الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمة موجة عارمة من الغزو النصراني، فسقطت قواعد المسلمين التالية بيد النصارى: جزيرة ميورقة (627 هـ - 1229 م)، وأبّدة (631 هـ - 1233 م)، ثم قرطبة (633 هـ - 1236 م) وبياسة وإستجة والمدور (634 هـ - 1237 م) وبلنسيهّ (636 هـ - 1238 م) وشاطبة ودانية (638 هـ - 1240 م) ولقنت وأوريولة وقرطاجنة (640 هـ - 1242 م) ومرسية (641 هـ - 1243 م) وجيان (644 هـ - 1246 م)، ثم إشبيلية (646 هـ - 1248 م). واجتاحت غرب الأندلس في الوقت نفسه موجة مماثلة من الغزو النصراني، فسقطت بطليوس (626 هـ - 1228 م) وماردة (628 هـ - 1230 م) وشلب (640 هـ - 1242 م) وشنتبرية الغرب (647 هـ - 1249 م) وولبة (655 هـ - 1257 م)، ثم سقطت قادس (667 هـ- 1262 م)، وتلتها شريش (663 هـ - 1264 م). وهكذا لم يَأت منتصف القرن السابع الهجري - القرن الثالث عشر الميلادي - حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها قد سقطت في يد إسبانيا النصرانية، ولم يبق من الدول الإسلامية في الأندلس، سوى بضع ولايات صغيرة في طرف إسبانيا الجنوبي (1).
مملكة غرناطة
وأخذت الأندلس عندئذ، تواجهه شبح الفناء مرةً أخرى من جديد، وطافت بالأمة الأندلسية المسلمة التي احتشدت يومئذ بالجنوب الأندلسي، في بسيطها الضيِّق، ريح التوجّس والفزع، وعاد النذير يهيب بالمسلمين، أن يغادروا ذلك الوطن الذي يهدد مصيرهم بالخطر، والذي يتخاطف العدو أشلاءه الدامية، وسرى في الأمة الأندلسية شعور عميق بمصيرها المحتوم.
ولكن شاء القدر، أن يرجأ هذا المصير بضعة أجيال أخرى، وشاء أن يسبغ
(1) محمد عبد الله عنان - نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين (12 - 16) ط2 القاهرة - 1378 هـ.
على الدولة الإسلامية في الأندلس حياة جديدة في ظل مملكة غرناطة، التي استطاعت أن تبرز من غمرة الفوضى ضئيلة في البداية، وأن توطد دعائم قوتها شيئاً فشيئاً، وأن تذود عن الإسلام ودولته الباقية بنجاح أكثر من قرنين. وكان من حسن طالع هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، أن شغلت عدوتها القوية إسبانيا النصرانية مدى حين، بمنازعاتها وحروبها الداخلية، فلم تستطع تحقيق غايتها الكبرى، وهي القضاء على دولة الإسلام في الأندلس، وعلى الأمة الأندلسية المسلمة بصورة نهائية، إلاّ بعد أن تهيأت لذلك جميع الظروف والأسباب. ولم يكن ذلك قبل مائتين وخمسين عاماً، عاشتها مملكة غرناطة الصغيرة، أبيّة كريمة، ترفع لواء الإسلام عالياً في تلك الربوع، التي افتتحها الإسلام قبل ذلك بعدّة قرون، وأنشأ بها المسلمون حضارتهم العظيمة التي حفلت بأرقى نظم الحياة المادية والمعنوية، وأرفع ضروب العلوم والفنون والآداب التي عرفت في العصور الوسطى (1).
وقد كانت غرناطة وقت فتح الأندلس مدينة صغيرة من أعمال ولاية إلبيرة، تقع على مقربة من مدينة إلبيرة قاعدة الولاية من الناحية الجنوبية (2)، افتتحها المسلمون عقب انتصارهم على القوط بقيادة طارق بن زياد سنة (92 هـ - 711 م). ولما اضطرمت الفتنة بالأندلس، ودبّ الخلاف بين القبائل، عقب موقعة بلاط الشهداء سنة 732 م، واشتد التنافس على الإمارة بين الشاميين من ناحية، والعرب والبربر من ناحية أخرى، فرأى أمير الأندلس أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي أن يعمل على تهدئة الفتنة بتمزيق عصبة الشاميين، ففرّقهم في أنحاء الأندلس، وأنزل جند الشام بكورة إلبيرة، وجند حمص بإشبيلية، وجند فلسطين بشذونة والجزيرة، وجند الأردن بريّة، وهكذا نزل
(1) نهاية الأندلس (16 - 17).
(2)
إلبيرة: وبالإسبانية ( Elvira) ، مدينة رومانية قديمة كانت تسمى أيام الرومان ( Iliboris) ، وكانت عاصمة الولاية التي تسمى بهذا الاسم، وكانت أيام الفتح الإسلامي مدينة كبيرة عامرة.
الشاميون منذ البداية بولاية إلبيرة، وغدوا بمضي الزمن كثرة فيها.
واستمرت إلبيرة قاعدة لهذه الولاية ومركز قضائها في ظل الدولة الأموية، حتى أواخر القرن الرابع، حينما انهارت الخلافة الأموية، وتعاقبت الفتن، وعاث البربر في البلاد، وخربت مدينة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى غدت غرناطة قاعدة الولاية مكانها، وغلب اسم غرناطة على الولاية نفسها، ومن ذلك الحين اختفى اسم إلبيرة كقاعدة من قواعد الأندلس، وذكر اسم غرناطة مكانها. والواقع أن إلبيرة وغرناطة تعتبران في معظم الأحيان، ولاسيما في المراحل الأولى لتاريخ الأندلس اسمين لمكان واحد، وقد جرى كثير من المؤرخين والجغرافيين على المزج بينهما (1).
وغَرناطة، اسم قديم، يرجع إلى عهد الرومان والقوط، وقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فيرى قسم منهم أنه مشتق من الكلمة الرومانية ( Granata) أي الرمانة، وأنها سميت كذلك لجمالها وكثرة حدائق الرومان التي تحيط بها (2). ويرى قسم آخر أن التسمية ترجع إلى أصل قوطي أو أنها ترجع إلى أصل بربري مشتق من اسم إحدى القبائل، وأرجح الرأي الأول. وغرناطة تتمتع بموقع فائق في الحسن، فهي تقع في وادٍ عميق، يمتد من المنحدر الشمالي الغربي لجبال سييرا نفادا، وتظللها الآكام العالية من الشرق والجنوب، ويحدها من الجنوب نهر شنيل فرع الوادي الكبير (3)، وهو ينبع من جبال سييرا نفادا، ويخترقها فرعه المسمى نهر حدرّه (4) أو هدرة ( El Darro) ويلتقي به عند جنوبي المدينة. وقد كان شَنيل وفرعه حدره أيام المسلمين يفيض بالماء، ولاسيما في الصيف، حيث تذوب الثلوج، وكانت
(1) الإحاطة في أخبار غرناطة - ابن الخطيب (1/ 99 - 105) - القاهرة - 1955 م.
(2)
معجم البلدان (1/ 279 - 280).
(3)
شنيل: هو بالإسبانية ( Xanil) أو ( Genil) ، ويسمى أيضاً عند الأندلسيين بنهر سنجيل مشتقاً من اسمه الّلاتيني Singilis
(4)
في معجم البلدان (6/ 280) ورد اسم النهر: حدارُّه.
ضفافهما خضراء يانعة تغص بالحدائق الغناء، أما اليوم فقد جف مجرى شَنيل، وقلما يجري فيه الماء إلاّ القليل أيام الشتاء. وأما فرعه حدره فيخترق المدينة من الشرق عند سفح التل التي تقع عليه (الحمراء)، ويتصل بشنيل عند القنطرة الأندلسية القديمة. وهو يكاد يختفي اليوم، ولم يبق من مجراه سوى الجزء الصغير لتل الحمراء. أما جزؤه الذي كان يخترق وسط المدينة، فقد غُطِي اليوم بشارعها الرئيس الأوسط المسمى:(شارع الملكين الكاثوليكيين)، وامتداده في الميدان الكبير حتى قنطرة شنيل.
وتشرف غرناطة من الجنوب الغربي، على بسيط أخضر وافر الخصب، هو المرج أو الفحص الشهير:( La Vega)(1) الذي يمتد غرباً حتى مدينة لَوْشة، ومن الجنوب الشرقي على جبال سييرا نفادا (جبل شُلير أو جبل الثلج) التي تغطي الثلوج آكامها الناصعة. ويطلق الجغرافيون الأندلسيون اسم: شلير أو جبل الثلج على جبال سييرا نفادا، فأما شلير فهو محرّف عن اللاتينية ( Solarius) ومعناها جبل الشمس، وذلك لأن الشمس تسلِّط أشعتها الساطعة على تلك الجبال، فينعكس ضوؤها على الثلوج الناصعة التي تغطيها. وأما تسميتها بجبل الثلج، فهي ترجمة عربية مطابقة لاسمها القشتالي:( Sierra Nevada) .
وكانت غرناطة أيام الدولة الإسلامية، جنّة من جنّات الدنيا، تغص بالغياض والبساتين اليانعة، التي كانت لوفرة خصبها وروعة نضرتها تُعرف بالجنّات، فيقال للمزرعة أو البستان:(جنّة كذا) أو (جنّة فلان)، مثل جنة الجرف وجنّة العرض وجنة الحفرة، ومدرج منجد، ومدرج السبيكة، وجنة ابن عمران، وجنة العريف، وغيرها. وقد ذكر ابن الخطيب، أن هذه الجنات الغرناطية الشهيرة كانت تبلغ في عصره زهاء المائة. كما ذكر لنا، أن منطقة غرناطة كانت تضم زهاء ثلاثمائة قرية عامرة، منها ما كان يبلغ سكانه
(1) وهي كلمة إسبانية معناها: المرج، ويبدو أنها مشتقة من كلمة:(فحص) العربية.
الألوف، ومنها ما كان يملكه مالك واحد أو ملاك قلائل، هذا عدا الأملاك السلطانية والحصون (1). وبذلك نستطيع أن نقدِّر أن غرناطة كانت تضم أيام كانت عاصمة الدولة الإسلامية في الأندلس، أكثر من نصف مليون من الأنفس. أما المرج أو الفحص، فقد كان بسيطاً رائع الخضرة، يشبهونه بغوطة دمشق، وتخترقه الجداول والأنهار، ويغص بالقرى والجنات، ويهرع إليه الرواد في ليالي الربيع والصيف، فيغدو مسرح الأسمار والأنس.
وكانت غرناطة نموذجاً بديعاً للعمارة الإسلامية، تغص بالصروح والأبنية الضخمة، وتتخللها الميادين والطرقات الفسيحة. وكانت مدينة: الحمراء أو دار الملك، أروع ما فيها، تطلّ على أحيائها في سمت من القبلة، تشرف عليه منها الشرفات البيض والأبراج السامية والمعاقل المنيعة، والقصور الرفيعة، تغشى العيون وتبهر العقول - كما يقول ابن الخطيب في كتابه: الإحاطة في أخبار غرناطة.
وقد أشاد بمحاسن غرناطة وفضائلها كتَّاب الأندلس وشعراؤها، قال ابن الخطيب:
بلد تحفّ به الرياض كأنه
…
وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم غادة
…
ومن الجسور المحكمات سواره
أما اليوم، فقد عُدَّت غرناطة مدينة متواضعة، لا يزيد سكانها على مائة وثلاثين ألفاً، وهي عاصمة الولاية الأندلسية المسماة بنفس الاسم. بالرغم من أنها فقدت بهاءها السابق، فإنها ما زالت تتّشح بطابع خاص من التحفظ والنبل المؤثر، وقد اختفت معظم خططها الإسلامية، وقامت على أنقاضها مدينة أوروبية حديثة، بيد أن غرناطة ما زالت مع ذلك تحتفظ ببقية من صروحها ومعالمها الأندلسية، وتجتمع هذه البقية بالأخص في قسمها الشرقي، حيث تربض أبراج (الحمراء) فوق هضبتها العالية. وأعظم آثارها
(1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1/ 122 - 123) وأنظر تفاصيل المقرى في (1/ 131 - 138) والهوامش حيث تبين مواقع هذه القرى وأسماؤها الإسبانية حالياً.
الباقية هي بلا ريب: قصر الحمراء الملكي الذي ما زال يحتفظ بكثير من روعته القديمة، وقصر جنّة العريف الواقع في شرقه على مسافة قليلة، وقد كان مصيفاً لملوك غرناطة. وبقية من قصر شنيل (1)، وهي تقع في ضاحية أرملة (أرمليا) على مقربة من شنيل، والخان (2) وهو ذو عقد عربي رائع، ويقع على مقربة من دار البريد. أما المسجد الجامع وبقية المساجد الإسلامية، فقد هدمت جميعاً، وقامت على أنقاضها الكنائس. وأما ما بقي من خططها الإسلامية، فهو ظاهر بالأخص في: حي البيّازين (3) الواقع في شمالها الغربي، والميدان الكبير الذي ما زال يحمل اسمه القديم: رحبة باب الرّملة (4)، وإلى جواره القيصرية القديمة (5)، وهذا فضلاً عما يبدو في كثير من دروبها الضيقة الصاعدة ومنازلها العديدة ذات الطراز الأندلسي، من الملامح الأندلسية الواضحة.
كذلك بقيت قطعة كبيرة من أسوار غرناطة الإسلامية، وبضعة من أبوابها القديمة، مثل: باب البنود، وباب إلبيرة، وباب البيّازين، وباب فحص اللّوز، وباب الشريعة، وهو مدخل الحمراء الرئيس. وما تزال قنطرة شنيل قائمة على النهر عند التقائه بفرعه: حدرُّه، وتحمل اسمها الإسلامي القديم (6).
وتوجد في متحف غرناطة الأثري طائفة كبيرة من اللّوحات والنقوش والتحف الأندلسية (7).
(1) هو القصر الذي يعرف في تاريخ غرناطة بقصر السيد، وقد أنشئ في سنة (615 هـ - 1218 م) أيام الموحدين، وكان أيام ملوك غرناطة يستعمل قصراً للضيافة، وهو بالإسبانية: Alcazar Genil.
(2)
الخان: هو بالإسبانية Alhandiga.
(3)
حي البيازين: وهو بالإسبانية Albaicin.
(4)
رحبة باب الرملة: وهي بالإسبانية Plaza de Gibrambla.
(5)
القيصرية القديمة: وهي بالإسبانية Alcaicaria.
(6)
اسمها: Puante del Genil.
(7)
أنظر التفاصيل في: نهاية الأندلس (17 - 22).