الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خصبها ونعماؤها. ولما أخذت قواعد الأندلس الشرقية والوسطى تسقط تباعاً في أيدي النصارى، هرع إلى القواعد والثغور الجنوبية كثير من الأسر المسلمة الكريمة، التي آثرت الهجرة إلى أرض الإسلام، على التدجّن والبقاء تحت سلطان النصارى. على أنه بقيت في القواعد والثغور التي احتلتها النصارى من الأسر المسلمة التي حملتهم ظروف الأسرة ودواعي العيش على البقاء في الوطن القديم تحت حكم الإسبان النصارى، وأولئك هم المدجنون (1)(بالإسبانية Mudejares) أو أهل الدجن. وقد شاع استعمال هذا اللفظ منذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، أو بعبارة أخرى منذ كثر استيلاء النصارى على بلاد المسلمين، وكثر عدد الرعايا المسلمين الذين تضمّهم إسبانيا النصرانية.
3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية
.
ولهذا المجتمع الإسلامي الإسباني من المدجنين تاريخ طويل مؤثر، فقد لبث المدجنون عصراً يتمتعون في ظل ملوك قشتالة وأراغون، بنوع من الطمأنينة والرخاء والأمن، فكان يسمح لهم بالاحتفاظ بدينهم وشريعتهم ومساجدهم ومدارسهم، وكان لهم في العصور الأولى قضاة منهم يحكمون في سائر المنازعات التي تقع فيما بينهم وفقاً للشريعة الإسلامية. أما المنازعات التي تقع بين مسلم ونصراني، فكان ينظرها أحياناً قاضٍ نصراني، أو تنظرها محكمة مختلطة من قضاة من المذهبين. وكان من امتيازاتهم ألَاّ يدفعوا من الضرائب غير ما كانوا يؤدونه من قبل لملوكهم، ثم ترك هذا الامتياز بمضي الزمن. وأصدر الفونسو العاشر في سنة 1254 م لسكان إشبيلية امتيازاً يخولهم حق شراء الأرض من المسلمين في منطقتهم، مما يدل على أنه
(1) من دجن وتدجّن: أي أقام، ومصدره الدجن أو التدجّن، ومنه دواجن البيوت، وهي طيور وحيوانات أليفة مقيمة.
سمح للمسلمين بالاحتفاظ بأراضيهم، وكان لهم حق البيع والشراء في العقارات. فلما تطورت الحوادث، وغلبت النزعة الرجعية على المتغلبين النصارى في أواخر القرن الثالث عشر، صدر قانون يحرم على المسلمين شراء الأراضي من النصارى، ولكن ترك هذا القانون فيما بعد. وكان يسمع للمدجنين أيضاً بحمل السلاح، ويلزمون بتأدية الخدمة العسكرية، ويعتبر الإعفاء منها امتيازاً خاصاً. ثم أعفِي المدجنون بعد ذلك من الخدمة العسكرية نظير جزية سنوية يؤدونها، وكان انضمامهم إلى الجيوش النصرانية يقع في حدود نسبتهم العددية. ولما توالى استيلاء الإسبان على القواعد والثغور الأندلسية، كان يُخصَّص للمدجنين في كل مدينة مفتوحة حيّ خاص لإقامتهم، يفصل بينه وبين أحياء النصارى سور ضخم (1).
وتوجد وثائق عربية في كتدرائية سرقسطة تلقي ضوءاً على تاريخ المدجنين وأحوالهم في مملكة أراغون منذ القرن العاشر الميلادي إلى القرن الخامس عشر، وهي عبارة عن طائفة من عقود البيع والشراء والوديعة وغيرها التي عقدت بين أفراد من المدجنين وبين المدجنين والنصارى. ويستفاد من تلاوتها أن المدجنين في مملكة أراغون كانوا حتى سنة 1492 م، إلى هذا العصر المتأخر، حتى بعد سقوط غرناطة في يد الإسبان، يحتفظون بدينهم الإسلامي، وأنه كانت ما تزال ثمة بعض مساجد قائمة في بعض أنحاء ولاية سرقسطة (2).
وكانت مسألة التدجين هذه، وبقاء المسلمين في البلاد التي يستولي عليها النصارى، تثير كثيراً من المسائل الفقهية، وكان بعض الفقهاء يرمي أولئك المدجنين بالمروق عن الإسلام لبقائهم تحت حكم النصارى. على أن هذه الاعتبارات الدينية لم تحل دون بقاء طوائف كبيرة من المسلمين في الأراضي التي يقتطعها النصارى تباعاً من الوطن الأندلسي، وكانت الاعتبارات
(1) Dr. H. Ch. Lea: History of the Inquisition in Spain، v.pp. 62-64
(2)
انظر نماذج من هذه الوثائق في: نهاية الأندلس (49 - 52).
الدنيوية، وظروف الأسرة، ودواعي العيش، تغلب على كلّ الاعتبارات الأخرى، وكان تسامح النصارى في البداية، وتركهم رعاياهم المسلمين، يتمتعون بتطبيق شريعتهم وأحكام دينهم فيما بينهم - كما ذكرنا - يخفف عن أولئك المدجّنين مرارة الانسلاخ عن مجتمعهم القديم، والانتماء إلى المجتمع النصراني. ولكن هذا الوضع أخذ يتبدّل منذ اتّسع نطاق التوسع النصراني في الأندلس، وزاد بذلك عدد المدجنين في مختلف المناطق الإسبانية المستولى عليها، وكانت الكنائس تبغض هذه الطوائف الإسلامية القائمة في قلب المجتمع النصراني، وتنقم على المدجنين هذه الدعة وهذا التسامح، وترى في احتفاظهم بدينهم ولغتهم نوعاً من التحدي المذموم، وتأخذ على ملوك قشتالة وأراغون تسامحهم في معاملتهم، وتسعى جاهدة لتحريضهم على اتباع سياسة الانتقام والعنف، إزاء أولئك الرعايا المسالمين. ومنذ أوائل القرن الثالث عشر تتوالى أوامر البابوية وقراراتها ضد المدجّنين، والحث على استرقاقهم أو تنصيرهم، ومن ذلك ما أمر به البابا أنُسنت الرابع في سنة 1248 م، ملك أراغون خايمي الأول، من وجوب استرقاق المسلمين في الجزائر الشرقية، ولكن خايمي لم يأبه بذلك الأمر. ولما استولى النصارى على ثغر بلنسية في سنة 1238 م، سمح للمسلمين أن يبقوا فيه كمدجّنين. وكان ملوك قشتالة وأراغون يعارضون هذه السياسة العنيفة، لبواعث وأسباب تتعلق بمصالحهم القومية ورخاء بلادهم، لأن المدجنين كانوا بين رعاياهم أفضل العناصر بين رعاياهم وأنشطها وأكثرها دأباً ومثابرة وأوفرها تأدية للضرائب، وكانوا الساعد الأيمن للنبلاء في زراعة أراضيهم واستغلالها، وكانوا يستأثرون بالتفوّق في العلوم والفنون والمهن، وكانوا أبرع الأطباء والمهندسين والبنائين، وكان لهم الفضل الأول في إدخال محاصيل عديدة في إسبانيا النصرانية، مثل القصب والقطن والأرز والتين والبرتقال واللّوز وغيرها، ومازالت مشاريع الرّي التي أنشأوها، ولاسيما في مناطق إسبانيا الشرقية والشمالية الشرقية، تشهد بعبقريتهم في هذا المضمار. وهم الذين
وضعوا أسس الصناعة الإسبانية، وكانوا أساتذة الصناعات الدقيقة، وكانت صناعاتهم، ولاسيما المنسوجات القطنية والحريرية، والفخار والخزف والجلود، نماذج بارعة تحذو حذوها الصناعة الأوروبية، فلم يك ثمة أشهر من خزف مالقة، ولا أقمشة مرسية، ولا حرير ألمرية وغرناطة، ولا أسلحة طليطلة، ولا منتجات قرطبة الجلدية، وكانت بلنسية التي تضم كتلة كبيرة من المدجنين، تعتبر من أغنى ثغور أوروبا بما تنتجه من السكر والنبيذ وغيرها من المنتجات العديدة. وكان المدجنون مثال النشاط والدأب، يزاولون التجارة بنجاح وشرف، وكانوا أفضل التجار وأوفرهم أمانة ونزاهة. ولم يكن بينهم متسولون، إذ كانوا يعولون فقراءهم، وكانوا مثلاً للنظام والسكينة، يحسمون منازعاتهم بأنفسهم، وعلى الجملة، فقد كانوا يؤلِّفون أصلح السكان الذين يمكن أن تحتويهم أي البلاد (1).
وقد لبث ملوك قشتالة عصوراً يحرصون على الانتفاع بنشاط المدجنين وحمايتهم، ونستطيع أن نقول على ضوء الوثائق التي سبقت الإشارة إليها، إنه كانت ثمة طوائف كبيرة منهم حتى القرن الخامس عشر الميلادي، تعيش في أنحاء كثيرة من إسبانيا النصرانية محتفظة بدينها ولغتها وتقاليدها، وكانت البابوية تسير على خطتها من التحريض عليهم والمطالبة بتجريدهم من دينهم، والعمل على تنصيرهم بطريق الاضطهاد والعنف، وتردّد الكنيسة الإسبانية من جانبها هذا التحريض. ولكن هذه السياسة الباغية لم تحدث أثرها إلاّ ببطء، ولم يتسع نطاقها إلاّ في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي عندما أشرفت الدولة الإسلامية في غرناطة على نهايتها. وكان قيام مملكة غرناطة في ذاته، عنصراً من عناصر تكييف السياسة الإسبانية إزاء المدجنين، ذلك أن ملوك إسبانيا فوق ما كان يحدوهم من رغبة في المحافظة على مصالحهم وسكينة بلادهم بإيثار الرفق في معاملة المدجين، كانوا أيضاً يخشون سياسة الانتقام
(1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain ، v.pp. 66-67 - Dr Lea: The Moriscos of Spain. P.57
من النصارى المقيمين في غرناطة. وفيما وراء البحر في بلاد المغرب، بل في الممالك الإسلامية الأخرى مثل مصر وتركيا وأرض الشام والجزيرة والعراق. على أن العوامل الاجتماعية والمحلية من جهة أخرى، كانت تحدث أثرها في مجتمع المدجنين. ذلك أنه بالرغم من جميع الفوارق التي كانت تفصل بينهم وبين النصارى، فقد جنح الكثير منهم إلى التشبه بجيرانهم، وانتهوا بمضي الزمن وأثر الاختلاط والتزاوج إلى فقد دينهم ولغتهم، ومميزاتهم الجنسية والقومية، والاندماج شيئاً فشيئاً في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهكذا أصبحوا بالتدريج قشتاليين ونصارى، وأضحى علماؤهم يكتبون كتب الدين والشريعة بالقشتالية للرجوع إليها. وقام أيضاً بين المدجنين أدب قشتالي استمر عصوراً حتى بعد إخراج العرب المتنصرين من إسبانيا (1). على أن المدجنين لبثوا بالرغم من هذا الاندماج الاجتماعي تطبعهم مسحة خاصة تباعد بينهم وبين المجتمع النصراني القديم (2).
كان نظائر هؤلاء الأندلسيين المدجنين، جمهرة من النصارى الإسبان، يعيشون في القواعد والثغور الإسلامية، ويعرفون بالنصارى المعاهدين أو المستعربين ( Mozarabes) ، وقد لبثوا عصوراً يتمتعون في ظل الحكم الإسلامي بضروب الرعاية والتسامح. وكانت الحكومات الأندلسية حتى في أزهى عصورها، تحافظ على سياسة التسامح التي اتبعت إزاءهم منذ الفتح، وتعاملهم بالرفق وتحترم شعائرهم الدينية وتقاليدهم القومية، وتتجنب أيّة محاولة لإرغامهم على اعتناق الإسلام. وكان من ضروب هذه الرعاية، أن أُنشئ في ظل حكومة قرطبة منذ عهد الحكم بن هشام، ديوان خاص للنظر
(1) المقصود هنا أدب الألخمارو Aljamiado، وهو عبارة عن كتابة اللغة القشتالية المحرفة بحروف عربية مشكّلة، وكان العرب المتنصرون يضطرون إلى كتابة كتبهم الدينية بهذه اللغة بعد أن حرمت عليهم لغتهم العربية.
(2)
Dr Lea: History of the Inquisition، v. pp. 65
في شئون أهل الذمة (النصارى ويهود) يتولاه كبير من الأحبار النصارى يطلق عليه: (قومس أهل الذمة). وهكذا استطاعوا دائماً أن يحتفظوا بدينهم ولغتهم، ومميزاتهم القومية والاجتماعية. وكانت حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي، أفضل بكثير مما كانت عليه أيام القوط، وكثيراً ما كان يعهد إليهم بمناصب القيادة والوزارة، أو ينتظمون في البلاط والحرس الملكي. ومع ذلك فقد كانت منهم دائماً طوائف متعصبة تسيء استعمال هذا التسامح، وتحاول بمختلف الوسائل أن تكيد للإسلام ودولته، ومن ذلك ما حدث في عهد عبد الرحمن بن الحكم (أواسط القرن التاسع الميلادي) من الحوادث الدموية التي أثارها تعصب النصارى (1). وهكذا فإن النصارى المعاهدين، لم يشعروا دائماً بالولاء والإخلاص للدولة الإسلامية التي يعيشون في ظلها، والتي توليهم كثيراً من رعايتها ورفقها، وكانوا دائماً يتربّصون بها، وينتهزون الفرص لمناوأتها والكيد لها، ويستعدون عليها الوطن القديم، كلما اضطربت شئونها، وعصفت بها الثورة والحرب الأهلية. وكانت أعظم خيانة ارتكبوها من هذا النوع، في أواخر أيام المرابطين، حينما دعوا الفونسو الأول ملك أراغون - الملقب بالمحارب - عقب استيلائه على سرقسطة، إلى أن يسير إلى غزو الأندلس، بعد ما لاح من انحلال سلطان المرابطين فيها. واستجاب ملك أراغون لتحريضهم، وسار مخترقاً الأندلس بجيوشه، والنصارى والمعاهدون في كل قاعدة ينهضون إلى معاونته بوسائلهم، وذلك في سنة (519 هـ - 1125 م)، حتى انتهى إلى فحص غرناطة، وحاصرها حيناً، ثم غادرها إلى الجنوب، ونشب القتال بينه وبين المرابطين فهزمهم، ولبث حيناً يعبث في تلك الأنحاء، والنصارى المعاهدون يهرعون إلى شدّ أزره، ويمدّونه بالأقوات والمؤن. ثم عاد ثانية إلى الأندلس من أراغون، وقد انضم إلى جيشه آلاف من النصارى المعاهدين. ولفتت هذه
(1) محمد عبد الله عنّان - دولة الإسلام في الأندلس - ط2 (253 - 261).
الغزوة أنظار المسلمين إلى خطر بقاء أولئك المعاهدين في الثغور والقواعد الأندلسية، فانقلبت الحكومة الإسلامية إلى مطاردتهم، وأفتى القاضي أبو الوليد بن رشد (الجَدَّ) بإدانتهم في نقض العهد والخروج على الذمة، ووجوب تغريبهم وإجلائهم عن الأندلس، وأخذ أمير المرابطين علي بن تاشفين بهذه الفتوى، وغُرِّبَت ألوف من النصارى المعاهدين إلى إفريقية، وفُرِّقوا هناك إلى أماكن مختلفة، وهلك الكثير منهم بسبب الطقس وتغير وسائل التغذية، وضم السلطان كثيراً منهم إلى حرسه الخاص، وكانت هذه المحنة سبباً في تمزيق عصبتهم وإضعاف شوكتهم (1).
وقد كان مجتمع المستعربين أو النصارى المعاهدين حتى في القواعد الأندلسية التي سقطت بيد إسبانيا النصرانية، وبسط عليها النصارى حكمهم، يتأثرون بمجتمع المدجنين وبأحواله وتقاليده، حتى أنهم كانوا يتخذون اللغة العربية لغة التعامل ولغة التخاطب أحياناً إلى جانب لسانهم القومي.
على أن الكثرة الغالبة من المسلمين في القواعد الأندلسية الذاهبة، كانت تؤثر الالتجاء إلى أرض الإسلام والتشبث بلواء الدولة الإسلامية. وهكذا أخذت غرناطة تموج منذ أواسط القرن السابع الهجري بسيول الوافدين عليها من بلنسية ومرسية وقرطبة وإشبيلية وجيّان وبيّاسة وغيرها، وهكذا غدت مملكة غرناطة الصغيرة تضيق بسكانها المسلمين، بعد أن احتشدت بقايا الأمة الأندلسية المتداعية في تلك المنطقة الضيقة. ومن المرجّح أن مملكة غرناطة كانت تضمُّ في عصورها الأخيرة، زهاء خمسة أو ستة ملايين من الأنفس، وكانت غرناطة وحدها تضم أكثر من مليون نفس.
(1) أنظر الإحاطة (1/ 115 - 120) والحلل الموشية (70 و 81) وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ (155 و 157).