الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاستعاد فتحها موسى بن نصير سنة ثلاث وتسعين الهجريّة (712 م)، ثم استعاد فتحها من جديد عبد العزيز بن موسى بن نصير سنة أربع وتسعين الهجريّة (713 م) كما ذكرنا ذلك قبل قليل. وانتقاض القوط في إشبيلية وغيرها، وشدّة مقاومتهم في كثير من المدن والمواضع، دليل واضح على أن المسلمين الفاتحين لاقوا صعوبات عظيمة في فتح الأندلس، وليس كما يزعم بعض المؤرخين الغربيين بخاصة، أنّ فتحها كان نزهة من النزهات، لا مشقّة فيها ولا صعوبة، وكانت مغانم بدون مغارم!!
2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:
وجّه موسى بن نصير ابنيه عبد العزيز وعبد الأعلى إلى جنوبي وجنوب شرقى الأندلس، وكان هذا على الأغلب بعد استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة، لأنّ أسبقيّة أهداف موسى في عبوره إلى الأندلس، هي القضاء على مراكز المقاومة الرئيسية للقوط، خشية أن تنجح في قطع خطوط مواصلات قوّات طارق بن زياد، التي تغلغلت بالعمق، فأصبحت خطوط مواصلاتها مهددة بالقطع، وكانت مراكز المقاومة القوطية الرئيسية في إشبيلية وماردة. فلمّا نجح موسى في تحقيق هذا الهدف، ونجح في استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وبَاجَة، أصبح معنياً بتأمين جناح قوّات طارق بن زياد وقوّاته الأيمن، فوجّه لتحقيق هذا الهدف ولديه: عبد العزيز وعبد الأعلى.
ولم يوجّهها لتحقيق هذا الهدف قبل ذلك، كما تصوّر بعض المؤرخين الأجانب، وتابعهم بعض مؤرخي العرب والمسلمين، لأنّ موسى كان محتاجاً لقواته كافة للقضاء على المقاومة القوطية في إشبيلية ومارِدَة، وقد وجدنا ما عاناه موسى في استعادة فتح ماردة من عناء ووقت (1)، مما سوّغ له الاحتفاظ بكامل قوّاته، وبأولاده الذين هم من أخلص معاونيه ومن أقرب من
(1) الرازي (78) وأخبار مجموعة (16 - 18) وابن الأثير (4/ 564 - 565) والبيان المغرب (2/ 14 - 15) والنويري (22/ 28 - 29) ونفح الطيب (1/ 270 - 271) =
يشدّ أزره في الملمّات. فلما حقّق هذا الهدف، استطاع أن يوجِّه ابنه عبد العزيز أولاً، لاستعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجة، وهي من معارك استثمار الفوز، ثم وجّه عبد العزيز وعبد الأعلى وَلَديْه لتحقيق هدفه الثاني، وهو تأمين جناحه الأيمن وجناح قوّات طارق بن زياد الأيمن أيضاً.
واستطاع عبد الأعلى بالتعاون مع أخيه عبد العزيز، أن يستعيد فتح مالقة (1)( Malaga) وإِلْبِيْرَة (2)( Elvira) ثم توجّه عبد العزيز إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد، قد التقى بالقرب من أُورْيُوْلَة (3)( Orihuela) بالدوق تُدْمِيْر ( Theodemir) حاكم هذه المقاطعة، وكان هذا الرجل ذا خبرة عظيمة وتقدير صائب للأمور، قاوم مدة هجوم المسلمين بقيادة طارق بن زياد، ولكنّه أخفق في صدّ المسلمين، ففتحوا مقاطعته وكبدوه خسائر فادحة بالأرواح والممتلكات، فتوصّل أخيراً إلى عقد معاهدة صلح بينه وبين المسلمين في شهر رجب من سنة أربع وتسعين الهجرية (4)(نيسان - أبريل - 713 م)، وبموجب هذه المعاهدة، التي ذكر تفاصيلها المؤرخون العرب والمسلمون وغيرهم، حصل تدمير على شروط مناسبة جداً للصلح، فقد اعتُرف به حاكماً على سبعة مدن تقع ضمن منطقته، وهي: أُورْيُوْلَة، وبَلانَة (5)( Villena) ، ولَقَنْت (6) Alicante)) ،..............................................
(1) مالقة: مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (ريّة)، سورها على ساحل البحر، بين الجزيرة الخضراء والمريّة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 397).
(2)
إلبيرة: كورة كبيرة بالأندلس واسم مدينة أيضاً، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 322) و (2/ 320).
(3)
أُوْرْيُوْلَة: مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تدمير، بساتينها متصلة ببساتين مرسية، أنظر معجم البلدان (1/ 373).
(4)
أخبار مجموعة (12 - 13).
(5)
بلانة: إحدى مدن كورة تدمير بالأندلس، التي تتصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقي قرطبة، أنظر التفاصيل فى معجم البلدان (2/ 371 - 372).
(6)
لقنت: حصنان من أعمال لاردة بالأندلس: لقنت الكبرى، ولقنت الصغرى، وكلّ واحدة تنظر إلى صاحبتها، أنظر معجم البلدان (7/ 336).
ومُوْلَة (1)( Mula) ، وبسْقَرة (2)( Bigastro) وإلة (3)( Ello) ، ولُوْرَقَة (4)( Lorca) ، كما احتفظ بإدارته الداخلية لهذه المدن، على شرط أن يدفع جزية سنوية تقدّر بدينار ذهبي واحد، لكلّ فرد من أفراد منطقته، أما العبيد فتؤخذ عنهم نصف هذه الكمية. وقد وافق تدمير على تقديم كميات معيّنة من القمح والشعير، والخل والعسل والزيت على كلّ فرد حرّ من أفراد منطقته ونصفها على العبيد، كما وافق ألاّ يقوم أحد من رعيته بتجاهل هذه المعاهدة أو الإخلال بشروطها، وألاّ يأووا للمسلمين آبِقاً (2)، ولا عدوّاً، ولا يكتموا عنهم خبراً يتعلق بأعدائهم، وبالمقابل فإنّهم لن يُقتلوا، ولن يُسْبَوا، أو يجردوا من ممتلكاتهم، أو يُفرّق بينهم وبين أولادهم ونسائهم، ويُسمح لهم بممارسة شعائرهم الدّينية بحريّة، ولن تُحرق كنائسهم (6).
وبعد استقرار الأمور في المنطقة الجنوبية الشرقيّة من شبه جزيرة الأندلس، عاد عبد العزيز إلى إشبيلية.
وقد توقف قسم من المؤرخين الأجانب عند معاهدة عبد العزيز وتدمير، وناقشوا تلك المعاهدة مناقشة مَن لا يعرف حقيقة تعاليم الإسلام في القتال، وهي: الإسلام، أو الجِزية، أو القتال.
وهذه التعاليم تقضي، بأنّه إذا أراد المسلمون غزو بلد من البلدان، وجب
(1) مولة: إحدى مدن كورة تدمير، أنظر معجم البلدان (2/ 371 - 372) وجغرافية الأندلس وأوروبا (127 و 128 و 129).
(2)
بسقرة أو بسكرة: إحدى مدن كورة تدمير، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372).
(3)
إلة: يبدو أنّها إحدى مدن كورة تدمير، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372).
(4)
لورقة: مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، وبها حصن ومعقل محكم، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 342).
(5)
آبِق: هارب. وأبَقَ: هرب، فهو آبِق وأبوق.
(6)
أنظر التفاصيل في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (523 - 533) ط2 - بيروت - 1393 هـ.
عليهم أولاً وقبل كلّ شيء، أن يدعو أهله إلى الإسلام، فإن أسلموا كانوا هم وسائر المسلمين سواء، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم؛ وإن لم يُسلموا دَعَوْهم أن يسلِّموا بلادهم للمسلمين، يحكمونها، ويبقى أهل البلاد على دينهم إن شاءوا، على أن يدفعوا الجزية للمسلمين، فإن قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكانوا في ذمّة المسلمين يحمونهم ويدافعون عنهم؛ وإن لم يقبلوا الإسلام، ولا الدخول تحت حكمه ودفع الجزية، أُعلنت عليهم الحرب وقوتلوا (1).
تلك هي المبادئ التي تسيطر على تعاليم الإسلام في الفتح: الإسلام، الجزية، القتال، باتِّفاق الفقهاء، وبالتطبيق العملي في الفتوح الإسلامية في معارك الفتوح كافة.
ولكن الذين توقفوا عند هذه المعاهدة من المؤرخين الأجانب، فزعموا:"أنّ هذا النوع من المعاهدات المتساهلة، ربما يشير إلى أنّ سياسة موسى بن نُصير، كانت تهدف إلى خلق نوع من التعاون مع سكّان البلاد في إدارتها بعد الفتح، وهذه السياسة ستمكنه من أن يضع حامية صغيرة في كلّ مدينة مهمة، ويترك إدارة شئونها الداخليّة كما كانت من قبل دون تدخّل في النظام الإداري للبلاد، وربما كان الدافع إلى ذلك، هو ظروف موسى وقلة مَن معه من رجال القبائل العرب الذين كان عددهم لا يكفي للهيمنة على كلّ الأندلس وإدارتها!! "
…
الخ
…
ومن المؤسف حقاً، أنّ قسماً من المؤرخين العرب والمسلمين تابعوا هذه الأفكار الأجنبية، وما فعله عبد العزيز، كما لم يفعل موسى وسائر قادة الفتح الإسلامي، غير تطبيق تعاليم القتال في الإسلام نصّاً وروحاً، فدفع تدمير الجزية، كما دفع غيره الجزية شرقاً وغرباً، فبقي وبقوا في قيادة أنظمتهم، وأصبحوا من أهل الذِمّة، ولأهل الذمّة رعاية في الإسلام، تتسم بالتسامح
(1) أنظر التفاصيل في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (523 - 533) ط2 - بيروت 1393 هـ.