الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة مملكة غرناطة
وقيام الدولة النصريّة
كانت غرناطة أيام الدولة الأموية، قاعدة متواضعة من قواعد الأندلس الجنوبية وهي تحتل مكانة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى كانت أيام الفتنة عقب انهيار الدولة الأموية في أواخر القرن الرابع الهجري، فأخذت القواعد الجنوبية تغدو بعد تخريب قرطبة، ونأي الثغور الشرقية والشمالية، مركز التجاذب والتنافس بين زعماء الفتنة. ووقعت غرناطة يومئذ من نصيب البربر، واستولى عليها زعيم صنهاجة زاوى بن زيرى واتخذها دار ملكه، وقامت في قرطبة دولة بني حمود الإدريسيّة، واستمرّت الحرب والفتنة مدى حين سجالاً بين المتغلبين من فلول بني أمية وبني عامر وفتيانهم ومواليهم، وبين زعماء البربر.
ولما ظهر المرتضى، وهو من عقب بني أميّة، ودعا لنفسه بالخلافة، سار في عصبة الأمويين والموالي إلى غرناطة، لانتزاعها واتخاذها دار ملكه، فردّه عنها صاحبها زاوي الصنهاجى في موقعة دموية (408 هـ). واستقر زاوى في حكم غرناطة وأعمالها بضعة أعوام، ثم غادرها إلى دار قومه في تونس، واستخلف عليها ابن أخيه حبُّوس بن ماكس، فحكمها حتى توفي سنة (429 هـ). وخلفه في ولايتها ولده باديس وتلقّب بالمظفّر، واستولى على مالقة من يد الأدارسة (بني حمُّود)، واتسع ملكه، ولبث طول حكمه الذي استطال حتى سنة (467 هـ) في قتال مستمر مع بني عباد أمراء إشبيلية، أعظم وأقوى ملوك الطوائف يومئذ. ولما توفي باديس المظفر، خلفه في حكم غرناطة وأعمالها، حفيده عبد الله بن ملكيِّن بن باديس، واستمر في حكمها
إلى أن عبر المرابطون البحر إلى الأندلس في سنة (483 هـ) بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين، واستولوا عندئذ على غرناطة، كما استولوا على قواعد الأندلس الأخرى وانتهت بذلك دول الطائف التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية في الأندلس، وعاشت زهاء ستين عاماً.
واستمر المرابطون في حكم الأندلس وقواعدها زهاء ستين عاماً أخرى، وتعاقب في حكم غرناطة عدة من أمراء اللمتونيين (1) وسادتهم، من قرابة يوسف بن تاشفين، فلما انهارت دولتهم في إفريقية، جاز الموحدون المتغلِّبون على دولتهم إلى الأندلس في سنة (540 هـ - 1146 م)، وأخذوا يستولون تباعاً على القواعد والثغور، وسقطت غرناطة بأيديهم بعد ذلك بثلاثة أعوام في سنة (543 هـ- 1148 م) بالرغم مما بذله المرابطون بقيادة قائدهم الشهير يحي بن غانية وحلفاؤهم النصارى من جهود عظيمة للدفاع عنها.
ولبثت غرناطة كباقي القواعد الأندلسية في يد الموحِّدين، يتناوب حكمها الأمراء والسادة من بني عبد المؤمن وقرابته، حتى كانت ثورة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود سليل بني هود أمراء سرقسطة السابقين على الموحّدين، وانتزاعه معظم قواعد الأندلس من أيديهم.
وذلك أنه لما توفي أبو يعقوب يوسف المستنصر بالله سلطان الموحِّدين في سنة (620 هـ) دون عقب، قام ابن أخيه أبو عبد الله محمد ولد يعقوب المنصور بالأندلس، وأعلن نفسه أميراً على بلنسية، باسم العادل بالله، وقام أخوه أبو علي إدريس في إشبيلية، واتخذ لقب المأمون، وبسط سلطانه على الأندلس، ولما توفي أخوه العادل أمير بلنسية قتيلاً بيد الثوار بعد ذلك بأربعة أعوام (624 هـ) خلفه في رياستها، وولى عليها أخاه السيد أبا عبد الله ليحكمها من قِبَله. ثم شُغِلَ المأمون في الأعوام القلائل التالية، بالعمل على توطيد سلطانه بالمغرب، واستبدّ بالحكم، واستعمل العنف الشديد، وقضى
(1) لمتونة: اسم قبيلة بربرية كان المرابطون ينتمون إليها، ولذا يسمون أحياناً باللمتونيين.
على رسوم المهدي وتعاليمه ونظام حكومته باعتبارها نظماً رجعية لا تتفق مع روح الدين الصحيح، فسرت روح السخط بين القبائل، وأخذ الزعماء المتوثبون الذين يرقبون الفرص. وبينما كان المغرب يضطرم بعوامل الثورة على هذا النحو، والمأمون يشغل بقمع الخوارج عليه، كان سلطان الموحِّدين بالأندلس يضطرب في الوقت نفسه، ويتداعى وينهار حكمهم تباعاً.
ففي تلك الآونة، ظهر ابن هود يدعو إلى دعوة جديدة، تمثل فيها روح الأندلس الحقيقية، وهي: وجوب العمل على تحرير الأندلس من نير الموحِّدين والنصارى معاً. وكان المأمون حينما اشتد عليه الأمر بالأندلس، قد تحالف مع ملك قشتالة، وتنازل له عن عدد من القواعد والحصون، وتعهد بأن يمنح النصارى في أراضيه امتيازات خاصة، وذلك لقاء معاونة ملك قشتالة له على محاربة خصومه. وكان تحالف الموحِّدين مع النصارى على هذا النحو، يسبغ على دعوة ابن هود قوة خاصة، ويدفع الأندلسيين إلى الإنضواء تحت لوائه، وظهر ابن هود لأول مرة في أحواز مرسية في سنة (625 هـ - 1228 م) في الوقت الذي أخذ فيه سلطان الموحّدين يضطرب ويتصدع في الثغور والنواحي، ثم أغار على مرسية في عصبته القليلة، واستطاع أن ينتزعها من حاكمها السيد أبي العباس. وأخذ نجمه يتألق من ذلك الحين، فأعلن أنه يعتزم تحرير الأندلس من الموحدين والنصارى معاً، والعمل على إحياء الشريعة وسننها، ودعا للخلافة العباسية، وكاتب الخليفة المستنصر العباسي ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وتلقّب بالمتوكل على الله. ولم يمض سوى قليل، حتى دخلت في طاعته عدة من قواعد الأندلس، منها جيان وقرطبة وماردة وبطليوس، ثم استطاع أن ينتزع غرناطة قصبة الأندلس الجنوبية من المأمون في سنة (628 هـ - 1231 م).
وفي العام التالي (629 هـ) توفى المأمون ملك الموحدين، وهو في طريقه إلى مراكش، ليعمل على إنقاذ عرشه من المتغلِّبين عليه. وبينما كان سلطان الموحدين بالأندلس يدنو سراعاً من نهايته، كانت دولتهم بالمغرب تدخل في
دور الانحلال، في ظل نفرٍ من الأمراء الضعاف، ثم تختتم حياتها بعد ذلك بنحو أربعين عاماً في سنة (668 هـ) لتقوم على أنقاضها دولة بني مرين.
واستمر ابن هود حيناً يخوض معارك متعاقبة مع الموحدين والنصارى، ونشبت بينه وبين فرديناند الثالث (1) ملك قشتالة، في ظاهر ماردة معركة انتهت بسقوط ماردة وبطليوس في يد النصارى سنة (628 هـ - 1230 م)(2).
وانتهز فرديناند الثالث ملك قشتالة تلك الفرصة التي اضطرمت فيها المملكة الإسلامية في الأندلس كلها بنار الحرب الأهلية، فسيّر قواته لمقاتلة ابن هود، وكان يبدو في نظره يومئذ زعيم الأندلس الحقيقي. وكان ابن هود في ذلك الوقت، قد استطاع أن يبسط سلطانه على الولايات والشواطئ الجنوبية، فيما بين الجزيرة الخضراء والمريّة، وفيما بين قرطبة وغرناطة، وكان يرى في مقاتلة النصارى عاملاً لتدعيم دعوته وسلطانه، فسار للقائهم، والتقى الجيشان في فحص شريش على ضفاف وادي لكّة، ولكن ابن هود هزم بالرغم من تفوقه في العدد، وكان ذلك في (أواخر 630 هـ - 1233 م)، وسار فرديناند بعد ذلك لاجتياح أبده، فسقطت في يده بعد حصار قصير (631 هـ - 1234 م).
على أنّ سقوط قرطبة، كان أعظم ضربة نزلت يومئذ بالأندلس. كان ابن هود عقب هزيمته قد جمع قواته وسار لقتال خصمه ومنافسه الجديد محمد بن الأحمر في أحواز غرناطة. وألفى النصارى من جانبهم الفرصة سانحة للزحف على قرطبة التي كان فيها الأمر فوضى ليس فيها مَن يجمع الكلمة ويتزعم الدفاع عنها. وفاجأ القشتاليون بعض أبراج المدينة في البداية، ولكنهم رأوا أن الاستيلاء عليها ليس بالأمر السّهل، ولابد لتحقيقه من قوات جسيمة. وعلم فرديناند الثالث وهو في طريقه إلى ليون بما تم من استيلاء قواته على بعض أبراج المدينة، وبما تبين من ضعف وسائل الدفاع عنها، فارتد إليها
(1) وهي في الإسبانية فرناندو ( Fernando) .
(2)
نهاية الأندلس (26 - 27).
مسرعاً تلاحقه قواته من سائر الأنحاء. وبادر أهل قرطبة بالتأهب للدفاع عن مدينتهم، وأرسلوا إلى ابن هود أميرهم الشرعي يطلبون الغوث والإنجاد. وقدر ابن هود خطورة الموقف، واعتزم أن يسير إلى إنجاد الحاضرة المحصورة، ولكنه علم في طريقه أن جيش القشتاليين يفوق في الأهبة والكثرة، ووصله من جهة أخرى صريخ أبي جميل زيان أمير بلنسية لمعاونته ضد خايمي (1) ملك أراغون الذي اشتد في مناوراته وإرهارقه، ولاح له أن السير إلى بلنسية التي كان يطمح إلى امتلاكها أيسر وأجدى، فترك قرطبة لمصيرها مؤملاً أن يثبت أهلها دفاعاً عنها، أو يستطيع إنقاذها فيما بعد. ولبث النصارى على حصار قرطبة بضعة أشهر، ودافع أهل قرطبة عن مدينتهم ودينهم وحرياتهم أعنف دفاع وأروعه، ولكنهم اضطروا في النهاية، وبعد أن أرهقهم الحصار، وفقدوا كل أمل في الغوث والإنقاذ إلى التسليم. ودخل النصارى قرطبة في (23 شوال سنة 633 هـ - 29 حزيران - يونيو سنة 1236 م)، وفي الحال حوّلوا مسجدها الجامع إلى كنيسة (2)، وقد كان هذا شعارهم كلما دخلوا قاعدة أندلسية، إيذاناً بظفر النصرانية على الإسلام. وكان لسقوط قرطبة عاصمة الخلافة التالدة، أعظم وقع في الأندلس وفي سائر أصقاع العالم الإسلامي، وكانت ضربة مميتة أخرى صوبتها إسبانيا النصرانية، إلى قلب الأندلس المفككة المنهوكة القوى (3).
(1) خايمي: Jaime، وهو الاسم الإسباني لإسم يعقوب.
(2)
وما زال جامع قرطبة العظيم قائماً إلى اليوم بأروقته وعقوده وأعمدته الإسلامية كاملاً كما كان أبام المسلمين. بيد أنّه حوِّل إلى كنيسة قرطبة الجامعة، وأقيمت الهياكل في سائر جوانبه تحت عقوده القديمة، وأقيم في وسطه مصلّى على شكل صليب Crucero، وقد أزيلت قبابه ونقوشه الإسلامية، ولم يبق محتفظاً بنقوشه القديمة سوى محاريبه الثلاثة. وما زال هذا الأثر الأندلسي العظيم إلى جانب تسميته بكتدرائية قرطبة يحمل اسمه الإسلامي القديم: المسجد الجامع ( La Mezquita Aljama) ، أنظر الآثار الأندلسية الباقية (20 - 27) - محمد عبد الله عنان.
(3)
أنظر سقوط قرطبة في: ابن خلدون (4/ 169 و 183) ونفح الطيب (2/ 585) حيث =
ولم يلبث ابن هود أن توفي في أوائل سنة (635 هـ - 1237 م)، وكانت وفاته في ثغر ألمرية في ظروف غامضة، وقد كان سار إليها معتزماً أن ينقل بعض قواته في البحر لإنجاد أمير بلنسية، فقيل إن وزيره ونائبه في ألمرية أبا عبد الله محمد بن عبد الله الرميمي استضافه في قصره ودبر قتله غيلة، وزعم في اليوم التالي أنه توفي مصروعاً. وكان الرميمي قد قام بدعوته في ألمرية، ووفد عليه في مرسية، فقدّر عونه وولاّه وزارته وعيّنه حاكماً على ألمرية، ثم تغيّر عليه فيما يقال من أجل جارية حسناء أغراها الرميمي، فسار إلى ألمرية لمعاقبته، فخشي الرميمي العاقبة، فدبّر مصرعه ولجأ إلى الجريمة احتفاظاً بسلطانه (1).
هكذا توفيّ ابن هود، وهو في ذروة سلطانه ومشاريعه، ولم تطل وثبته التي أشاعت في الأندلس مدة قصيرة أملاً سراباً، فانهارت بوفاته دولته التي لم يتح لها كثير من أسباب الاستقرار والأمن (2).
وعلى أثر وفاة ابن هود وانهيار دولته، بادر خايمي ملك أراغون بانتهاز فرصته السانحة فغزا ولاية بلنسية، وكان قد استولى قبل ذلك بأعوام قلائل
= يشير إليه إشارة عابرة مع تحريف في التاريخ، وأنظر أيضاً تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين للمؤرخ الألماني أشباخ وترجمة محمد عبد الله عنّان (2/ 185 - 187) ونهاية الأندلس (27 - 28).
(1)
ابن خلدون (4/ 169) ونفح الطيب (2/ 582 - 583)، ولا يصدق العقل هذا الاتّهام، لأنّ ابن هود ولو كان على خلاف مع الرميمي، وقدم ألمرية خصيصاً لمعاقبته، لما قبل استضافة الرميمي وأتمنَ عدوّه على حياته، وكان بإمكانه أن يلجأ إلى مكان آمن في المرية، ثم يستدعي الرميمي ويعاقبه، دون أن يعرض حياته إلى الخطر من بعيد أو قريب، ويبدو أن المؤرخين: ابن خلدون وابن الخطيب، نقلا ما كان شائعاً بين الناس عن أسباب موت ابن هود، والإشاعات لا تصدق دائماً، فمنها ما يصدق، ومنها لا يصدق.
(2)
تراجع ثورة ابن هود ووفاته في: ابن خلدون (4/ 168 - 170) والإحاطة (2/ 90 - 94) ونفح الطيب (2/ 581 - 583) وأنظر تاريخ الموحدين والمرابطين في الأندلس (2/ 160 و 161 و 186 و 187).
على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في سنة (627 هـ - 1230 م)، وكانت بلنسية قد بقيت بيد الموحّدين، وتولى إمارتها السيد أبو عبد الله محمد أخو المأمون، وتلقب بالعادل كما ذكرنا، وكان منذ رأى خطر ابن هود على إمارته قد استغاث بملك أراغون وانضوى تحت لوائه، وتعهد له بأداء الجزية. عند ذاك ثار أهل بلنسية واختاروا لهم أميراً آخر هو أبو جميل زيان سليل آل مردنيش أمراء بلنسية السابقين، ففرّ أبو عبد الله أمام السّخط العام، والتجأ إلى ملك أراغون واعتنق النصرانية. ثم غزا خايمي بلنسية وحاصرها، ودافع أهلها عن مدينتهم ببسالة، واستغاث أميرها أبو جميل زيان بأمير تونس الحفصي فلم يغنم ذلك شيئاً. وسقطت بلنسية بيد النصارى في صفر سنة (636 هـ - 1238 م)(1)، وأتبع خايمي الاستيلاء على بلنسية بالاستيلاء على شاطبة ودانية في سنة (638 هـ - 1241 م). أما ولاية مرسية، فقد استولى عليها في البداية الأمير أبو جميل زيان عقب فقده لبلنسية، ولكن الزعماء المحليين آثروا الانضواء تحت حماية ملك قشتالة، فتقدموا إليه يلتمسون مهادنته ومحالفته على الوضع المأثور، وهو أن يسمح لهم باستبقاء المدن في طاعته وتحت حمايته، فأجابهم فرديناند إلى ملتمسهم، وبعث إليهم ولده ألفونسو. ودخل النصارى مرسية صلحاً سنة (641 هـ - 1243 م)، وبذلك سقطت ولاية بلنسية ومرسية وشرقي الأندلس كله بيد النصارى في أعوام قلائل فقط، وكانت نفس المأساة تتكرر في ذلك الوقت نفسه، بصورها وأوضاعها المحزنة في غربي الأندلس (2).
وفي تلك الآونة، كانت عناصر الفتنة والفوضى تتمخض عن قيام مملكة إسلامية جديدة في جنوبي الأندلس هي مملكة غرناطة. وقيام هذه المملكة في الطرف الجنوبي للدولة الإسلامية القديمة، يرجع إلى عوامل جغرافية وتاريخية واضحة، ذلك أن القواعد والثغور الجنوبية التي تقع فيما وراء نهر
(1) ابن خلدون (4/ 167).
(2)
نهاية الأندلس (29 - 30).
الوادي الكبير آخر الحواجز الطبيعية بين إسبانيا النصرانية والأندلس المسلمة، كانت أبعد المناطق عن متناول العدو وأمنعها، وكانت في الوقت نفسه أقربها إلى الضفة الأخرى من البحر، إلى عُدْوَة المغرب وشمالي إفريقية، حيث تقوم دول إسلامية شقيقة، حيث تستطيع الأندلس وقت الخطر الداهم، أن تستمد الغوث والعون من إخوانها في الدين. وقد كان لها في ذلك منذ أيام الطوائف أسوة، بل لقد كان صريخ الأندلس يتردّد في تلك الآونة ذاتها على لسان شاعرها وسفيرها ابن الأبّار القضاعي، حينما دهم العدو بلنسية في سنة (636 هـ - 1238 م)، وكان الصريخ موجهاً من أميرها أبي جميل زيان إلى أبي زكريا الحفصي ملك إفريقية (تونس)، وهو الذي ردّده الشاعر في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلساً
…
إن السبيل إلى منجاتها دُرساً (1)
وكان موقف ابن الأحمر من هذه الحوادث شاذاً مؤلماً، فقد كان يقف إلى جانب أعداء أمته ودينه، وكان يبذل للنصارى ما استطاع من العون المادي والمعنوي، وكان معظم الزعماء المسلمين من حكام المدن والحصون الباقية، قد أيقنوا بانهيار سلطان الإسلام بالأندلس، يهرعون احتذاء أمثاله من الخونة، وإلى الانضواء تحت لواء ملك قشتالة. وكانت هذه المناظر المؤلمة، تتكرر في تاريخ الأندلس منذ الطوائف، حيث نرى كثيراً من الحكام المسلمين يظاهرون النصارى على إخوانهم في الدين، احتفاظاً بالملك والسلطان. ولكن ابن الأحمر، كان يقبل هذا الوضع المؤلم إنقاذاً لتراث لم يكتمل الرسوخ بعد، وتنفيذاً لأمنية كبيرة بعيدة المدى، ذلك أنه كان يطمح إلى جمع كلمة الأندلس تحت لوائه، وإدماج ما تبقى من تراثها وأراضيها في مملكة موحّدة، تكون ملكاً له ولعقبه، ولم تكن تحدوه رغبة في توسع يجعله
(1) تراجع هذه القصيدة في نفح الطيب (2/ 578) وما بعدها، وفي أزهار الرياض (3/ 207) وما بعدها، وفي نهاية الأندلس (30).
وهي من غرر القصائد الأندلسية السياسية.
إلى الأبد أسيراً إلى حلفائه النصارى، مثلما كان يفعل أسلافه زعماء الطوائف، بل كانت تحدوه قبل كل شىء رغبة في الاستقلال، والتوطد داخل إمارته المتواضعة. وقد لبث يعمل على تحقيق هذه الغاية في ولاية غرناطة والولايات المجاورة، وهو يصانع النصارى ويتجنّب الاشتباك معهم، ويشهد التهامهم لأشلاء الوطن الممزق، وقلبه يتفطر حزناً وأسىً.
على أن ابن الأحمر، لم يكن يعتزم المضي في ذلك المسلك المؤلم المهين إلى النهاية، فقد كانت نفسه الوثابة تحدثه. من وقت لآخر، بأن يحطم هذه الأغلال الشائنة التي صفّدته بها محالفة النصارى، وكان كلما آنس ازدياد قوته ورسوخ سلطانه، صلبت قناته وذكا عزمه. وكان يتجه ببصره إلى ما وراء البحر، إلى إخوانه في الدين في عدوة المغرب، وكانت حوادث المغرب تتمخض في ذلك الحين بالذات عن قيام دولة جديدة قوية هي دولة بني مرين الناشئة. ومع أن الكفاح بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بني مرين كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بني مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس، وعبر القائد أبو معروف محمد بن إدريس عبد الحق المريني، وأخوه الفارس عامر البحر، في نحو ثلاثة آلاف مجاهد، جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين. وكانت حوادث الأندلس المحزنة تحدث وقعها العميق في المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم في الدين، وكان علماء المغرب وأدباؤها وخطباؤها وشعراؤها يبثون دعوة الغوث والإنجاد، ومن ذلك قصيدة مؤثرة وضعها أبو الحكم مالك بن المرحل، وقرئت في جامع القرويين بفاس في يوم جمعة من أيام سنة 662 هـ، وبكى الناس تأثراً لسماعها، ومما جاء فيها:
استنصر الدين بكم فاستقدموا
…
فإنكم إن تسلموه يسلم
لاذت بكم أندلس ناشرة
…
برحم الدين ونعم الرحم
فاسترحمتكم فارحموها إنه
…
لا يرحم الرحمن مَن لا يرحم
ما هي إلاّ قطعة من أرضكم
…
وأهلها منكم وأنتم منهمُ (1)
وكان لاهتمام المغرب بإنجاد الأندلس صداه، وكان ابن الأحمر في الوقت نفسه قد بدأ يشعر بمقدرته على مواجهة النصارى والخروج على طاعتهم، وحماية مملكته الفتية من عدوانهم. ولما فاتحه النصارى بالعدوان وغزوا أراضيه في سنة (660 هـ - 1261 م) استطاع بمعاونة قوات من المتطوعين والمجاهدين الذين وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوّها في ميدان الحرب، لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين، ولما عبرت الكتائب المرينية بعد ذلك بقليل (662 هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر بن إدريس، أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى ولكن لمدة قصيرة فقط (2).
وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة، ولكن الحوادث ما لبثت أن تجهمت للأندلس مرة أخرى، ذلك أن ملك قشتالة الفونسو العاشر، خشي هذه المبادرة على خططه وغزواته، وخشي بالأخص أن تتضاعف الإمدادات من وراء البحر، فيشتد ساعد أمير غرناطة، ومن ثم فقد عوّل أن يضاعف أهبته وضغطه على القواعد الأندلسية الباقية. ففي أواخر سنة (662 هـ - 1263 م) نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى (3)، ودخلها دون قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبي كثيراً منهم. وفي العام التالي (663 هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة في العمل على الاستيلاء
(1) راجع الذخيرة السنية (108 - 112) حيث يورد القصيدة بأكملها.
(2)
الذخيرة السنية (112).
(3)
سبق أن أشرنا إلى سقوط إستجة في يد النصارى سنة (1237 م)، أعني قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً، والظاهر أنّها بقيت خلال هذه المدة بيد حكامها المسلمين تحت حماية ملك قشتالة على نسق كثير من المدن الأندلسية الأخرى، التي لبثت حيناً بيد حكامها المسلمين بعد تسليمها صلحاً للنصارى.
على ما بقي من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحي الأندلس، وعادت الرسائل تترى إلى أمراء المغرب وزعمائه بالمبادرة إلى إمداد الأندلس وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خصوصاً وقد بدأ عدوان النصارى يحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر في ذلك الوقت على يد دون نونيو دي لارا (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663 هـ- 1264 م). وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر هدية ومالاً لمعاونته (1)، ولكن هذه المساعي لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعواماً أخرى تواجه عدوّها القوي بمفردها، وتتوجس من سوء المصير.
ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصاً من أن يخطو خطوة جديدة في مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له في أواخر سنة (665 هـ - 1267 م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شريش والمدينة والقلعة وغيرها. وقيل: أن ما أعطاه ابن الأحمر يومئذ من البلاد والحصون المسوّرة للنصارى بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها في غرب الأندلس (2)، وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى (3).
وهكذا خسرت الأندلس معظم قواعدها التالدة في نحو ثلاثين سنة فقط، في وابل مروِّع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسي الذي كان قبل قرن فقط، يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هي
(1) الذخيرة السنية (125).
(2)
أنظر الذخيرة السنية (127)، وقد سبق أن أشرنا إلى تنازل ابن الأحمر لملك قشتالة عن أرض الفرنتيرة، وفيها تقع شريش وقادس وغيرهما، ولكن هذا التنازل كان اسمياً، واضطر النصارى إلى الاستيلاء على هذه المدن بصورة فعلية، وكان سقوط شريش وقادس بيد الفونسو العاشر سنة 1262 م، والظاهر أنّ المقصود هنا: هو مصادقة ابن الأحمر على استيلاء النصارى على هذه القواعد.
(3)
يضع ابن الخطيب تاريخ عقد ابن الأحمر الصلح مع النصارى للمرة الثانية في سنة 662 هـ.
مملكة غرناطة (1).
وقضى ابن الأحمر الأعوام القليلة الباقية من حكمه، في توطيد مملكته وإصلاح شئونها، وكان منذ سنة (662 هـ) قد أعلن البيعة بولاية العهد لمحمد أكبر أولاده، وبذلك أسبغ على رياسة بني نصر صفة الملوكية الوراثية (2). ولم تقع في تلك الأيام حوادث ذات شأن، فقد لزم النصارى السكينة حيناً. ولكن ظهرت عندئذٍ أعراض الانتقاض على بني أشقيلولة أصهار بني الأحمر ومعاونيه، وكان ابن الأحمر قد زوّج في سنة (664 هـ) إحدى بناته لابن عمه الرئيس أبي سعيد بن إسماعيل بن يوسف ووعده بولاية مالقة، فنمى ذلك إلى واليها أبي محمد بن أشقيلولة، وهو أيضاً زوج ابنته، فغضب لذلك، وأعلن العصيان والاستقلال بحكم المدينة، فسار ابن الأحمر لقتاله، تعاونه قوة من حلفائه النصارى، وحاصروا مالقة ثلاثة أشهر، ولكنهم ارتدّوا عنها خائبين (665 هـ - 1266 م). وعاد ابن الأحمر فسار إلى مالقة مرة أخرى سنة (668 هـ) ولكنه لم ينل منها مأرباً (3).
وفي تلك الآونة، عاد النصارى إلى التحرّش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها فساداً، وعاد ابن الأحمر يتوجّس شراً من النصارى، فبعث إلى أمير المسلمين السلطان أبي يوسف المريني ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ولكن ابن الأحمر لم يعش ليرى نتيجة هذه الدعوة إذ توفي بعد ذلك بقليل.
وكان محمد بن الأحمر يتمتّع بخلال باهرة من الشجاعة والإقدام وشغف الجهاد، والمقدرة على التنظيم، وكان جمّ التواضع والبساطة. وكان يعرف بالشيخ ويلقَّب بأمير المسلمين، وهو اللّقب الذي غلب على سلاطين غرناطة فيما بعد. وهو الذي ابتنى حصن الحمراء الشهير، وجعله دار الملك، وجلب
(1) نهاية الأندلس (40 - 42).
(2)
الإحاطة (2/ 65) واللمحة البدرية (36).
(3)
الذخيرة السنية (125 - 129).
له الماء، وسكنه بأهله وولده. وأما تسميته بابن الأحمر، فقد اختلفت في شأنها الرواية، ويقال: إن هذه التسمية ترجع إلى نضارة وجهه واحمرار شعره، ويرى بعضهم أنها أسبغت عليه لإنشائه حصن الحمراء، ولكن سوف نرى عن تاريخ الحمراء، أن هذا الاسم أقدم من الدولة النصريّة ببضعة قرون، وأنه لا صلة بين هذا الاسم الذي أطلق على الحصن والقصور الملكية التي أنشأها محمد بن يوسف وبنوه من بعده، وبين تلقيبهم ببني الأحمر. كما أنه ليس ثمة بين القبائل العربية أية قبيلة تحمل هذا اللقب، ويمكن أن ينسب إليها بيت غرناطة الملكي (1). وكان ابن الأحمر يباشر الأمور بنفسه، ويدقق في جمع الأموال والجبايات، حتى امتلأت خزائنه بالمال والسلاح. وكان يعقد للناس مجالس عامة يومين في الأسبوع، يستمع فيها إلى الظلامات وذوي الحاجات، ويستقبل الوفود، وينشده الشعراء. وكان يجري في تصريف شئون الملك على قاعدة الشورى، فيعقد مجالس يحضرها الأعيان والقضاة ومَن إليهم من ذوي الرأي، للاسترشاد برأيهم ونصحهم (2)، وكان في مقدمة وزرائه أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد زعيم جيان، وهو الذي مكنه من التغلب عليها. وتوفي محمد بن الأحمر في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة (671 هـ - كانون الأول - ديسمبر - 1272 م) على أثر سقطه من جواده، حين عودته من معركة ردّ فيها جمعاً من الخوارج الذين حاولوا الزحف على الحمراء، فحمل جريحاً إلى القصر، وتوفي بعد ذلك بأسبوعين، وقد قارب الثمانين من عمره، ودفن بالمقبرة العتيقة بأرض
(1) أنظر مقدمة الأطلس الحمراء ( Alhambra) الذي وضعه ( Owen Jones and Goury) ، وكتبها المستشرق جاينجوس ( London 1842) ص (5) الهامش، وتسمى الدولة النصرية على الأغلب بدولة بني الأحمر، ويؤثر ابن خلدون تسميتها بذلك الاسم، أنظر ابن خلدون (4/ 170 وما بعدها).
(2)
ابن خلدون (7/ 190) واللمحة البدرية (31).