الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأيام المشهورة في أروع الحلل وأبدع الزينات (1). وكانت الأمة الأندلسية تتمتع يومئذ في ظل ملكها الرشيد العادل بنعم الرخاء والسكينة والأمن، ولكنها تنحدر في نفس الوقت في ظل هذا السلم الخلّب والترف الناعم، إلى نوع من الانحلال الخطر، الذي يعصف بمنعتها وأهبتها الدفاعية. وتوفي السلطان يوسف في سنة (820 هـ - 1418 م) بعد حكم دام نحو تسعة أعوام، وكان أميراً راجح العقل، بارع السياسة، عظيم الفروسية والنجدة، محباً لشعبه، فكان حكمه القصير صفحة زاهية من تاريخ مملكة غرناطة.
5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف
توالى على عرش غرناطة بعد السلطان يوسف عدة من الأمراء الضعاف، أولهم ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر، وكان أميراً صارماً سيئ الخلال، متعالياً على أهل دولته، بعيداً عن الاتصال بشعبه، لا يكاد يبدو في أية مناسبة عامة، وكان وزيره يوسف بن سراج واسطته الوحيدة للاتصال بشعبه وكبراء دولته. وكان هذا الوزير النّابه، وهو زعيم أعظم وأشرف بيوت غرناطة، يعمل ببراعته ورقّة خلاله، لتلطيف حدّة السّخط العام على مليكه، بيد أنه كان يحاول أمراً صعباً. ولابد لنا من من التعريف ببني سراج، فهم الذين يقترن اسمهم منذ الآن بحوادث مملكة غرناطة، الذين غدت سيرتهم فيما بعد مورداً خصباً للقصص المغرق، وهم من أعرق الأسر الأندلسية العربية، ويرجع أصلها إلى مذْحج وطيء من البطون العربية العريقة، وكان منزلهم بقرطبة وقبلى مرسية، بيد أنهم لم يظهروا على مسرح الحوادث في تاريخ الأندلس إلاّ في مرحلته الأخيرة، أعني في تاريخ غرناطة. وقد كانوا بغرناطة من أعظم سادتها، وكانوا أنداداً للعرش
(1) Conde; ibid; P. 197 & 180 وكذلك Historia de Grannada: Lafuente Alcantra (1906) V. 111. P. 46.
والسلاطين (1)، ومنذ عهد السلطان الأيسر، نرى بني سراج في طليعة القادة والزعماء، الذين يأخذون في سير الحوادث بأعظم نصيب. وقد كان حكم السلطان الأيسر، بداية سلسلة من الاضطرابات والقلاقل المتعاقبة. وفي عهده ساءت الأحوال، واشتد سخط الشعب، ولم تُجْدِ محاولات الوزير ابن سراج لتهدئة الأمور. وقامت ثورات متعاقبة، فقد فيها الأيسر عرشه ثم استرده غير مرة، وكان بلاط قشتالة يشجع هذه الانقلابات ويؤازرها، وكان الزعماء الثائرون يتطلعون دائماً إلى عون قشتالة ووحيها. وسنرى فيما يلي كيف كانت دسائس قشتالة ومؤامراتها حول عرش غرناطة في تلك الأيام، من أعظم العوامل في انحلال المملكة الإسلامية والتعجيل في سقوطها.
وفي خلال حكم الأيسر المضطرب، كان النصارى يتربصون الفرص لغزو مملكة غرناطة، فزحفوا عليها في سنة (831 هـ - 1428 م) وتوغلوا في أرجائها، وعاثوا في بسائط وادي آش، فزادت الأمور في غرناطة اضطراباً، وازداد الشعب على الأيسر سخطاً، لأنه فوق غطرسته وتعاليه، لم يفلح في ردّ العدو عن أرض الوطن، وسرعان ما انفجر بركان الثورة وزحف الثوار على الحمراء، ونادَوْا بالأمير محمد بن محمد بن يوسف الثالث، وهو ابن أخي الأيسر. وفي رواية أنه ولده، ومحمد هذا هو الملقّب (بالزغيّر)، وفرّ الأيسر في أهله ونفرٍ من خاصته، وركب البحر إلى تونس مستظلاً بحماية سلطانها أبي فارس الحفصي.
وجلس محمد (الزغيّر)(2) على عرش غرناطة، وكان أميراً بارع الخلال وافر الفروسية، يعشق الآداب والفنون، وكان يحاول اكتساب محبة الشعب
(1) نفح الطيب (1/ 138).
(2)
زغير: وهي النطق العامي الأندلسي لكلمة "صغير"، ولا يزال هذا التعبير مستعملاً وشائعاً في العاصمة العراقية، أنظر: Dozy: Supp. aux Dict. Arabes، وذكر كوندي أنّ الزغيّر معناها السكير ( Zaquir)، أنظر: Conde. ibid; V. 111. p. 182
بفيض من الحفلات ومباريات الفروسية، ولكنه لم يوفق إلى إخماد الدسائس والفتن المستمرة. وكان بنو سراج ألدّ خصومه وأشدهم مراساً، فمال عليهم وطردهم وعوّل على سحقهم واستئصال نفوذهم القوي المتغلغل في أنحاء المملكة. وغادر يوسف بن سراج غرناطة مع عدد كبير من السادة الفرسان من أفراد أسرته، تفادياً لانتقام (الزغيّر) وبطشه، وسار أولاً إلى ولاية مرسية، ثم سار إلى إشبيلية ملتجئاً إلى حماية ملك قشتالة خوان الثاني، فرحب بهم وأكرم وفادتهم. واتفق يوسف بن سراج مع ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر إلى العرش. واستدعى الأيسر من تونس، فلبّى الدعوة، وزوّده السلطان أبو فارس بفرقة من الفرسان، وهدايا ثمينة لملك قشتالة، ونزل الأيسر في عصبته في ثغر ألمرية حيث استقبله الشعب بحفاوة، ونُودي به ملكاً. ونُمي الخبر إلى الزغيّر، فأرسل بعض قواته لمقاتلة الأيسر والقبض عليه، ولكن معظم جنده انضموا إلى الأيسر. وسار الأيسر إلى وادي آش حيث يحتشد أنصاره، ثم زحف على غرناطة في قوة كبيرة. ورأى محمد الزغيّر أتباعه ينفضون من حوله تباعاً، بيد أنه امتنع في عصبته القليلة بقلعة الحمراء معتزماً الدفاع عن ملكه، ودخل الأيسر غرناطة، واستُقبِل بحماسة، وأُعلِن ملكاً، وحاصر الحمراء بشدة، فسلمها إليه أنصار الزغيّر. وقبض على الزغيّر وقطع رأسه، وقبض على أولاده وأهله، وهكذا انتهت مغامرة الزغيّر على هذا النحو المؤسي، بعد أن حكم عامين وبضعة أشهر (سنة 1430 م)(1).
ونظم السلطان الأيسر الأمور، وأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة، وأرسل إلى ملك قشتالة خوان الثاني في تجديد الهدنة، فاشترط أن يؤدي الأيسر ما أنفقه بلاط قشتالة في سبيل استرداد عرشه، وأن يؤدي فوق ذلك جزية سنوية، اعترافاً بالطاعة، فرفض الأيسر، وهدّد ملك قشتالة بالحرب.
(1) Conde ; ibid. 111. p. 184-185.
وأنظر أيضاً: Lafuente Alcantra ; ibid، V. 111. P. 121
وما كادت تنتهي الفتنة الداخلية التي كانت ناشبة يومئذ في قشتالة، حتى أغار النصارى على أراضي المسلمين، وقصدوا إلى رندة، فهرع الأيسر إلى لقائهم، واستطاع أن يردّهم في البداية، ولكن ملك قشتالة قدم بعدئذٍ بنفسه في قوّات كبيرة، وزحف على حصن اللّوز وأرشدونة، وعاث في تلك المنطقة، ثم عاد إلى قرطبة ومعه كثير من السّبي والغنائم.
وفي أثناء ذلك عاد الأيسر إلى غرناطة، متوجساً من سير الحوادث فيها. وكانت الفتن الداخلية قد عادت تنذر بانقلابات جديدة، وغدا عرش غرناطة مرة أخرى يضطرب في يد القدر. وانقسمت المملكة الإسلامية شيعاً وأحزاباً متنافسة متخاصمة، وألفى النصارى فرصتهم السانحة لإذكاء الفتنة، وبسط سيادتهم على مملكة يسودها الضعف والتفرّق. وكان خصوم الأيسر قد التقَوْا حول أمير ينتمي إلى بيت الملك عن طريق أمه، هو أبو الحجاج يوسف بن المول، وكانت أمه ابنة للسلطان محمد بن يوسف بن الغني بالله، وأبوه ابن المول من وزراء الدولة النصرية. ودبّرت مؤامرة جديدة لخلع الأيسر، وكان يوسف أميراً قوياً، وافر الثراء والهيبة، وكان ملك قشتالة، خوان الثاني، يعسكر يومئذٍ بجيشه على مقربة من غرناطة، يتتبع سير الحوادث، ويرقب الفرص، فقصد إليه يوسف، وطلب إليه العون على انتزاع العرش لنفسه، وتعهد بأن يحكم باسمه وتحت طاعته، فلبَّى ملك قشتالة دعوته، وعقد معه يوسف وثيقة بالخضوع، يقرِّر فيها أنه من أتباع ملك قشتالة وخدامه، وأنه إذا حصل على الملك، فإنه يتعهد بتحرير جميع الأسرى النصارى، وبأن يدفع لملك قشتالة جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار من الذهب، وأن يعاونه بألف وخمسمائة فارس لمحاربة أعدائه سواء كانوا نصارى أو مسلمين، وأن يحضر جلسات مجلس الكورتس (مجلس النواب القشتالي) بنفسه إن كان منعقداً جنوب طليطلة أو بإنابة أحد أبنائه أو ذوي قرابته إن كان منعقداً داخل قشتالة. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يعقد الصلح مع يوسف طول أيام حكمه وأيام أبنائه، وأن يعاونه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى،
وألاّ يحمي مَن يلتجئ إليه من أعدائه. ووقعت هذه المعاهدة بين الفريقين في السابع من المحرم سنة (835 هـ - 16 أيلول - سبتمبر 1431 م) ونفذت على الأثر، إذ أرسل ملك قشتالة جنده، فغزت غرناطة، وسار الأيسر على رأس قواته، والتقى بالنصارى في بسائط إلبيرة، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، ارتدّ الأيسر على أثرها منهزماً إلى غرناطة. أما يوسف فقد استطاع بمؤازة النصارى أن يستولي على قواعد اعترفت بطاعته، مثل رندة ولوشة وحصن اللوز وغيرها. وأعلن ملك قشتالة انحيازه إلى يوسف، ونودي به ملكاً، فسار يوسف بقواته إلى غرناطة، فلقيته جنود الأيسر بقيادة الوزير ابن سراج، فهُزِم ابن سراج وقُتل، ودخلت جنود يوسف غرناطة، ونادت بطاعته معظم الجهات، وانفضّ الأشراف من حول الأيسر بعد أن رأوا خسران قضيته، فاعتزم الأيسر أمره، وحمل أمواله، وغادر غرناطة في أسرته ونفر من خاصته، وقصد إلى مالقة التي بقيت على طاعته، ودخل يوسف بن المول الحمراء ظافراً وتربع على العرش، وذلك في أول كانون الثاني يناير - (1432 م).
وكان أول ما فعله يوسف، أن جدّد لملك قشتالة عهد الخضوع، فوقعه باعتباره سلطان غرناطة في 22 جمادى الأولى من نفس العام (27 كانون الثاني 1432 م)(1)، بيد أن حكمه لم يطل، إذ كان شيخاً مريضاً، فتوفي بعد ستة أشهر لم يفعل خلالها شيئاً سوى اعترافه بطاعة ملك قشتالة، وهو ما كانت تسعى إليه قشتالة مذ قامت مملكة غرناطة.
والواقع أن قشتالة حققت بهذا العقد أكبر أمنية قديمة لها، وهذا العهد المؤلم كان أشنع ما انتهت إليه الخلافات الداخلية والحروب الأهلية في مملكة غرناطة في تلك الأيام الحرجة الدقيقة من حياتها. وعلى أثر وفاة
(1) Archivo general de Simancas، P. R. 11-129، وقد حصل الأستاذ عبد الله عنّان على صورة هذه الوثيقة بنسختيها العربية والقشتالية، ونشرها في بحث ظهر في صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الثاني - 1954).
السلطان يوسف، اتفقت الأحزاب كلها على ردّ الأمر للسلطان الأيسر، فجلس على العرش للمرة الثالثة. وبادر إلى عقد السلم مع ملك قشتالة، فعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عام، ولكن القشتاليين ما لبثوا بالرغم من عقدها أن أغاروا على أراضي غرناطة الشرقية، فردهم المسلمون بقيادة الوزير ابن عبد البر زعيم بني سراج، ثم هزموهم ثانية عند مدينة أرشذونة، وقُتِل وأُسِر منهم عدد كبير (838 هـ - 1434 م).
وفي العام التالي، سار السلطان الأيسر لقتال القشتاليين، في أحواز غرناطة ووادي آش، وهزمهم غير مرة، ثم عاد النصارى فأغاروا على بسطة ووادي آش، واحتلوا بعض الحصن والقرى المجاورة، وزحفت قوة كبيرة من النصارى بقيادة حاكم لبلة، على ثغر جبل طارق، ولكن أهل الثغر باغتوا النصارى وهزموهم، وقتل قائدهم وكثير منهم (840 هـ - 1436 م). ثم نشبت بعد ذلك بين المسلمين والنصارى موقعة أخرى على مقربة من كازورلا، أصيب الفريقان فيها بخسائر فادحة، وانتهت بنصر المسلمين، ولكن قائدهم الفارس ابن سراج، وهو ولد الوزير السابق، سقط قتيلاً في المعركة، فحزنت غرناطة لفقده، وقد كان يخلب الشعب الغرناطي بظرفه وبارع فروسته (1).
وهكذا استمر الصراع بضعة أعوام سجالاً، بين المسلمين والنصارى. ولما رأى النصارى كثرة خسائرهم وعقم محاولاتهم، لجأوا إلى السكينة حيناً. وأرسل السلطان الأيسر في أواخر عهده إلى مصر سفارة يرجو فيها سلطان مصر الإنجاد والغوث لما رآه من اشتداد وطأة النصارى على أراضي مملكته. وهذه أول مرة تتجه فيها مملكة غرناطة إلى الاستنجاد بمصر، وقد كانت حتى ذلك الحين تتجه دائماً إلى ملوك العدوة، وكانت حوادث غرناطة يومئذ تنذر بتطورات جديدة مزعجة، ذلك أن السلطان الأيسر بالرغم من حسن بلائه ضد النصارى لم يحسن السيرة في الداخل، ولم ينجح في اجتذاب
(1) Lafuente Alcantra ، ibid; V. 111. P. 147-150.
شعبه، وكان من خصومه من السادة الفرسان مَن يلوذ بحماية قشتالة، وعلى رأسهم الأمير يوسف بن أحمد حفيد السلطان يوسف الثاني وابن عم الأيسر، وهو المعروف في التواريخ القشتالية:"بابن إسماعيل"، وذلك لأن نسبه ينتهي إلى السلطان أبي الوليد إسماعيل الذي تولى العرش سنة (712 هـ)، وكان ثمة فريق آخر من الزعماء الناقمين في ألمرية يناصر الأمير محمد بن نصر بن محمد الغني بالله، وهو المعروف بالأحنف. وكان الأحنف قد نجح في دخول غرناطة سراً مع نفر كبير من أنصاره، وأخذ يعمل على إذكاء الفتنة، فلما آنس سنوح الفرصة، ثار في عصبته، واستولى على الحمراء والحصون المجاورة لها، وقبض على الأيسر وآله وزجهم إلى السجن، ونادى بنفسه ملكاً، وذلك في أوائل سنة (1441 م) أو أوائل سنة (1442 م) حسبما تدل على ذلك وثيقة عربية، هي عبارة عن خطاب موجه منه إلى ملك قشتالة في شهر ذي القعدة سنة (846 هـ - آذار - مارس 1443 م)، يشير فيه إلى بعض المشاكل القائمة بين البلدين، ويطالب بإطلاق سراح سفيره المعتقل في قشتالة (1).
ولكن الفتنة لم تهدأ ولم تستقر الأمور، وكان يعارض ولاية الأحنف فريق قوي من الزعماء والشعب، ويتزعم هذا الفريق المعارض الوزير عبد البر زعيم بني سراج. وكان يقيم في حصن مونتي فريو في شمال غربي غرناطة، ويؤيد ولاية الأمير يوسف (ابن إسماعيل) المقيم في بلاط قشتالة، ولم يمض قليل، حتى سار هذا الأمير من إشبيلية إلى غرناطة، ومعه سرية من الفرسان النصارى أمده بها ملك قشتالة. والظاهر أن ابن إسماعيل استطاع التغلب على الأحنف، واحتل الحمراء وحكم مدى أشهر قلائل. ولكن الأحنف عاد وتغلب عليه واسترد عرشه (أوائل سنة 1446 م) ثم هاجم الأحنف أراضي قشتالة، وهاجم قلعة بني موريل وقلعة ابن سلامة وقتل من فيهما من النصارى
(1) نشر نص هذا الخطاب مع صورته في كتاب: نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر (76 - 78) - تطوان.