المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

الأندلس أعظم محنها في تلك المدة العصيبة، ولاح لإسبانيا النصرانية أن حرب الاسترداد القومية لن تلبث حتى تتوّج في أعوام قلائل أخرى، بالقضاء على ما بقي من تراث الإسلام في الأندلس.

ولكن شاء القدر أن تتمخّض هذه المحنة التي اجتاحت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري، عن قيام دولة إسلامية جديدة، هي مملكة غرناطة، تتمتع بالرغم من صغرها بكثير من عوامل الفتوة والحيوية، وفي الوقت الذي خُيِّل فيه لإسبانيا النصرانية أنها أضحت على وشك الإجهاز على المملكة الإسلامية، كانت بذور صراع طويل الأمد تنمو وتتوطد. وإذا بالنهاية المرجوّة تستحيل إلى بداية جديدة. ولقد استطالت هذه المرحلة الأخيرة في حرب الاسترداد زهاء مائتين وخمسين عاماً، ثبتت فيه المملكة الإسلامية في غرناطة لهجمات إسبانيا النصرانية المستمرة، وعملت على استغلال كل فرصة للمطاولة والمقاومة، وأبدت في الجهاد على صغر رقعتها وضآلة مواردها، بسالة عجيبة. وكانت كلما شعرت بالخطر الداهم يكاد ينقضّ عليها ويودي بحياتها، استغاثت بجارتها المسلمة من وراء البحر، أو عصفت بإسبانيا النصرانية ريح الخلاف والتفرّق، فشغلتها عن إرهاق المملكة الإسلامية حيناً من الوقت، حتى شاء القدر بعد طول الجهاد، أن تنتهي هذه المعركة القاسية الطويلة، إلى نهايتها المحتومة، وأن تنهار المملكة الإسلامية الصغيرة تحت ضغط القوة القاهرة، وأن تختتم حياتها المجيدة أبيَّة كريمة.

‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

استمر هذا الصراع قروناً بين الأمة الأندلسية، وبين إسبانيا النصرانية، وكانت العوامل القومية والدينية تمتزج بأدوار هذا الصراع في معظم أطواره، وكانت تشتد وتخبو حيناً تبعاً لتطور الحوادث. ولما فتح المسلمون إسبانيا، وسيطرت الدولة الإسلامية على معظم أنحائها، قامت المملكة الإسبانية

ص: 127

النصرانية الناشئة في قاصية الشمال، ترقب الفرص للتوطد والتوسع. بيد أنها لم تجرؤ على تحدي المملكة الإسلامية، والنزول إلى ميدان الحرب قبل أواخر القرن التاسع الميلادي، ففي ذلك الوقت اضطرمت الأندلس بالفتن والثورات الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثوار، وكانت غزوات النصارى للأرض الإسلامية يومئذ، غزوات يغلب عليها حبّ الانتقام وجمع الغنائم والأسلاب، ولم يكن يطبعها شيء من تلك الروح الدينية العميقة، التي جمعت أوروبا النصرانية تحت لواء شارل مارتل لمحاربة العرب على ضفاف اللّوار، والتي حفَّزت شارلمان فيما بعد إلى عبور جبال البرنية وغزو الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل. غير أنه لما اشتد ساعد الأندلس في أيام عبد الرحمن الناصر (أواخر القرن العاشر الميلادي) وظهرت المملكة الإسلامية في أوج قوتها وظفرها، ونفذت الجيوش الإسلامية غير مرة إلى أعماق المملكة النصرانية، وشعر النصارى بالخطر الداهم على كيانهم، أخذت العوامل الدينية والقومية تستيقظ من سباتها، واتخذت المملكتان النصرانيتان: ليون ونافار على مقاومة الخطر الإسلامي. وكانت المعارك التي نشبت في تلك المدّة في عهد أردونيو الثاني وولده راميرو بين المسلمين والنصارى، تحدوها من الجانبين - فوق نزعتها القومية - نزعة دينية واضحة، فكانت غزوات المسلمين تحمل طابع الجهاد، ويهرع أهل الثغور إلى مرافقة الجيش لمقاتلة النصارى، وكان يرافق الجند النصارى إلى القتال جموع غفيرة من الأحبار ورجال الدين، يسقطون إلى جانب الفرسان في ساحة الوغى. وكانت هذه الصبغة القومية الدينية تبدو كلما اشتد الخطر من الجنوب على إسبانيا النصرانية. ففي أواخر القرن العاشر، في عهد الحاجب المنصور، حينما اشتدت وطأة الأندلس على إسبانيا النصرانية، وغزا المسلمون أقصى وأمنع معاقلها الشمالية، اتحدت الممالك النصرانية الثلاثة: ليون، وقشتالة ونافار ضد المسلمين في جبهة دفاعية موحّدة، وبدت كذلك موحّدة الرأي والقوى، حينما عبرت جموع البربر إلى الأندلس تحت لواء المرابطين، لتنقذ

ص: 128

الأندلس من خطر الفناء الذي كان يهدِّدها، من جرّاء تفرّق ملوك الطوائف. وكانت معركة الزلاقة تحمل في نظر المسلمين طابع الجهاد في سبيل الله، وتطبعها في نظر النصارى صبغة صليبية واضحة، ولم تكن نصراً للأندلس على إسبانيا فقط، بل كانت نصراً على النصرانية أيضاً. وكذلك كان نصر المسلمين أيام الموحِّدين في موقعة الأرك، ثم هزيمتهم بعد ذلك في موقعة العقاب، يحمل كلاهما من الجانبين هذا المعنى الديني العميق. ويجب أن نذكر أن الحروب الصليبية بدأت في المشرق بعد معركة الزلاّقة بقليل واستمرت تضطرم بين المسلمين والنصارى في مصر والشام زهاء قرنين. وبلغت ذروتها أيام الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي معاصر السلطان يعقوب المنصور الظافر في معركة الأرك. ولم يكن شك في أن النزعة الصليبية التي دفعت بجحافل الغرب إلى الشرق الإسلامي، كانت تحدث صداها قوياً في إسبانيا النصرانية وفي الغرب الإسلامي. وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الصليبيين تحاول أن تغزو مصر حصن الإسلام في المشرق أوائل القرن السابع الهجري، كانت قواعد الأندلس الكبيرة تسقط في أيدي النصارى، وكانت إسبانيا النصرانية تبدو يومئذٍ إزاء الأندلس موحّدة الرأي والقوى، كما كانت الجيوش الصليبية الأوروبية تسير إلى الشرق متحدة لتحقيق الغرض المنشود.

وقد ظهر صدى النزعة الصليبية في إسبانيا على شكل آخر، هو قيام الجماعات الدينية المحاربة. ونعرف أن جماعات الفرسان الدينية قامت في الشرق في ظل الصليبيين، واشتهر منهم بالأخص جماعة فرسان المعبد أو "الداويّة"، كما تسميهم الرواية العربية، وفرسان القديس يوحنا أو الأسبتارية. وكانت هذه الجماعات الدينية المحاربة، تشدّ أزر الأمراء النصارى وتؤدي للصليبيين أثناء السلم والحرب خدمات جليلة. وكما أن قيامها في المشرق كان أثراً من آثار المعارك الصليبية، فكذلك كان قيامها في إسبانيا كان أثراً من آثار الصراع بين النصرانية وبين الأندلس المسلمة، ذلك أن

ص: 129

بعض الفرسان والرهبان الورعين المتحمسين، كان يحزنهم تفرّق الملوك النصارى وتخاذلهم أحياناً في مقاتلة المسلمين، وكانوا يرون أنه لابدّ من قيام جماعات غيورة مخلصة من الفرسان، تنذر نفسها للدفاع عن الدين وعن الأراضي النصرانية. وكانت قدوتهم في ذلك جماعات المسلمين من أهل الثغور المرابطة، فقد كانت هذه الجماعات المجاهدة التي ترابط عند حدود الأراضي الإسلامية، تبدي في محاربة النصارى بسالة منقطعة النظير، وتؤدي للجيوش الإسلامية أجلّ الخدمات. فلما أنشئت جماعة فرسان المعبد (الداوية) في بيت المقدس سنة (1119 م) عقب قيام المملكة اللاتينية بقليل، كان لقيامها صدى عظيم في إسبانيا، ولم تمض أعوام قلائل، حتى قامت أول جمعية دينية محاربة في أراغون على عهد الفونسو المحارب، في صورة فرع لجماعة فرسان المعبد، وأبدى الفونسو في تأييدها حماسة، وانتظم في سلكها الكونت ريموند برنجار أمير برشلونة، وأقطعت عدة حصون وأراض شاسعة على حدود أراغون، كما احتلت عدداً من الحصون في قشتالة، ونمت بسرعة، وأخذت تضطلع في ذلك الحين بدور مهم في سائر المواقع التي تنشب بين النصارى والمسلمين.

وقامت في قشتالة بعد ذلك بقليل، أعظم الجمعيات الدينية المحاربة، ففي أواخر عصر القيصر الفونسو ريموند (1) ملك قشتالة، قامت حوالي سنة (1150 م) جمعية فرسان دينية قوية في بعض أديار سُلنقة، وسميت بجمعية القديس يليان، ثم سميت بعد ذلك بجمعية فرسان القنطرة. وفي سنة (1158 م) قامت جمعية دينية محاربة أخرى، ربما كانت أشهر وأقوى جماعات الفرسان التي ظهرت في إسبانيا في هذا العصر، وهي (جمعية فرسان قلعة رباح)، ونشأت لأول أمرها على يد جماعة من الرهبان الذين أبلوا في الدفاع عن تلك القلعة الحصينة ضد المسلمين، واتخذت قلعة رباح مركزاً

(1) Alfonso Raimundez، وتعرفه الرواية الإسلامية باسم أدفنش بن رجند أو السُّليطين.

ص: 130

لها. وقامت أيضاً في البرتغال عدة فروع لفرسان المعبد (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الأسبتارية). وظهرت هذه الجمعيات الدينية المحاربة ولا سيما فرسان القنطرة وفرسان قلعة رباح في كثير من المعارك التي نشبت في تلك العصور بين المسلمين والنصارى، وكان تدخلهم في كثير من الأحيان من عوامل النصر والإنقاذ للجيوش النصرانية. بيد أنهم بالرغم من صفتهم الدينية والصليبية، كانت تحدوهم بواعث وأطماع دنيوية، وكان ظمأ الكسب واجتناء المغانم روحهم المسيِّرة، وكانوا يسيطرون على قلاع كثيرة وأراضٍ واسعة، ويعيشون في بذخ وترف، بما يحصلون عليه من الإقطاعات والهبات والنذور الوفيرة، وكان تدخلهم في شئون السياسة والعرش يشتدّ أحياناً ويفضي إلى أحداث وتطورات خطيرة.

كانت إسبانيا النصرانية حين بدأت حرب الإسترداد الحقيقية في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، عقب سقوط القواعد الأندلسية الكبيرة، تجيش إلى جانب نزعتها القومية بهذه النزعة الصليبية الواضحة، على أنه يمكن القول إن ظهور هذه النزعة الدينية العميقة في حروب إسبانيا النصرانية على المسلمين، لم يكن ملحوظاً بصورة واضحة حينما كان التفوق في القوة للأندلس المسلمة أيام الدولة الأموية، وحينما كان ثمة نوع من التوازن في القوى السياسية والعسكرية بين الأندلس المسلمة وإسبانيا النصرانية أيام المرابطين والموحِّدين. وتدل حوادث التاريخ الأندلسي حتى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، على أن التعصّب القومي والديني لم يكن دائماً ظاهرة بارزة بين النصارى والمسلمين، فقد كان الفريقان المتحاربان يحترم بعضهم بعضاً، وكان التعصّب الديني قاصراً على جماعات القساوسة والأحبار، لأن المسلمين كانوا متسامحين للغاية مع المسيحيين، حتى وُصِف المسلمون بالأناشيد الإسبانية القديمة بأنهم خصوم شرفاء، ولا يجيش النصارى نحوهم ببغض، لأنهم وجدوهم أفضل معاملة من القوط وأعدل حكماً وأكثر تسامحاً وأقل ضرائب مفروضة على النصارى. يقول دوزي: (إن الفارس الإسباني في

ص: 131

العصور الوسطى، لم يكن يحارب من أجل دينه أو وطنه، بل كان مثل (السيد) يحارب لكسب عيشه سواء في ظل أمير مسلم أو أمير نصراني. ولقد كان (السيد) نفسه أقرب إلى روح المسلم منه إلى الكاثوليكي (1)، وفي حياة (السيد) الكمبيدور (الكنبيطور)(2) نفسه أوضح مثل لاتجاهات الفروسية الإسبانية في تلك العصور، فقد نشأ (السيد) وظهر في كنف أمير مسلم، وتقلّب في خدمة الأمراء المسلمين والنصارى على السواء، بل لقد خدم الأمراء المسلمين أكثر مما خدم الأمراء النصارى، ولو لم يمت وهو في خدمة الجانب النصراني، لما حفلت به الأساطير الإسبانية، ورفعته إلى مرتبة البطل القومي (3)، وفي أحيانٍ كثيرة، نرى المرتزقة من الفرسان والجند النصارى يعملون في الجيوش الإسلامية. وفي مواطن عديدة من تاريخ إسبانيا النصرانية، نرى الملوك والأمراء النصارى خلال الحروب الأهلية يلوذون بحماية الأمراء المسلمين، فقد لجأ سانشو ملك ليون إلى حماية عبد الرحمن الناصر حينما استأثر أخوه أردونيو بالملك دونه، ولجأ الفونسو السادس ملك قشتالة إلى حماية المأمون بن ذي النون أمير طليطلة حينما تغلّب عليه أخوه سانشو الثاني وعاش في بلاطه حتى توفي أخوه، فلما ارتقى عرش قشتالة

(1) Dozy: Recherches sur l'Histoire de Litterature de l'Espagne Pendant le Moyenage; v. 11. p. 2.3 & 233.

(2)

وبالإسبانية ( El Cid Campeador) ومعناها: السيد الباسل جداً.

(3)

يختلف التفكير الغربي في تقديره للسيد الكمبيدور ومنزلته من البطولة، فيرى دوزي في كتابه ( Le Cid) أنّه ليس سوى جندي مغامر يجمع في شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله. ويجاريه في هذا الرأي معاصره الفرنسي رينان، ويقول:"إنّه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الأسطورة إلى حيّز التاريخ كما فقد السيد". ولكن الإسباني منندث بيدال يخالف هذا الرأي، ويبالغ في تقديره للسيد ويقول:"إنّ الشعر والتاريخ يتفقان في شأنه، وأنّه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً في ظلّ التاريخ ". La Espana del Cid; vol. 11. p. 594. R.M. Pidal.: وهكذا فقد دأب المؤلفون الإسبان على الانحياز المطلق، بل التعصب لكل ما هو إسبانيّ.

ص: 132

كان أعظم مشاريعه أن ينتزع طليطلة من يد القادر بن ذي النون ولد المحسن إليه. وفي سنة 990 م قدّم برمودو (برمند) الثاني أخته زوجة لحاكم طليطلة المسلم. ولم يكن زواج الأمراء المسلمين من الأميرات والعقائل النصارى أمراً نادراً، وربما كان تاريخ بلنسية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي أسطع مثل لهذا الامتزاج والتفاهم بين الفريقين المتحاربين. ولم يحجم أمراء المرابطين في الأندلس حينما انهارت دولتهم في إفريقية وبدأ الموحِّدون في انتزاع الأندلس من أيديهم، عن الاستعانة بالفونسو ريموند ملك قشتالة وحليفه غرسية ملك نافار على محاربة الموحِّدين. ولم ينقطع هذا التعاون بين المسلمين والنصارى، حتى بعد أن بدأت مرحلة الاسترداد الأخيرة، فقد كان محمد بن الأحمر في بداية أمره ينضوي كما ذكرنا تحت حماية ملك قشتالة. ونجد من الجانب الآخر أمراء النصارى يلوذون من وقت إلى آخر بحماية المسلمين، حتى في ذلك الوقت الذي تضاءلت فيه المملكة الإسلامية. فنرى الإنفانت فيليب حينما ثار على أخيه الفونسو العاشر، يلتجئ مع جماعة من النبلاء إلى حماية أبي يوسف المنصور ملك المغرب، ويستقر ضيفاً على بلاط غرناطة، حتى انتهى ملك قشتالة إلى مصالحتهم واسترضائهم (1218 م)، وفي سنة (1282 م) اضطر الفونسو العاشر نفسه حينما ثار عليه ولده سانشو، وانتزع منه العرش، إلى الاستعانة بالسلطان أبي يوسف، وأرسل إليه تاجه مقابل ما ينفقه على معاونته، فاستجاب إليه وأمده بالمال والجند، وفي سنة (1332 م) ثار حاكم الفرنتيرة النصراني ضدّ مليكه الفونسو الحادي عشر، وتحالف مع غرناطة وعاون بذلك في ردّ النصارى عن جبل طارق، وكانوا على وشك الاستيلاء عليه. ولما نشبت الثورة ضد ولده بَدرو القاسي (دون بطره) ونزع عن عرشه، ونشبت بينه وبين خصومه موقعة مونتيل الفاصلة سنة (1367 م)، كان إلى جانبه فرقة من الفرسان المسلمين، أمدّه بها حليفه الغني بالله ملك غرناطة، وهكذا كان التعاون السياسي

ص: 133

والحربي يجري بين الفريقين من آونة إلى أخرى، حتى في تلك العصور التي مال فيها نجم الأندلس إلى الأفول، ولم تكن تحول دون عقده عوامل القومية والدين. وكانت العلاقات التجارية أيام السلم تجري بانتظام، وتنظّم بمعاهدات وديّة بين الفريقين، ومن ذلك معاهدة الصداقة والتحالف التي عقدها محمد بن يوسف ملك غرناطة مع مَرْتين ملك أراغون، لتنظيم العلاقات والمبادلات الحرّة، وتنظيم التحالف السياسي بين المملكتين (1).

ويجب ألاّ ننسى ما كان هناك من علاقات المودة والتفاهم بين جماعات الفرسان من الفريقين، وقد كانت الفروسية الإسبانية في العصور الوسطى، تقتبس كثيراً من تقاليد الفروسية الإسلامية وخلالها الرفيعة، وتنظر إليها بعين التقدير والاحترام. وكانت مباريات الفروسية تجمع بين أنبل الفرسان من الجانبين، وكانت كثيراً ما تعقد في العاصمة الإسلامية في جو من العطف والحماسة، ويهرع إلى شهودها ألوف من المسلمين والنصارى، وكانت هذه الاجتماعات المثالية التي تتسم بالبهجة والتي تجمع بين العنصرين الخصمين أبعد ما تكون عن الاعتبارات القومية والدينية، وقد كانت غرناطة التي اشتهرت بفروسيتها النبيلة البارعة، مسرحاً لكثير من هذه المباريات الشهيرة.

تلك هي الصورة المتباينة، التي تقدمها إلينا معركة السلطان والقوة، ومعركة الحياة والموت، والحرية والاستعباد، بين الأندلس المسلمة وإسبانيا النصرانية، ذلك أن بواعث الدين والقومية لم تكن دائماً كل شيء في هذا الصراع المضطرم الطويل. ومع ذلك كانت النزعة الدينية للمسلمين والصليبيين للنصارى، تبدو كلما لاح شبح الخطر الداهم على كيان أحد الفريقين، أو كلما اتخذ النزاع بين الفريقين صبغة حاسمة، ولما شعرت إسبانيا النصرانية أنها أضحت بعد الاستيلاء على القواعد الأندلسية الكبيرة، وتضاؤل المملكة الإسلامية، في مركز التفوق والغلبة، لم يكن ثمة ما يدعو

(1) Dr. Lea: History of the Inquisition; v. 1. p. 52-55.

ص: 134

لأن تتخذ حرب الإسترداد التي تلت بعد ذلك بين إسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة، ألواناً دينية أو قومية عميقة، ذلك لأنّ معركة السلطان قد بتّ فيها نهائياً بظفر إسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس مسألة وقت فقط. وكانت إسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجّل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية، أو ردّها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر، على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قوياً واضحاً، وما كادت حرب الإسترداد تدخل في طورها الأخير، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية في جهود إسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة، ولما اتحدت إسبانيا النصرانية نهائياً. وتمَّ اندماجها في مملكة موحّدة بزواج فرديناند ملك أراغون وإيزابيلا ملكة قشتالة، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لوناً صليبياً عميقاً، يذكيها ويزيد من ضرامها حماسة هذه المملكة المتعصبة، ومن حولها الأحبار المتعصبون، وأسبغ على فرديناند لقب (الكاثوليكي)، وعلى إيزابيلا لقب:(الكاثوليكية). وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة في (2 كانون الثاني - يناير - سنة 1492 م) أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب، وأقام الرهبان القداس داخل قصر الحمراء، ودفنت الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند في غرناطة، تنويهاً بظفرهما على الإسلام. وكانت سياسة إسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة، منذ إكراهها على التنصير في عصر فرديناند، حتى مأساة النفي النهائي في عصر فيليب الثالث، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة، يصوغها أحبار الكنيسة، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسي المروّع ووسائله الدموية، وعلى الجملة فقد كانت جهود إسبانيا النصرانية في القضاء على الأمة الأندلسية، تمثل منذ بدايتها مأساة من أروع وأشنع مآسي التعصب الديني والقومي التي عرفها ................................................

ص: 135