: The Moriscos; P. 237

(2)

Marmol ; ibid، 1V ، Cap. XXXV1

ص: 354

وتخلّف كثيرون منهم، ولا سيما النساء، ففتك الإسبان بهم فتكاً ذريعاً. وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو، وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم. وكتب الدون ألونسو فنيجاس (بنيغش) سليل الأسرة الغرناطية القديمة إلى محمد بن أمية يعاتبه، وأنه قد جانَبَ العقل والحزم في القيام بهذه الحركة التي تعرضه وتعرض أمته للهلاك، ونصحه بالتوبة والتماس العفو، وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، وتبودلت بالفعل المكاتبة بينه وبين المركيز منديخار في أمر التسليم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولا سيما المتطوعين المغاربة، رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفّة الإسبان، وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وأعلن المركيز دى منديخار أن الأسرى الموريسكيين يعتبرون رقيقاً وفرّ محمد بن أمية، وأسرت أمه وزوجه وأخواته، وأصيب الإسبان بهزيمة شديدة فى آكام (جواخاريس)، وقتل منهم مائة وخمسون جندياً مع ضابطهم، ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد، وقتل الإسبان مَن تخلّف منهم أشنع قتل، وكان ممن تخلف منهم زعيم باسل يدعى (الزمار) أسره الإسبان مع ابنته الصغيرة، وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذّبوه عذاباً وحشياً، إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزّقت أشلاؤه، وهكذا كانت أساليب الإسبان النصارى ومحاكم التحقيق إزاء العرب المتنصرين.

واختفى محمد بن أمية مدى حين في منزل قريبه (ابن عبو) وكان من أنجاد الزعماء أيضاً، وطارده الإسبان دون أن يظفروا به. على أن هذه الهزائم لم تنل من عزم الموريسكيين، فقد احتشدوا في شرقي البشرات في جموع عظيمة، وأخذوا يهدّدون ألمرية، فسار إليهم المركيز "لوس فيليس" على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة، قثل فيها كثير من الفريقين، ومزّق الموريسكيون، وفتك الإسبان كعادتهم بالأسرى، وقتلوا النساء والأطفال قتلاً ذريعاً.

ووقعت في نفس الوقت في غرناطة مذبحة مروّعة أخرى فقد كان في

ص: 355

سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان الموريسكيين، اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة، فأذاع الإسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء، بمؤازرة مواطنيهم في البيازين، وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء، فانقضّ الجند عليهم وذبحوهم في مناظر مروّعة في سفك الدماء الفظيع.

وكان لهذه الحوادث الأخيرة أثر في إذكاء الثورة، وكان نذيراً جديداً للموريسكيين بأن الموت في ساحة الحرب خير مصير يلقون، فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل، وطافت بهم صيحة الانتقام، فانتفضوا على الحاميات الإسبانية المبعثرة في أنحاء البشرات ومزّقوها تمزيقاً، وهزموا قوة إسبانية تصدّت لقتالهم، واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل، وعاد محمد بن أمية ثانية إلى تبوء عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى القسطنطينية يطلب العون من سلطانها، وأرسل في نفس الوقت إلى أمير الجزائر، وإلى سلطان مراكش الشريفي يطلب الإنجاد والغوث، ولكن سلاطين القسطنطينية لم يلبّوا ضراعة الموريسكيين بالرغم من تكرارها منذ سقوط غرناطة، وأرسل أمير الجزائر مشجعاً ومعتذراً عن عدم إمكان إرسال السفن، ووعد سلطان مراكش بالمساعدة والغوث، ولكن هذا الصريخ المتكرر من الموريسكيين لم ينتج أثره المنشود، ولم يلبه غير إخوانهم المجاهدين في إفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة، أن تجوز إلى الشواطئ الإسبانية، ومنهم فرقة من الترك المرتزقة، وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين.

وهكذا عاد الجهاد إلى أشدّه. وخشي الإسبان من احتشاد الموريسكيين في البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم في بعض الأنحاء الشمالية. وكانت مأساة جديدة مزّقت فيها هذه الأسر التعسة، وفُرِّق فيها بين الأبناء والآباء والأزواج والزوجات، في مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس في نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين، في سهول المنصورة على مقربة من أراضي مرسية، ونشبت بينه وبينهم وقائع غير

ص: 356

حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص الأهبة والمؤن، وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة، كانتا سبباً في اضطراب الخطط المشتركة. واتُّهِم منديخار بالعطف على الموريسكيين، فاستُدعِي إلى مدريد، وأُقِيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة في هذا الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة.

وبينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم في هضاب الأندلس وسهولها، وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع في المعسكر الموريسكي حادث خطر، هو مصرع محمد بن أمية. وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة، وكانت عوامل الخلاف والحسد، تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة، وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه، الحقد في نفوس نفر من ضباطه. وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله فتقول: إنه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل (الوزير) له عشيقة حسناء تسمى: زهرة، فانتزعها منه محمد قسراً، فحقد عليه وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزوّر على لسانه خطاباً إلى القائد العام (ابن عبو) يحرِّضه على التخلّص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة في المعسكر الموريسكي، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر ابن أمية وقتلوه، بالرغم من احتجاجه وتوكيده براءته، واستقبل الجند الحادث بالسكون. وفي الحال اختار الزعماء ملكاً جديداً هو ابن عبو، واسمه الموريسكي: ديجو لوبيث، وهو ابن عم الملك القتيل، فتسمى: بمولاي عبد الله محمد، وأُعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذي وصفناه. وكان مولاي عبد الله أكثر فطنة وروية وتدبّراً، فحمل الجميع على احترامه، وشُغل مدى حين بتنظيم الجيش، واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرّباً قِوامه زهاء عشرة آلاف، بين مجاهد ومرتزق ومغامر.

وفي أواخر (تشرين الأول - أكتوبر 1569 م) سار مولاي عبد الله بجيشه

ص: 357

صوب (أرجبة)، وهي مفتاح غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته، وهرع الموريسكيون من شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة، وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة ( La Vega) وقد كانت قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى، وكان فيليب الثاني حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية، وعجز القادة المحليين عن قمعها، قد عين أخاه الدون خوان قائداً عاماً لولاية غرناطة، ولما رأى الدون خوان اشتداد ساعد الموريسكيين، اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه في أواخر (أيلول - ديسمبر) على رأس جيشه، وسار صوب وادي آش، وحاصر بلدة (جليرا)، وهي من أمنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكي، منهم فرقة تركية، فهاجمها الإسبان عدة مرات، وصوبوا عليها نار المدافع بشدّة، فسقطت بأيديهم بعد معارك هائلة، أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات أعظم ضروب البسالة، وقتل عدد من الأكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الأسبان دخول الضواري الكواسر المفترسة، وقتلوا كل من فيها من الرجال والأطفال والنساء، وكانت مذبحة مروّعة (شباط - فبراير 1570 م)، وتوغل بعد ذلك دون (1) خوان في شعب الجبال الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هناك قوة من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى:(الحبقي) تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الإسبان في سيرون ومزّقت بعض سراياهم، وأوقعت الرّعب والخلل في صفوفهم، وقتل منهم عدد كبير، ولم يستطع الدون خوان أن يعيد النظام إلاّ بصعوبة، فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر في سيره جنوباً حتى وصل إلى أندراش في (أيار - مايو سنة 1570 م).

وهنا رأت الحكومة الإسبانية أن تجنح إلى شيء من اللّين، خشية عواقب هذا الجهاد الرائع، فبعث الدون خوان رسله إلى الزعيم (الحبقي) يفاتحه بأمر

(1) دون ( DON) تعني السيد في اللغة الإسبانية.

ص: 358

الصلح، وصدر أمر ملكي بالوعد بالعفو التام عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم في ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم، فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع، ما عدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قُضي عليه بالموت، فلم يصغ إلى النداء أحد، ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائياً أن إسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام، وأنها لا تفي بوعودها، فعاد الدون خوان إلى استئناف المطاردة والقتال، وانقض الإسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً، وسارت قوة بقيادة دون سيزا إلى شمال البشرَّات، واشتبكت مع قوات مولاي عبد الله في معارك غير حاسمة، وسارت مفاوضات الصلح في نفس الوقت عن طريق الحبقي، وكان مولاي عبد الله قد رأى تجهّم الموقف، ورأى أتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعاً، والقوة الغاشمة تجتاح في طريقها كل شيء، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من براثن القوّة القاهرة.

وتقدّم للتوسط بين الثوار وبين الدون خوان كبير من أهل وادي آش يدعى: الدون هرناندو دى براداس، وكانت له صلات طيبة مع الموريسكيين قبل الثورة. وقد انتهت إلينا وثيقة مؤثرة هي عبارة عن خطاب كتبه مولاي عبد الله إلى دون هرناندو هذا يعرض استعداده للصلح والمفاوضة، وفيه تبدو لغة الموريسكيين العربية في دور احتضارها، ويبدو أسلوب اللّهجة الغرناطية التي انتهى الموريسكيون إلى التحدث والكتابة بها، بعد نحو ثمانين عاماً من الكبت والمطاردة. وإليك ما ورد في هذا الخطاب الذي ربما كان آخر وثيقة عربية عثر بها البحث الحديث:

1 الحمد لله وحده قبل الكلم

2 اسلم الكرمو على من أكرمهو الكرمو سيديا وحبيبي وعزا سر عنديا دن هرنندو وفي نعلم حرمتكم ين

ص: 359

3 أكن نت تقول يجى عند أخيكم وحببك وتجى مطمن وكل ميجكم فمليا

4 وذيمتى وكن أنت تريد تترطل فذى المبرك مين سُلح كل متعمل تعملو معى ونى

5 نعمل معك كل مَترِيد بحق وبِل غدر وذَهَر لى مين الحبقى بن اشمَكِن يعمل

6 معلمن وتطلعنى على حق وذهر لى بن اشم طلب يرحو وينسو ويسحبو وبعد رعى

7 ودين انى نعرف حرمتك بهذا شى وحرمتك اعمل الذى يذهر لكم وعمل ميسُلح بنترر

8 وبين وعسى يقذيا الله خير بينين وتكن حرمتكم اسّبّبْ فداشى وعملن فعد لكم بل اش

9 كن معى من يكتب لى يل كينكن كتبت لكم أكثر وسلموا عليكم ورحمتو الله وبركتو الله

10 كِتيب الكتب يوم الثليث فشهر وليو فعم ..

ملاى عبد الله (1)

وكتب الدون ألونسو دى فينجاس (بنيغش) أيضاً إلى مولاي عبد الله يحثه على المسالمة، والتنكّب عن هذا الطريق الخطر، وردّ عليه عبد الله يلقي

(1) نشر هذا الخطاب وصورته الفوتغرافية المستشرق M. Alacron في مجموعة بالإسبانية عنوانها: Miscelaneo de Estudios Y. Textos Arabes (Madrid 1915) ; P. 691، وقد وجد هذا الخطاب في مجموعة المخطوطات الشرقية للمركيز بينافلور Bena Flor، وتحفظ نسخته العربية فيها برقم 246، وتحفظ ترجمته القشتالية برقم 245، وقد أورد مارمول ترجمته القشتالية في الكتاب التاسع الفصل التاسع. أنظر نهاية الأندلس (355).

ص: 360

المسئولية على أولي الأمر، وعلى ما أحدثوه من بدع جعلت الحياة مستحيلة على الشعب الموريسكي (1). وجرت المفاوضات بين الزعيم الحبقي قائد قوات الثورة، وبين الدون هرناندو دى براداس، واتفق في النهاية على أن يتقدم الحبقي إلى الدون خوان بإعلان خضوعه، وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الإسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت مقامهم. وفي ذات مساء، سار الحبقي في سرية فرسانه إلى معسكر الدون خوان في أندراش، وقدم له الخضوع، وحصل على العفو المنشود.

ولكن هذا الصلح لم يرض مولاي عبد الله وباقي الزعماء، لأنهم لمحوا فيه نيّة إسبانيا النصرانية على نفيهم ونزعهم عن أوطانهم، ففيم كانت الثورة إذن وفيم كان الجهاد؟! لقد ثار الموريسكيون، لأن إسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز، الذي نشأوا في ظلاله الفيحاء، والذي يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاي عبد الله في موقف الحبقي، إذ رآه يروّج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعو إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه لمعسكره بالحيلة، وهناك أُعدم سراً.

ووقف الدون خوان على ذلك، بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاي عبد الله، فأعلن إليه أن يترك الموريسكيين أحراراً في تصرفاتهم، بيد أنه يأبى الخضوع ما بقي فيه عرق ينبض، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه، على أن يحصل على مُلك إسبانيا بأسره. والظاهر أن مولاي عبد الله، كانت قد وصلته إمدادات من المغرب شدّت أزره وقوّت أمله، وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاي عبد الله أخوه الغالب ليقود الثوار في تلك الأنحاء، وثارت الحكومة الإسبانية لهذا

(1) Marmol ; ibid; V111 ; Cap. XXV11.

ص: 361

التحدي، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت، فسار الدون خوان في قواته إلى وادي آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دون ركيصانص إلى شمالي البشرات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الإسبان في طريقهم كل شيء، وأمعنوا في التقتيل والتخريب. وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن تقف في وجه هذا السيل، فمُزِّقت تباعاً، وهدم الإسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول، حتى لا يبقى للثائر من مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت الثورة تنهار بسرعة، وفرّ كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم في إفريقية، ولم يبق أمام الإسبان سوى مولاي عبد الله وجيشه الصغير. بيد أن مولاي عبد الله لبث معتصماً بأعماق الجبال، يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف. (وفي 28 تشرين الأول - أكتوبر سنة 1570 م) أصدر فيليب الثاني قراراً بنفي الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد، ومصادرة أملاكهم العقارية، وترك أملاكهم المنقولة يتصرفون فيها، ويقضي هذا القرار بأن الموريسكيين في غرناطة والفحص ووادي الكرين (الإقليم) وجبال بونتوقير حتى مالقة، وجبال رندة ومربلة يؤخذون إلى ولاية قرطبة، ومن هناك يفرقون في أراضي ولايتي استرامادورة وجليقيه. والموريسكيون في وادي آش وبسطة ووادي المنصورة يؤخذون إلى جنجالة والبسط ثم يفرقون في أراضي قلعة رباح ومونتيل. والموريسكيون في ألمرية يؤخذون إلى ولاية إشبيلية. ونفذ القانون الجديد بمنتهى الصرامة والتحوّط، وجمع الموريسكيون المسالمون من غرناطة وبسطة ووادي آش وغيرها، وسيقوا إلى الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند من كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا على النحو المتقدم في مختلف أنحاء قشتالة وليون (1).

ووقعت أثناء تنفيذ هذا القرار مناظر دموية، حيث جنح رجال الحكومة في

(1) Marmol ; ibid; X; Cap. V1.

ص: 362

بعض الأنحاء، ولا سيما في رندة، إلى نهب المنفيين، والفتك بالنساء والأطفال. ولما سمع الموريسكيون المعتصمون بالجبال هذه الأنباء، انحدروا إلى السهل وقتلوا كثيراً من الجند المثقلين بالغنائم. وكان مصير المنفيين مؤلماً، إذ هلك منهم من المشاق والمرض، وعانى الذين سلموا منهم مرارة غربة جديدة مؤلمة، ونصّ على وضعهم تحت الرقابة الدائمة، وتسجيلهم وتسجيل مساكنهم في سجلات خاصة، وعين لهم حيث وجدوا مشرفاً خاصاً يتولى شئونهم، وحرّم عليهم أن يغيروا مساكنهم إلا بتصريح ملكي، وحرم عليهم بتاتاً أن يسافروا إلى غرناطة، وفرضت على المخالفين عقوبات شديدة تصل إلى الموت. وهكذا شرِّد الموريسكيون في مملكة غرناطة أفظع تشريد، وانهار بذلك مجتمعهم القومي المتماسك في الوطن القديم (1).

ولم يبق إلاّ أن يسحق مولاي عبد الله وجيشه الصغير، وكان هذا الأمير المنكود يرى قواه وموارده تذوب بسرعة، وقد انهار كل أمل في النصر أو السلم الشريف، بيد أنه لبث مختفياً في أعماق جبال البشرات بين آكام برشول وترفليس مع شرذمة من جنده المخلصين. (وفي مارس - آذار 1571 م) كشف بعض الأسرى مخبأه السري للإسبان، فأوفدوا رسلهم إلى معسكره في بعض المغاير. وهناك استطاعوا إغراء ضابط مغربي من خاصته يدعى جونثالفو (الشنيش)، وكان الشنيش يحقد عليه لأنه منعه من الفرار إلى المغرب، وأغدق الإسبان له المنح والوعود، وقطعوا له عهداً بالعفو الشامل، وضمان النفس والمال، وأن ترد إليه زوجته وابنته الأسيرتان، إذا استطاع أن يسلمهم مولاي عبد الله حياً أو ميتاً. وكان الإغراء قوياً مثيراً، فدبر الضابط الخائن خطته لاغتيال سيّده، وفي ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه، فقاوم مولاي عبد الله ما استطاع، ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه، فألقى الخونة جثته من

(1) Dr Lea. The Moriscos. P. 256-257 ، 265

ص: 363

فوق الصخور، لكي يراها الجميع، ثم حملها الإسبان إلى غرناطة، وهناك استقبلوها في حفل ضخم، ورتبوا موكباً أُسندت فيه الجثة إلى بغل، وعليها ثياب كاملة كأنها هي إنسان حيّ، ومن ورائها أفواج كثيرة من الموريسكيين الذين سلموا بعد مصرع زعيمهم، ثم حملت إلى النطع وأجري فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ومُزِّقت، ثم جُرَّتْ في شوارع غرناطة، مبالغة في التمثيل والنكال، ومزقت أربعاً، وأحرقت بعد ذلك في الميدان الكبير، ووضع الرأس في قفص من الحديد، رفع فوق سارية في ضاحية المدينة تجاه جبال البشرات (1).

وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت، وخبت آخر جذوة من العزم والجهاد، في صدور هذا المجتمع الأبي المجاهد وقضت المشانق والمحارق والمحن المروِّعة، على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبّت روح من الرهبة والاستكانة المطلقة، على ذلك المجتمع المهيض المعذّب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، في ظل العبودية المطلقة الشاملة والإرهاق المطلق الثقيل، حقبة أخرى (2).

(1) Marmol; ibid، X; Cap. V111.

(2)

نهاية الأندلس (332 - 359).

ص: 364