الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس عبد الله وحده، خدم بلاده وأمته إدارياً وقائداً، وجندياً فاتحاً، ثم قابله قومه بالعقوق، وعاقبوه على إحسانه بالاغتيال والنسيان، فهو أحد الذين تخلّى عنه الناس لأن النّظام السّائد تخلّى عنه، متناسين جهاده وجهوده وفتوحه، ولعلّ ماضيه المجيد أصبح وبالاً عليه، فسقط مضرّجاً بدمائه بسيوف لم تفرِّح عدوّاً في ساحات الجهاد، وضرّجت مجاهداً فاتحاً في بيت من بيوت الله.
إنه حلقة من سلسلة طويلة جداً، تلقى أصحابها العقوق والنسيان، جزاء ما قدموه من جهود وإحسان.
القائد
مفتاح شخصية عبد الله قائداً، يكمن في شجاعته الشخصية وإقدامه، فقد تولّى قيادة حملة تأديبية في البحر مرتين: الأولى سنة خمس وثمانين الهجرية (704 م) على قاعدة الروم في صقلية، والثانية سنة سبع وثمانين الهجرية (705 م) على قاعدة الرّوم في سردينيا، وكانت الحملتان التأديبيتان البحريتان على الروم في قواعدهم الأمامية المتقدمة، التي ينطلقون منها للتعرض بالمسلمين الفاتحين في شمالي إفريقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ناجحتين للغاية، أعطى بهما عبد الله درساً للروم لن ينسوه، هو أن تعرّضهم بالمسلمين لن يمرّ بدون عقاب، وأن من الخير لهم أن يتخلّوا عن تعرّضهم بالمسلمين، لأنه لا يفيدهم في استعادة ما خسروه من مناطق في إفريقية فحسب، بل يعرّضهم لخسارة مناطق جديدة يمتلكونها في البحر، كجزر البحر الأبيض المتوسط وعلى رأسها جزيرتا: صقلية وسردانية، أكبر قاعدتين أماميتين متقدمتين لهم في جزر البحر الأبيض المتوسط.
ومن الواضح، أن اقتحام البحر، وقيادة حملة بحرية، من قائد لم يَعْتَد ركوب البحر ولا معاناة أهواله، للهجوم على عدو مارس حروب البحر واعتاد
عليها، بحاجة إلى قيادة شجاعة مقدامة، لا تخشى أهوال تلك الحروب، ولا تجهل مشاقّها ومعضلاتها، وتُعد العُدّة لمجابهة المشقات وحل المعضلات.
ومن الصعب على قائد عام، كموسى بن نصير، أن يولِّي ابنه البكر عبد الله، قيادة بحرية، دون أن يكون واثقاً من قابليات ولده وكفاياته واقتداره، وأنه سيكون عند حسن ظنّه به قائداً منتصراً، وعند حسن ظن المسلمين به قائداً لا يغرِّر بأصحابه، ولا يقودهم إلى المهالك، بل يحرص على أرواحهم حرصه على روحه، ويقودهم إلى النصر. وإلاّ، فما من والد، يمكن أن يغرِّر بابنه، ويغرِّر بالمسلمين، ويعرِّضه ويعرِّضهم لخطر داهم، إلاّ إذا كان واثقاً كل الثقة بابنه، لأن الحرب، وبخاصة البحرية منها، ليست نزهة من النزهات.
وما قصّر موسى بن نصير في تأديب ابنه عبد الله وسائر أولاده وتعليمهم وتدريبهم، ثم بدأ بتزويد عبد الله بالتجربة العملية على القيادة والإدارة، منذ حلّ في إفريقية والياً عليها. ولكن التجارب العملية على القيادة، لا يمكن أن تأتي ثمارها ما لم يكن المجرِّب متّسماً بالمزايا القيادية المعروفة، والتجربة العملية لها دور في صقل تلك المواهب والمزايا وترسيخها وتنميتها. أما إذا كان المرء محروماً من المزايا القيادية، فلن تجديه التجارب العملية في ميادين القتال شيئاً، فكأنّه يضرب على حديد بارد، أو يغرس الزهر في صحراء.
فما هي سمات عبد الله القيادية، التي صقلها ورسّخها ونمّاها بتجاربه العملية الميدانية برّاً أو بحراً؟
لقد كان ذكيّاً فطناً، لذلك كانت قراراته صحيحة وسريعة، وكان شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، يتحمّل المسئولية كاملة ولا يلقيها على عواتق الآخرين تهرّباً منها، يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة فلا يحيد عن قراره إذا اقتنع بسلامته ولا يتخلى عنه، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار واليُسر والعُسر، يسبق النظر، ويتوقع ما يمكن أن يقع، ويُعدّ لكل ما يُحتمل وقوعه الحلول المناسبة مبكّراً، يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم ويضع الرجل المناسب في الواجب المناسب، يثق برجاله ويثقون به، ويحبهم ويحبونه،
ويثق بقيادته العليا وتثق به ويحبّها وتحبّه، يتمتّع بشخصية قوية نافذة لا تضعف ولا تستكين، ولكنها لا تظلم ولا تجور، له قابلية بدنية متميزة لأنه كان في ريعان الشباب وفي أوج عطائه، وله ماضٍ ناصع مجيد، فهو ابن موسى بن نصير فاتح شطر المغرب وشطر الأندلس، وهو أيضاً من القادة الفاتحين والولاة اللاّمعين.
وكان يطبق مبادئ القتال كافة بصورة تلقائية، فكان يختار مقصده ويديمه حتى يحقَّقه دون أن ينساه لحظة واحدة أو يتناساه، وكان قائداً تعرّضياً، لم يتّخذ الدفاع أسلوباً قتالياً له أبداً، وكان يباغت أعداءه في عملياته، كما باغتهم في صقلية وسردانية بالهجوم عليهم في وقت لا يتوقّعونه، كما باغت البربر الخارجين على الفاتحين بالهجوم الصاعق عليهم في وقت لا يتوقعونه أيضاً. وكان يحشد قوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويستخدمها في المكان والزمان الجازمين. ولكنه كان يقتصد بالمجهود، فلا يفرِّط برجاله دون مسوِّغ، ولا يغرِّر بهم، ويحرص على أرواحهم حرصه على روحه. وكان يطبّق مبدأ الأمن، فلا نعرف أن العدو استطاع مباغتة قواته في يوم من الأيام، وهذا دليل على أنه كان يؤمّن لقواته الحماية اللاّزمة، ويجمع المعلومات عن العدو بالتفصيل، ويعمل وهو مفتوح العينين. وكانت خططه مرنة، من ناحية سرعة تنقّل قواته برّاً وبحراً. ومن ناحية إمكان تبديلها أو تحويرها أو تطويرها في الوقت المناسب. وكان يتعاون مع قيادته تعاوناً وثيقاً، ويؤمّن التعاون بين صنوف قواته عامة وبين رجاله خاصة. وكان يديم معنويات رجاله، بالعقيدة الراسخة، والقيادة القادرة المتّزنة، والنصر المبين. وكانت أموره الإدارية جيدة، ولا نعلم أن رجاله شكوا من نقص أمر من أموره الإدارية كافة. كما كان مسئولاً عن إدامة قوات الفتح بالأندلس بالرجال والمواد الإدارية والسفن والمراكب، لأنه المسئول الإداري في قاعدة المسلمين الرئيسة: إفريقية والمغرب.
وكان يطبق مبدأ: المساواة، بينه وبين رجاله، فيعيش بينهم كفرد منهم، لا
فرق بينه وبينهم في شىءٍ يميّزه عنهم، ولا يمكن أن ننسى موقفه من أحد الذين تولّوا إفريقية والمغرب بعد عزله، والذي أراد أن يتميّز حُرّاسه على سائر المسلمين بعلامات خاصة وشارات معيّنة، فاستنكر عبد الله هذا التمييز، وضحّى بحياته من أجل استنكاره، فإذا لم يكن هو الذي قاد حملة الاستنكار التي أدّت إلى قتل ذلك الوالي، فهو على الأقل كان من أبرز قادة تلك الحملة.
وكان يؤمن بمبدأ: الشورى، فيستشير ذوي الرأي من رجاله في كل مشكلة تصادفه، ويتعاون معهم في إيجاد الحل الناجع لها.
تلك هي مجمل مزايا عبد الله قائداً، ويبدو أن عبد الله شُغل في أيام والده بأمور إفريقية والمغرب الإدارية، فشغلته أمورها عن التفرّغ للفتح، وكان موضع ثقة أبيه موسى الكاملة، فلم يستطع أبوه موسى أن يوكل أمر إفريقية والمغرب إلى غيره، فوجّه طاقاته كلها في عمله والياً، وتفرع تقريباً تفرغاً كاملاً لهذا الواجب الإداري.
وفتوحه في البر والبحر، على أهميتها لحاضر إفريقية والمغرب ومستقبلها، إلاّ أنها كانت قليلة جداً بالنسبة لكفاياته القيادية، فهي ومضات ساطعة ولكنها متقطعة، أظهرت شيئاً من كفاياته القيادية ومزاياه، دون أن تُظهر تلك الكفايات والمزايا كاملة، في فتوحات كثيرة مستدامة، وفي انتصارات عديدة مؤزّرة.
ولم يكن وضعه النفسي مريحاً، بعد رحيل أبيه موسى إلى دمشق، وبعد أن انكشف أمر أبيه موسى في اضطهاده من الخلافة، وأن موسى وأبناءه أصبحوا من المغضوب عليهم من السلطة الحاكمة، وأصبحوا في ذمّة التاريخ، فجمّد طاقاته انتظاراً لمستقبل مجهول، لا يكون لصالحه على كل حال.
إن ظروف عبد الله، لم تُتِح له استغلال كفاياته قائداً كما ينبغي، وما كان ليستطيع غيره من القادة، في مثل ظروفه التي عاناها، في عهد أبيه موسى وبعد رحيل أبيه، أن يُنجز أفضل مما أنجزه عبد الله في مجال الفتوح، فقد أصبح رغم إرادته والياً، وكان يتمنّى أن يكون غازياً، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
ومهما قيل في ظروفه التي شغلته حيناً، وأقلقته حيناً، وصرفته عن العمل