الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهاية الأندلس
مستهل
سقطت قواعد الأندلس الشهيرة، في سلسلة من المعارك والمحن الطّاحنة، التي تقلب فيها المسلمون في الأندلس، منذ انهيار صرح الخلافة الأموية في الأندلس، في أواخر القرن الرابع الهجري، وظهرت دول الطوائف الصغيرة المفكّكة، على أنقاض دولة عظيمة شامخة. وكان سقوط كل قاعدة من هذه القواعد الأندلسية الشهيرة، يمثّل ضربة مميتة للدولة الإسلامية في الأندلس، ويُحدث أعمق الأثر في جنبات الدول الإسلامية شرقاً وغرباً. وكان المسلمون الأندلسيون، كلما سقطت قاعدة من قواعدهم الشهيرة، في يد عدوّتهم القديمة المتربصة بهم - إسبانيا النصرانية - ألفَوْا عزاءهم في قواعدهم الباقية الأخرى، وهرعوا إليها استبقاء لحرياتهم ودينهم وكرامتهم، حتى لم يبق من تلك القواعد غير غرناطة وأعمالها تؤلف مملكة إسلامية صغيرة، استطاعت أن تثبت أمام العاصفة أكثر من قرنين من عمر الزمن.
والحق أن مصير الأندلس، كان في مهب الريح، منذ أخفقت دول الطوائف في توحيد صفوفها، فغلب عليها الخلاف والتفرّق، وانحدرت إلى معترك الحرب الأهلية، تفسح لعدوّها الخَطِر مجال التفوق عليها، والضرب والتفريق بينها. وقد استطاع بعض العقلاء من الأندلسيين المسلمين، حتى في ذلك العصر، الذي كان الإسلام يسيطر فيه على معظم أنحاء الأندلس، أن يستشفوا ما وارء هذا التفرق من خطر داهم على حاضر المسلمين ومستقبلهم في الأندلس، فنرى ابن حَيَّان مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري، يقول لنا بعد أن يصف حوادث سقوط (بربشتر) من أعمال الثغر الأعلى (أراغون)، في يد النصارى في سنة 456 هـ (1063 م) وما اقترن بسقوطها من القتل والسّبى وشنيع الاعتداء: (وقد أشفينا بشرح هذه الحالة الفادحة،
مصائب جليلة مؤذنة بوَشْك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها، بما احتملوه عمّن قبلهم من آثاره. ولاشك عند ذوي الألباب، أنّ ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتجاري عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة). ويندد ابن حيان بعد ذلك بتواكل أهل الأندلس وتخاذلهم عن نصرة دينهم وإخوانهم (1). وبدا واضحاً، حينما سقطت طليطلة أول قاعدة إسلامية كبيرة، في يد النصارى في سنة 478 هـ (1085 م) أن الأندلس أضحت على وشك الفناء، وأن دول الطوائف المنهوكة الممزّقة، سوف تسقط تباعاً في يد النصارى الإسبان، وأن الإسلام سوف ينتهي في الأندلس. وقد ساد الفزع جنبات الأندلس كلها يومئذ، حتى قال شاعرهم حينما سقطت طليطلة:
يا أهل أندلس شدّوا رحالكم
…
فما المقام بها إلاّ من الغلط
السلك ينثر من أطرافه
…
وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
مَن جاور الشرّ لا يأمن بوائقه
…
كيف الحياة مع الحيّات في سَنَط
ولكن الدرس كما يبدو كان عميق الأثر، فجنح زعماء الطوائف إلى الرشاد، وجمعت المحنة كلمتهم، فقصدوا (المرابطين) إخوانهم في الدين، وكان المرابطون يومئذ في عنفوان دولتهم، وأميرهم يوسف بن تاشفين يبسط سلطانه القوي على أمم المغرب، من المحيط غرباً حتى تونس شرقاً. فاستجاب المرابطون إلى صريخ ملوك الطوائف، وعبروا البحر إلى الأندلس مع قوات ضخمة، والتقت قوات المسلمين المتّحدة بقيادة يوسف ابن تاشفين بالجيوش النصرانية المتحدة بقيادة الفونسو السادس زعيم إسبانيا النصرانية، في سهول الزلاّقة في شهر رجب من سنة 479 هـ (أكتوبر - تشرين الأول سنة 1086 م)، فأحرز المسلمون على النصارى نصراً عظيماً. وكانت موقعة الزلاّقة من أيام الأندلس المشهورة، وانتعشت دول الطوائف، وقويت نفوس
(1) نفح الطيب (مصر)(2/ 576).
المسلمين في الأندلس، وبدأت حياة جديدة. ولكن سرعان ما اختلف المرابطون مع الطوائف، فحطموا دول الطوائف، وبسطوا حكمهم على الأندلس زهاء نصف قرن. ولما سقطت دولة المرابطين في المغرب، وقامت على أنقاضها دولة الموحدين، عَبَرَ الموحدون البحر إلى الأندلس، وبسطوا عليها حكمهم زهاء قرن آخر، وفي ظلّ الموحدين، أحرزت الأندلس المسلمة كما أحرزت في الزلاقة أيام المرابطين، نصرها الحاسم على إسبانيا النصرانية، بقيادة يعقوب المنصور ملك الموحدين، وذلك في موقعة الأرك الشهيرة (591 هـ - 1194 م)(1)، ولكنها ما لبثت أن لقيت هزيمتها الحاسمة. بعد ذلك بقليل، على يد إسبانيا النصرانية في موقعة العقاب (609 هـ - 1212 م)(2)، وكانت هزيمة العقاب ضربة شديدة لسلطان الموحدين وللأندلس المسلمة، فعاد شبح الفناء يلوح للأندلس قوياً منذراً، وسرى هذا التوجّس إلى كُتّاب العصر وشعرائه، وظهر واضحاً في رسائلهم وقصائدهم، ومن ذلك ما قاله أبو اسحاق إبراهيم بن الدّباغ الإشبيلي معلقاً على موقعة العقاب:
وقائلة أراك تطيل فكراً
…
كأنك قد وقفت لدى الحساب
فقلت لها أُفكِّر في عقاب
…
غداً سبباً لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام
…
وقد دخل البلا من كلّ باب (3)
وفي خلال ذلك، كانت الأندلس، تضطرم بأشنع ضروب الخلاف والفتن، والثغور والقواعد يتناوبها الرؤساء والمتغلِّبون، وإسبانيا النصرانية تنزل ضرباتها المتوالية بالمسلمين، وتستولي تباعاً على القواعد والثغور.
والحقيقة أن الجهد المضطرم الذي بذلته إسبانيا النصرانية يومئذ، لانتزاع القواعد الأندلسية لم يكن سوى الذروة من مرحلة طال أمدها، من حركة
(1) وتعرف في الإسبانية بموقعة: Alarcos
(2)
وتعرف في الإسبانية بموقعة: Las Navas de Talasa
(3)
نفح الطيب (مصر)، (2/ 582).
الاستيلاء والاسترداد النصرانية La Reconqista وقد بدأ هذا الاسترداد من جانب إسبانيا النصرانية لأراضيها المفتوحة منذ عصر مبكِّر جداً، أي منذ قامت المملكة النصرانية الشمالية عقب الفتح الإسلامي بقليل في حمى الجبال الشمالية، واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت منذ منتصف القرن الثامن الميلادي أن تدفع حدودها تباعاً نحو الجنوب، وكانت أولى القواعد الإسلامية التي سقطت هي (لُك) في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأندلسية، واسترقة في شمال نهر دويرة، وشلمنقة وشقوبية وسمورة وألبة في الناحية الأخرى من دويرة. ولم تتأثر الأندلس المسلمة كثيراً بفقد هذه القواعد الأولى، لبعدها ولقربها من المملكة النصرانية. ولكن الأندلس شعرت بالخطر الحقيقي، منذ استطاع النصارى عبور نهر التاجة متوسط شبه الجزيرة في غزوات قوية، واستيلائهم بعد ذلك على طليطلة ثالثة القواعد الأندلسية الكبرى بعد قرطبة وإشبيلية. ووضع نصر الزلاّقة، وقيام سلطان المرابطين في شبه الجزيرة حداً مؤقتاً لتقدم النصارى في وسط شبه الجزيرة وشرقيها. ولكن موجة جديدة من الغزو النصراني اجتاحت شمال شرقي الأندلس منذ بداية القرن السادس الهجري، فسقطت سرقسطة في يد النصارى (512 هـ - 1118 م) وتطيلة (524 هـ - 1129 م)، ثم تلتها لاردة وإفراغة وطرطوشة (542 هـ - 1148 م). وفي ذلك الوقت ذاته، بدأ سقوط القواعد الإسلامية في غربي شبه الجزيرة أي في البرتغال، فسقطت أُشبونة وشنترة وشنترين فى يد النصارى في سنة (542 هـ - 1147 م) وسقطت باجة بعد ذلك بقليل في سنة (556 هـ - 1161 م)، ثم تلتها بابرة في سنة (561 هـ - 1165 م).
ْولما توطد سلطان الموحدين في الأندلس في أواخر القرن السادس الهجري، توقّفت حركة الاسترداد النصراني مدة من الزمن، ثم عادت تضطرم قوية بعد إحراز إسبانيا النصرانية لفوزها الحاسم على الموحدين في موقعة العقاب (609 هـ). ومنذ أوائل القرن السابع الهجري، اجتاحت الأندلس