المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - ولاية محمد الفقيه وأحداث أيامه - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌1 - ولاية محمد الفقيه وأحداث أيامه

التاريخ (1).

وهكذا، فحين كان المسلمون أقوياء، شاع تسامحهم في الأندلس ليس بين المسلمين حسب، بل بين النصارى أيضاً، فصانوا النصارى ومعابدهم، وأطلقوا الحرية الدينية إطلاقاً كاملاً، وكان النصارى بينهم سعداء غاية السعادة، في أمن واستقرار ودعة.

فلما ضعف المسلمون وأصبح النصارى أقوياء، نصّروا المسلمين قسراً، وقتلوا وعذَّبوا وحرَّقوا، وأخيراً نَفَوْا ما تبقّى من المسلمين في إسبانيا، فلم يبق فيها مسلم واحد، كأنهم لم يكونوا فيها قروناً ولم يعمروها.

ذلك ما حدث في الفردوس المفقود، لا ينكره النصارى ويعرفه العالم كله، وتسجله أسفار العرب والمسلمين وأسفار النصارى أيضاً، وكأنه مجد من الأمجاد للنصارى يفاخرون به ولا ينكرونه ولا يتنكرون له.

‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

لما توفى محمد بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة، خلفه في الملك ولده وولي عهده أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقّب بالفقيه لعلمه وتقواه، وكان مولده في غرناطة سنة (633 هـ - 1235 م)، وهو الذي رتّب رسوم الملك للدولة النصريَّة، ووضع ألقاب خدمتها، ونظّم دواوينها وجبايتها، وخلع عليها بذلك صفتها الملوكية الزاهية. وكان يتمتع بكثير من الخلال الحسنة، من قوة العزم، وبعد الهمّة، وسعة الأفق، والبراعة السياسية. وكان عالماً أديباً، يقرض الشعر، ويؤثر مجالس العلماء والأدباء (2). ولأول عهده نشط ملك قشتالة الفونسو العاشر إلى محاربة

(1) نهاية الأندلس (66 - 75).

(2)

الإحاطة (1/ 565).

ص: 136

المسلمين، وكان مثل أبيه فرديناند الثالث، يرى أنّ دولة الإسلام في الأندلس قد دنت نهايتها، ويتربّص الفرصة بالمملكة الإسلامية الفتية، ويحاول كأبيه القضاء عليها قبل استفحال أمرها. ولم يكن ملك غرناطة بغافل عن الخطر الذي يتهدده في مشاريع قشتالة، وكان محمد بن الأحمر قد أوصى ولده بالحرص على محالفة بني مرِين ملوك العُدْوَة والاستنجاد بهم كلّما لاح شبح الخطر الداهم (1). وكان بنو مرين، وهم الذين استولوا على ملك الموحِّدين بعد ذهاب دولتهم، يومئذ في عنفوان قوتهم، وكانت مملكتهم الفتية، تشغل في نظر الأندلس ونظر إسبانيا النصرانية، نفس الفراغ الذي تركه ذهاب دولة المرابطين ثم دولة الموحِّدين، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الدولة الجديدة في ميدان السياسة والحرب نحو الأندلس الدور الذي أدّته المملكتان المغربيتان الذاهبتان. وبنو مرين بطن من بطون قبيلة زناتة البربرية الشهيرة، التي تنتمي إليها عدة من القبائل التي لعبت أدواراً بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة ومغيلة ومديونة وجراوة وعبد الواد وغيرهم. ومع ذلك فإن بني مرين يُرجعون نسبهم إلى العرب المضرية، وذلك بالانتساب إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار. وجدهم الأعلى جرماك بن مرين بن ورتاجي بن ماخوخ (2). وكانت القبائل المرينية في بداية أمرها من العشائر البدوية المتنقلة، تجول في هضاب المغرب وصحاريه جنوبي تونس، وتسير نحو المغرب أيام الصيف. وفي فاتحة القرن السابع الهجري، نشبت الحرب بينهم وبين بني عبد الواد، فتوغّلوا في هضاب المغرب، ونزلوا بوادي ملوية الواقع بين المغرب والصحراء، وأقاموا هنالك حيناً، وكانت قوى الموحِّدين قد تضعضعت منذ موقعة العِقاب (609 هـ)(3)، وسرت إلى دولتهم عوامل التفكك والانحلال. ولما توفّى ملكهم الناصر، وهو المهزوم في موقعة العقاب سنة (610 هـ)

(1) الذخيرة السنية (162) وابن خلدون (7/ 191).

(2)

الذخيرة السنية (10 و 11 و 16).

(3)

الذخيرة السنية (52 - 53) والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (2/ 3 و 5).

ص: 137

وولي بعده ولده يوسف المستنصر، وكان ولداً حدثاً ضعيف الهمّة والخلال، فانكبّ على لهوه وساءت أمور المملكة، وسرت إليها الفوضى. ففي تلك الآونة، بدأ فيها ملك الموحِّدين يهتزّ في يد القدر، نفذ بنو مرين إلى المغرب، وتوغّلوا في جنباته، واشتبكوا مع الموحِّدين لأول مرة سنة (613 هـ)، إذ حاول الملك المستنصر أن يقضي عليهم، فأرسل جيوشه لقتالهم، ولكنّها هزمت، ووصل بنو مرين إلى أحواز فاس، وكان أمير بني مرين يومئذ أبو محمد عبد الحق بن خالد بن محيو، ولكنّه قتل في بعض المواقع سنة (614 هـ)، فخلفه في الإمارة ولده أبو سعيد عثمان، واستمر يقود قومه في حرب الموحِّدين (1).

وفي سنة (639 هـ - 1241 م) سيّر الرشيد ملك الموحِّدين جيشاً لقتال بني مرين، فهُزِم الموحِّدون هزيمة شنيعة، واستولى المرينيون على معسكرهم. وتوفى الرشيد في العام التالي، فخلفه في الملك أخوه أبو الحسن السعيد، فاعتزم أن يضاعف الجهد للقضاء على بني مرين، فسيّر لقتالهم سنة (642 هـ - 1244 م) جيشاً ضخماً، ونشبت بين الموحدين وبين بني مرين معركة هائلة، هُزِم فيها بنو مرين، وقُتِل أميرهم أبو معروف محمد بن عبد الحق، وكانت ضربة شديدة هزّت من عزائمهم مدى حين. وتولّى إمارة بني مرين بعد مقتل أبي معروف، أخوه أبوبكر بن عبد الحق الملقّب بأبي يحيى، وفي عهده اشتدّ ساعد بني مرين، واستولوا على مكناسة (643 هـ)، ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد (648 هـ - 1250 م)، وكان سقوط فاس حاضرة المغرب القديمة أعظم ضربة أصابت مملكة الموحِّدين، وكان نذير الانهيار النهائي. ثمّ استولوا على سجلماسة ودرعة (655 هـ). ولما توفى أبو يحيى سنة (656 هـ) تولى أخوه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق من بعده رياسة بني مرين، وجعل مدينة فاس حاضرة ملكه. وفي سنة (657 هـ) نشبت

(1) الذخيرة السنية (93 - 94).

ص: 138

الحرب بين بني مرين وبين الأمير يغمراسن بن زيان ملك المغرب الأوسط، فهُزم يغمراسن وارتدّ إلى تلمسان. وفي العام التالي (658 هـ) هاجم النصارى الإسبان في سفنهم سلا فجأة، وقتلوا وسبَوْا كثيراً من أهله، فبادر أبو يوسف بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه. ثم كانت الموقعة الحاسمة بين الموحِّدين وبني مرين، ففي سنة (667 هـ - 1269 م) سار الواثق بالله المعروف بأبي دبّوس ملك الموحّدين من مراكش لقتال بني مرين، والتقى الجمعان في وادي (عفّو) بين فاس ومراكش، فهزم الموحِّدون بعد معركة شديدة، وقتل منهم عدد كبير، واستولى أبو يوسف على معسكرهم ومؤنهم وخزائنهم. ثم سار إلى مراكش، فدخلها في المحرّم سنة (668 هـ) وتسمَّى بأمير المسلمين، وبذلك انتهت دولة الموحِّدين في المغرب كما انتهت في الأندلس أيضاً، بعد أن عاشت زهاء قرن وثلث القرن، وقامت مكانها دولة بني مرين، تسيطر على أنحاء المغرب الأقصى كلّه، وتستقبل عهداً جديداً (1).

إلى تلك الدولة الجديدة الفتية، كانت تتّجه أنظار الأندلس، كلّما لاح لها شبح الخطر الداهم، فلعبت هذه الدولة في حوادث الأندلس الداخلية والخارجية أعظم دور. ولم تفت مؤسّس مملكة غرناطة أهمية التّحالف مع بني مرين والاستنصار بهم، فبعث قبل وفاته بقليل - كما ذكرنا - إلى السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق الملقّب بالمنصور يطلب إليه غوث الأندلس وإنجادها، وكان السلطان أبو يوسف حينما وصله صريخ ابن الأحمر في سنة (670 هـ) يسير إلى غزو تِلِمْسان، فلما وقف من الرُّسُل على حال الأندلس وما يهدِّدها من الأخطار، جمع أشياخ القبائل، واتّفق الجميع على وجوب إنجاد الأندلس والجهاد في سبيل الله. وأرسل السلطان إلى الأمير يغمراسن، صاحب تلمسان يعرض عليه عقد الصلح لكي يتمكّن من العبور إلى

(1) أنظر أصل بني مرين ونشأتهم في: الذخيرة السنية (10 و 16 و 94 و 99 و 123 و 124) والاستقصا (2/ 13 - 14) وابن خلدون (7/ 166 - 180)، وانظر نهاية الأندلس (86 - 88).

ص: 139

الأندلس، فأبى. واقتتل الفريقان على مقربة من وَجْدة في شهر رجب سنة (670 هـ - 1272 م) فهزم يغمراسن وفرّ جريحاً (1). وعاد أبو يوسف إلى المغرب مظفّراً، وهو يعتزم استجابة دعوة الأندلس وإنجادها.

على أنه مضى أكثر من عامين قبل أن تسنح له الفرصة المرجوّة، فلما تولّى محمد الفقيه الملك، أرسل عقب ولايته بقليل وفداً من أكابر الأندلس إلى ملك المغرب ورسالة استغاثة، فشرحوا له حال الأندلس من الضعف ونقص الهبة وتكالب العدو القوي عليها، واستصرخوه للغوث والجهاد (2). وتتابعت رسل ابن الأحمر وبني اشقيلولة إلى السلطان أبي يوسف ينوِّهون بالخطر الداهم الذي يهدّد الأندلس، ويلتمسون إليه المبادرة بالإسعاف والإمداد، فاستجاب السلطان أخيراً لدعوتهم، وكتب إلى ابن الأحمر يطمئنه، ويعرب له عن عزمه على الجواز إلى الأندلس في فاتحة سنة أربع وسبعين وستمائة الهجرية (3). وخرج السلطان من فاس في رمضان سنة (673 هـ) للجهاد في ميدان الأندلس، وأرسل للمرة الثانية إلى الأمير يغمراسن صاحب تلمسان، يعرض عليه الصلح توحيداً للكلمة وتعضيداً للجهاد، فقبل يغمراسن وتمّ الصلح. وبادر السلطان، فجهّز ولده أبا زيان (4) في خمسة آلاف مقاتل، فعبر البحر من قصر المجاز (قصر مصمودة) إلى الأندلس، ونزل ثغر طريف في شهر ذي الحجة سنة (673 هـ - 1275 م) ونفذ إلى أرض النصارى حتى شَريش، وعاث فيها، وعاد مثقلاً بالسبي والغنائم. وقدّم إليه ابن هشام وزير ابن الأحمر ثغر الجزيرة، فنزل فيه، وجاز ابن هشام العدوة، فلقي السلطان أبا يوسف في معسكره على مقربة من طنجة، وكان السلطان قد أكمل أهبته،

(1) الذخيرة السنية (148) والاستقصا (2/ 16).

(2)

أنظر نص رسالة ابن الأحمر إلى أبي يوسف في الذخيرة السنية (159 - 161).

(3)

أنظر نص رسالة أبي يوسف إلى ابن الأحمر في الذخيرة السنية (162 - 163).

(4)

الذخيرة السنية (164) ولكن ابن خلدون يقول: إنّ السلطان بعث الجند مع ولده

منديل (7/ 119)، ومنديل حفيد أبي يوسف لا ولده.

ص: 140

فعبر من قصر المجاز إلى الأندلس في صفر (674 هـ - حزيران - يوليه - 1275 م) في جيش كثيف من البربر، داعياً إلى الجهاد على سنّة أسلافه المرابطين والموحِّدين. وكان أبو يوسف قد اشترط على ابن الأحمر حينما استنجد به، أن ينزل له عن بعض الثغور والقواعد الساحلية، لتنزل فيها جنوده ذهاباً وإياباً، فنزل له عن رندة وطريف والجزيرة، ونزل أبو يوسف بجيشه في طريف، وهرع ابن الأحمر وبنو أشقيلولة إلى لقائه، واهتزت الأندلس كلها لعبور ملك المغرب. ولكن ابن الأحمر ما لبث أن غادره مغضباً لما رأى من تدخله في شئون الأندلس بصورة مريبة، ذلك أن بني أشقيلولة أصهار بني الأحمر، وفي مقدمتهم محمد بن أشقيلولة زعيم الأسرة وزوج أخت محمد بن الأحمر، وأخوه أبو الحسن زوج ابنته، كانوا يجيشون نحو عرش غرناطة بأطماع خفيّة. وكان أبو محمد ممتنِعاً بمالقة مغاضباً لملك غرناطة - كما ذكرنا - فلما عبر أبو يوسف إلى الأندلس، سار إليه وانضوى تحت لوائه. ولم يفلح أبو يوسف في التوفيق بين ابن الأحمر وبين أصهاره، وخشي ابن الأحمر عاقبة هذا التحالف بين أصهاره وبين أبي يوسف، فارتد إلى غرناطة حذراً متوجِّساً.

ونفد أبو يوسف بجيشه إلى بسائط الفرنتيرة (1)، وكانت بيد النصارى، وعاث فيها، ثم توغّل غازياً ينسف الضياع والمروج، ويسبي السكان، حتى وصل إلى حصن المقورة وأبدة على مقربة من شرقي قرطبة. وعندئذٍ عوّل القشتاليون على لقائه دفاعاً عن أراضيهم. وخرج القشتاليون في جيش ضخم تقدّره الرواية الإسلامية بنحو تسعين ألف مقاتل (2)، وعلى رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة الدون نونيو دى لارا الذي تسميه المصادر العربية:(دونونه أو دننه أو ذنونه). وكان أبو يوسف قد ارتدّ عندئذٍ بجيشه إلى ظاهر

(1) الفرنتيرة: La Frontera، وهي السهل الواقع غربي مثلث إسبانيا الجنوبي (الجزيرة)، ويمتدّ من قادس جنوباً حتى طرف الغار.

(2)

الذخيرة السنية (169 - 170).

ص: 141

إستجة، ومعه حشد عظيم من الغنائم والأسرى، فأغلقت المدينة أبوابها واستعدّت للقتال. ووضع أبو يوسف الغنائم في ناحية تحت إمرة حرس خاص حتى لا تعيق حركاته، وعقد لولده أبي يعقوب على مقدمته، وخطب جنده وحثهم على الجهاد والموت في سبيل الله. ثم تقدّم لملاقاة النصارى، ويعضده بعض قوّات الأندلس برئاسة بني أشقيلولة. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى على مقربة من إستجة جنوب غرب قرطبة في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة (674 هـ - 9 أيلول - سنتمبر - 1275 م) فنشبت بين الفريقين معركة سريعة هائلة، هُزم النصارى على أثرها هزيمة شنيعة، وقتل قائدهم الدون نونيو دى لارا وأعدَاد كبيرة من جيشه (1)، وكان نصراً عظيماً أعاد إلى الأذهان ذكريات معركة الزلاقة ومعركة الأرك. وكان أوّل نصر باهر يحرزه المسلمون على النصارى منذ موقعة العقاب، ومنذ انهيار الدولة الإسلامية بالأندلس، وسقوط قواعدها العظيمة. وتبالغ الرواية الإسلامية في تقدير خسائر النصارى، فتقول: إنه قتل منهم في المعركة ثمانية عشر ألفاً، جمعت رءوسهم وأذّن عليها المؤذِّن لصلاة العصر، هذا في حين وفقاً لقولها أيضاً، لم يقتل من المسلمين سوى أربعة وعشرين رجلاً (2).

وبعث السلطان أبو يوسف برأس دون نونيو إلى ابن الأحمر، فقيل إنه بعثه بدوره إلى ملك قشتالة مضمّخاً بالطيب، مصانعة له وتودّداً إليه.

(1) ابن خلدون (7/ 191) واللمحة البدرية (44) والإحاطة (1/ 573) والذخيرة السنية (170 - 172).

(2)

الذخيرة السنية (173)، ويستغرب الأستاذ محمد عبد الله عنّان من هذا التفاوت في الخسائر بين الطرفين، والواقع أنّ المهزوم يتكبد خسائر فادحة في هزيمته، لأنّ الفوضى والارتباك تقع في صفوفه، فقد يقتل الجندي صاحبه خطأ، وقد تستسلم الجماعة المنهزمة لأفراد، فيقتلون. وكانت معركة جنين سنة 1948 م بين العراقيين والصهاينة، فخسر فيها الصهاينة آلافاً، وخسر العراقيون (23) شهيداً، استقروا في مقبرة قباطبة بالقرب من جنين في أرض فلسطين، وهذه حقيقة قد تكون موضع استغراب المؤرخين بعد حين.

ص: 142

ولبث أبو يوسف بالجزيرة بضعة أسابيع، قُسّمت فيها الغنائم واستراحت الأجناد، ثم خرج للمرة الثانية في جمادى الأولى سنة (674 هـ)، وتوغّل غازياً في أرض قشتالة، حتى وصل إلى أحواز إشبيلية، فأغلقت المدينة أبوابها. وعاث أبو يوسف في تلك الأنحاء، ثمّ سار إلى شريش، فضرب حولها الحصار، فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها، وطلبوا إليه الأمان والصلح، فأجابهم إلى طلبهم، وعاد إلى قواعده مثقلاً بالغنائم والسّبى. وقضى بضعة أسابيع في الجزيرة الخضراء، ثم عبر البحر إلى المغرب في أواخر شهر رجب (674 هـ) بعد أن قضى في الأندلس زهاء خمسة (1).

على أن هذا النصر الباهر، الذي أحرزه السلطان أبو يوسف المريني على النصارى، لم يحدث أثره المنشود في بلاط الأندلس، ذلك أن ابن الأحمر، جنح إلى الارتياب في نيات ملك المغرب، وبخاصة مذ أسبغ السلطان حمايته على بني أشقيلولة وغيرهم من الخوارج على ملك غرناطة، ومثلت بذهنه مأساة الطوائف وغدر المرابطين (2) بهم. وبعث ابن الأحمر إلى السلطان قبيل مغادرته الجزيرة الخضراء، يعاتبه لتصرفه في حقه بقصائد مؤثرة يستعطفه فيها ويستنصره، والسلطان يجيبه عنها بقصائد مثلها (3).

وفي أوائل سنة 676 هـ، توفى أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة، فعبر ولده محمد إلى المغرب، ونزل عنها للسلطان، فبعث إليها السلطان حاكماً من قبله، فزاد ذلك في توجّس ابن الأحمر، وأرسل وزيره أبا سلطان عزيز الداني في بعض قواته إلى مالقة ليحاول الاستيلاء عليها، فلم يوفّق. ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى عبر السلطان أبو يوسف المنصور البحر إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة (677 هـ) - (1278 م) ونزل بمالقة، فاحتفل به

(1) الناشر: جاءت في المخطوطة غير محددة. ولعلها خمسة أسابيع.

(2)

ابن خلدون (7/ 198).

(3)

أنظر أمثلة من القصائد في نهاية الأندلس (92 - 93)، وأنظر ابن خلدون (7/ 198 - 200).

ص: 143

أهلها، ثم توغّل بجيشه في أرض النصارى يعبث فيها، ومعه بنو أشقيلولة في جندهم، حتى أحواز إشبيلية. واجتنب القشتاليون لقاءه، ثم دعا ابن الأحمر إلى لقائه، فوافاه عند قرطبة والريب يملأ نفسه. وتبادل الملكان عبارات العتاب والتعاطف، ولكن ابن الأحمر لم تطمئن نفسه، وعاد السلطان إلى المغرب دون أن تصفو القلوب.

وزاد توجّس ابن الأحمر لحوادث مالقة وانحيازها إلى السلطان، وجال بخاطره أن التفاهم مع ملك قشتالة خير وأبقى. وفي أواخر سنة 677 هـ، استطاع ابن الأحمر أن يستولي أخيراً على مالقة، وذلك بإغراء صاحبها بالنزول عنها، والاستعاضة بالمنكب وشلوبانية (1). ثم سعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة والتحالف معه على منع عبور السلطان المنصور إلى الأندلس، ونزلت القوات القشتالية بالفعل في الجزيرة الخضراء وكاتب ابن الأحمر أيضاً الأمير يغمراسن ملك المغرب الأوسط، وخصم السلطان المنصور، يسأله العون والتحالف. وعلم المنصور بذلك، فأراد العبور فوراً إلى الأندلس، ولكن عاقته حوادث المغرب حيناً. وفي أوائل سنة (678 هـ)، بعث ولده الأمير أبا يعقوب إلى الأندلس في أسطول ضخم، ونشبت بينه وبين أسطول النصارى المرابط في بحر الزقاق معركة هائلة، هزم النصارى على أثرها، واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة الخضراء، فغادرها النصارى في الحال.

وأراد أبو يعقوب أن يتبع نصره بعقد الصلح مع ملك قشتالة، والتحالف معه على قتال ابن الأحمر ومهاجمة غرناطة، فأنكر عليه أبوه السلطان ذلك. ثم زحف جند المغرب على ثغر مربلَّة، وهو من أملاك ابن الأحمر تريد الاستيلاء عليه، فامتنع عليهم. وانتهز القشتاليون تلك الفرصة، فزحفوا على

(1) المنكب بالإسبانية ( Almunecar) ، وشلوبانية بالإسبانية ( Salobrena) ، ثغران صغيران من ثغور مملكة غرناطة القديمة، يقع كلاهما جنوبي غرناطة على البحر الأبيض المتوسط، وتفصلهما عن بعضهما مسافة صغيرة.

ص: 144

غرناطة ومعهم بنو أشقيلولة، فلقيهم ابن الأحمر وردّهم على أعقابهم (679 هـ). بيد أنه بالرغم من هذا النصر المؤقت، أخذ يشعر بدقّة موقفه، وخطورة القوى التي يواجهها من القشتاليين والمغاربة. ومن جهة أخرى فإن السلطان المنصور يخشى عاقبة هذا التصرف على مصير المسلمين، وعلى ذلك فقد بعث إلى ابن الأحمر في وجوب عقد المودة والتفاهم، فلقي له مثل رغبته، وبادر السلطان إلى عقد أواصر الصلح والتحالف بين المسلمين، على أن ينزل ابن الأحمر عن مالقة للسلطان المنصور، لتكون قاعدة للعبور والغزو. وصفا جوّ العلائق على أثر ذلك بين ابن الأحمر وبني مرين، وشغل السلطان المنصور حيناً بمحاربة الخارجين عليه.

ولم يمض قليل على ذلك، حتى عادت شئون الأندلس تستغرق اهتمام المنصور، وكانت شئون الأندلس قد غدت في الواقع عنصراً بارزاً في سياسة بني مرين، وكانت مملكة غرناطة حتى في ذلك الوقت الذي انكمشت فيه الدولة الإسلامية في الأندلس، تلعب دورها في شئون إسبانيا النصرانية كلما اضطربت فيه الحوادث. ولما سطع نجم الدولة المرينية فيما وراء البحر، اتجه إليها اهتمام النصارى، وكانت كلما وقعت في قشتالة حرب أهلية، لجأ هذا الفريق أو ذاك إلى مؤازرة غرناطة أو بني مرين على غرار ما كان يحدث في الماضي، ومن ذلك ما حدث في سنة (669 هـ - 1270 م) من خروج الإنفانت فيليب على أخيه الفونسو العاشر مع جماعة النبلاء والتجائهم إلى السلطان المنصور في طلب العون، واستجابته لدعوتهم واتخاذهم غرناطة قاعدة لجهودهم. وكادت تنشب من جراء ذلك حرب بين المسلمين والنصارى، لولا تدخّل فيولا ملكة قشتالة، واسترضائها للخوارج بمختلف المنح. وفي سنة 1282 م (أوائل سنة 681 هـ) ثار سانشو على والده الفونسو العاشر، وآزره معظم النبلاء، واستطاع أن ينتزع العرش لنفسه، فاتجه أبوه المخلوع إلى السلطان أبي يوسف المنصور، وأرسل إليه بالمغرب وفداً من الأحبار يستمدّ منه الغوث ضد ولده، فاستجاب السلطان لصريخه، وعبر

ص: 145

البحر في قوّاته إلى الأندلس في ربيع الثاني سنة (681 هـ) وهرع الفونسو إلى لقائه بالجزيرة الخضراء على مقربة من رندة مستجيراً به ملتمساً لنصرته، وقدّم إليه تاجه رهناً لمعونته، فغزا أبو يوسف أراضي قشتالة وحاصر قرطبة، ثم زحف على طليطلة وعاث في نواحيها، ووصل في زحفه إلى حصن مجريط (1)(مدريد). وتحاشى ابن الأحمر في البداية لقاء السلطان لفتور العلائق بينهما، ولتوجّسه من محالفة الفونسو، ورأى من جانبه أن يتفاهم مع سانشو ملك قشتالة الجديد، وزحف على المنكب، وهي من الثغور التي تحتلها قوات المغرب، فغضب السلطان وارتد لقتاله. وكادت تنشب بين الملكين المسلمين فتنة مستطيرة، لولا أن خشي ابن الأحمر العاقبة، وعاد إلى التفاهم مع المنصور، وصفا الجوّ بينهما نوعاً ما، وعاث المنصور في أراضي قشتالة مرة أخرى، وغصّ جيشه بالسّبي والغنائم ثم عاد إلى المغرب بعد أن ولّى على الجزيرة حاكماً من قبله.

واستمرّت الحرب الأهلية أثناء ذلك في قشتالة بين الإبن والأب، ولبث هذا النضال الدموي زهاء عامين، حتى توفي الفونسو العاشر طريداً مهزوماً في سنة (683 هـ - 1284 م)، فكان لوفاته وقع عميق في غرناطة والمغرب، وأرسل كل من الملكين المسلمين عزاءه في الملك العالم المنكود، - وقد كان ألفونسو عالماً مؤرخاً - إلى بلاط قشتالة. وكان موقف المملكتين الإسلاميتين غريباً إزاء حوادث قشتالة، إذ كان ملك المغرب يؤازر الملك المخلوع، وكان ملك غرناطة بالرغم من عطفه على الفونسو العاشر، يؤازر ولده الخارج عليه. والحقيقة أنّ ابن الأحمر، كان يشهد تقاطر الجيوش البربرية إلى الجزيرة الخضراء بعين الجزع، ويتوجّس شراً من وجودهم بها. وقد كانوا يحتلون معاقلها وثغورها، ويظاهرون الخوارج عليه في مالقة والمنكب وغيرهما من القواعد الجنوبية، وكان يتوقع أسوأ العواقب من

(1) ابن خلدون (7/ 209 - 210) ونفح الطيب (2/ 539).

ص: 146

تدخل ملك المغرب في شئون الأندلس على هذا النحو، وكان مثَلُ المرابطين ومأساة الطوائف عبرة خالدة، تساوره دائماً، وتذكي جزعه. على أنّ موت الفونسو العاشر، وانتهاء الحرب الأهلية في قشتالة، خفف من هذا التوتّر بين المملكتين، وكان ابن الأحمر يذكر في الوقت نفسه، غدر ملك قشتالة، وخطر النصارى على مملكته، فيجنح بعد التأمّل إلى إيثار التفاهم مع ملك المسلمين.

وفي صفر سنة (684 هـ) عبر السلطان المنصور للمرة الرابعة إلى الأندلس، وزحف في أراضي النصارى، وغزا مدينة شريش، وسار ولده أبو يعقوب إلى أحواز إشبيلية فعاث فيها. ثم زحف المنصور على قرمونة والوادي الكبير، وخرب جنده بسائط إشبيلية ولبلة وإستجة والفرنتيرة. وسُرّ ابن الأحمر لاجتياح أراضي قشتالة على هذا النحو، وبعث إلى السلطان مدداً من غرناطة، وجاءت الأساطيل المغربية فطاردت أساطيل العدو في بحر الزقاق واحتلته. ورأى سانشو ملك قشتالة تفاقم الأمر وعقم المقاومة، فجنح إلى طلب السلم، وبعث إلى السلطان وفداً من الأحبار يطلب الصلح ويفوِّض السلطان في اشتراط ما يراه، فاستجاب السلطان لرغبتهم، واشترط عليهم: مسالمة المسلمين كافةً، وأن يمتنع النصارى عن كل اعتداء على الأندلس، وعلى أراضي المسلمين ومرافقهم، وأن ترفع الضريبة عن التجار المسلمين بدار الحرب (بلاد الأعداء)، وأن تنبذ قشتالة سياسة الدسّ بين الأمراء المسلمين، فقبل النصارى جميع الشروط المطلوبة، وتعهّدوا بتنفيذها. وقدم سانشو بنفسه إلى معسكر السلطان، فاستقبله المنصور بحفاوة، وقدّم إليه طائفة من الهدايا، وتعهّد سانشو بتحقيق شروط الصلح كاملة، وسأله السلطان أن يرسل إليه قدراً من الكتب العربية التي استولى عليها النصارى من القواعد الأندلسية، فأرسل إليه ثلاثة عشر حملاً منها، وأرسلها السلطان إلى فاس، فكانت نواة المكتبة السلطانية واتّخذ المنصور تدابيره الأخيرة نحو شئون الأندلس، وندب ابنه

ص: 147

الأمير أبا زيان للنظر على الثغور الأندلسية، وأوصاه بألاّ يتدخّل في شئون ابن الأحمر. وكان من آثار التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور، أن ترك المنصور ببلاط غرناطة بعض قرابته من مشاهير الغزاة، وعليهم رئيس من بني العلاء أقارب بني مرين يسمى شيخ الغزاة، وتولّى بنو العلاء قيادة الجيوش الأندلسية عصراً، وكانت لهم في ميدان الحرب والجهاد مواقف مشكورة (1).

وقفل السلطان المنصور راجعاً إلى الجزيرة ليستجمَّ ثم يعود إلى المغرب، ولكن لم تمضِ أشهر قلائل، حتى أدركه المرض، وتوفي بالجزيرة في المحرم سنة (685 هـ - آذار - مارس 1285 م) بعد حياة حافلة بصنوف الجهاد في المغرب والأندلس.

وكان السلطان أبو يوسف المنصور من أعظم ملوك المغرب قاطبة، وكان يعيد بشغفه بالجهاد، وكثرة تعداد أفراد جيوشه وأهبته الحربية، ذكرى أسلافه العظام من أمثال يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن، ويعقوب المنصور.

وخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب، وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس، خبيراً بها. واستمرت علائق بني الأحمر ببني مرين أعواماً أخرى على حالها من المودة والصفاء، وزادت توطداً حينما قبل سلطان المغرب أن ينزل لابن الأحمر طوعاً عن وادى آش. وذلك أن محمداً الفقيه كان قد عيّن صهره أبا إسحاق بن أبي الحسن بن أشقيلولة حاكماً على قُمارش ووادي آش، فلما توفى أبو إسحاق سنة (682 هـ) استردّ ابن الأحمر قمارش، وخرج عليه أبو الحسن ولد أبي إسحاق في وادي آش، وتحالف أولاً مع ملك قشتالة، فلما عقد السلم بين المسلمين والنصارى، أعلن أبو الحسن انضواءه تحت لواء ملك المغرب، فأغضى ابن الأحمر حيناً عن تصرفه. فلما اتّصلت وشائج المودة من جديد بينه وبين السلطان أبي يعقوب، سأله التنازل عن وادي آش، فأجابه سؤله، ورحل عنها الثائر أبو الحسن إلى المغرب ملتجئاً

(1) ابن خلدون (7/ 209 - 210) ونفح الطيب (2/ 539).

ص: 148

إلى بلاط فاس، وبذا استطاع ابن الأحمر أن يبسط سلطانه على الأندلس كلها (1). وفي أوائل سنة (690 هـ - 1291 م)، أغار سانشو ملك قشتالة على الثغور الأندلسية، ناكثاً لعهده، فأرسل السلطان أبو يعقوب إلى قائده على الثغور أن يغزو شريش وأرض النصارى، فزحف عليها وعاث فيها. وأعلن أبو يعقوب الجهاد، وتقاطرت بعوث المجاهدين إلى الأندلس، فبعث سانشو أسطوله إلى بحر الزقاق ليحول دون وصول الإمداد، فبعث السلطان أسطوله لمهاجمة الأسطول القشتالي، فهزم المسلمون في (آب - أغسطس - 1291 م)، ولكن هذه الهزيمة لم تثن ملك المغرب عن عزمه، فبعث أسطولاً آخر لمقاتلة النصارى، فانسحبت النصارى هذه المرة. وعبر السلطان أبو يعقوب إلى الأندلس في رمضان سنة (690 هـ) واقتحم أرض النصارى، وغزا شريش، ووصل في زحفه حتى أسوار إشبيلية وعاث فيها، ثمّ عاد إلى الجزيرة، وارتدّ عائداً إلى المغرب في أوائل سنة (691 هـ).

وتوجّس ملك قشتالة من مشاريع سلطان المغرب، فسعى إلى محالفة ابن الأحمر، وحذّره من نيّات المغاربة، واستيلائهم على الثغور الأندلسية، ولا سيما ثغر طريف مدخل الجزيرة، وتفاهم الملكان على انتزاع هذا الثغر من المغاربة، واشترط ابن الأحمر أن تسلّم إليه طريف عقب انتزاعها. وسيّر سانشو أسطوله إلى بحر الزقاق ليحاصر طريف من ناحية البحر، وليحول دون وصول الإمداد إليها. وعسكر ابن الأحمر بقواته بمالقة على مقربة منها، يعاون النصارى بالإمداد والمؤن. وثبتت حامية طريف أربعة أشهر، ولكنّها اضطرت في النهاية إلى التسليم للنصارى في أيلول سنة (1292 م)، وهنا طالب ابن الأحمر سانشو بتسليمها له حسب شرطه في التعاون بين ابن الأحمر وسانشو، فأبى

(1) ابن خلدون (7/ 212 - 213).

ص: 149

سانشو وأعرض عن ابن الأحمر، مع أن ابن الأحمر نزل لسانشو مقابل طريف عن عدد من الحصون المهمّة، فأدرك ملك غرناطة عندئذٍ خطأه في الركون إلى وعود ملك قشتالة، وفي مغاضبة ملك المغرب حليفه الطبيعي، وسنده المخلص في ردّ عدوان النصارى.

وعاد ابن الأحمر يخطب ودّ بني مرين مرة أخرى، وأوفد ابن عمّه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل ووزيره أبا عزيز الداني على رأس وفدٍ من كبراء الأندلس، إلى السلطان أبي يعقوب في طلب المودّة، وتجديد العهد، والاعتذار عن مسلكه في شأن طريف، فأكرم السّلطان وفادتهم، وأجابهم إلى طلب الصلح. ولما عاد الوفد إلى غرناطة سُرّ ابن الأحمر من كرم السلطان ونبل مسلكه، واعتزم الرحلة للقائه بنفسه، وتأكيد المودّة والاعتذار، فعبر البحر إلى العُدوة في أواخر سنة (692 هـ - 1292 م) ومعه طائفة من الهدايا الفخمة، ونزل بطنجة حيث استقبله بعض أبناء السلطان، ثم جاء السلطان بنفسه إلى طنجة، وتلقاه بمنتهى الإكرام والحفاوة، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة وأراضي الغربية، وعدّة حصون كانت من قبل في طاعة ملك المغرب. وعاد ابن الأحمر مغتبطاً بنجاح مهمّته، وأرسل السلطان معه حملة لغزو طريف بقيادة وزيره عمر بن السّعود، فحاصرتها حيناً ولكنها لم تظفر بافتتاحها (1).

وكان لمحمد الفقيه، بالرغم من سمته العلمية، وقائع طيبة في ميدان الجهاد ضد النصارى، ففي المحرم من سنة (695 هـ - أواخر 1295 م) على أثر وفاة سانشو ملك قشتالة، زحف بجيشه على أرض قشتالة، وغزا منطقة جيَّان، ونازل مدينة قيجاطة (2)، واستولى عليها، وعلى عدّة من الحصون التابعة لها، وأسكن بها المسلمين، وفي صيف سنة (699 هـ - 1299 م) غزا

(1) ابن خلدون (7/ 217).

(2)

مدينة قيجاطة: هي بالإسبانية ( Quesada) ، وتقع شمال شرقي مدينة جيَّان، وجنوب شرقي مدينة أبدة. والقبذاق هي بالإسبانية ( Alcoudete) .

ص: 150

أراضي قشتالة مرة أخرى، وزحف على مدينة القبذاق الواقعة جنوب غربي جيَّان، ودخل قصبتها وتملكها، وأسكن المسلمين.

واستمر محمد بن محمد بن الأحمر، أو محمد الفقيه في حكم غرناطة أعواماً أخرى، وهو ثابت العهد، مقيم على صداقة بني مرين، ومما هو جدير بالذكر أنه قبيل وفاته بقليل، عقد معاهدة صلح وتحالف مع ملك أراغون خايمي الثاني ضدّ قشتالة، وذلك تجديداً وتعديلاً لمعاهدة صلح وتحالف سابقة مع ملك أراغون خايمي الثاني كانت قد عقدت بين الطرفين في سنة (699 هـ - 1299 م)، وقد نُصَّ في هذه المعاهدة الجديدة على عقد:(صلح ثابت وصحبة ثابتة صادقة) وأن يلتزم كل من الفريقين عدم الإضرار بالآخر على يد أحد من رعاياه، وأن تكون أراغون معادية لأعداء غرناطة سواء من المسلمين أو قشتالة، وأن يُفتَح بلد كل من الفريقين لمن يقصده من تجار البلد الآخر مؤمنين على أنفسهم وأموالهم، وأخيراً يتعهّد ملك غرناطة بمعاونة أراغون ضد ملك قشتالة، وألا يعقد معه صلحاً إلاّ بموافقة حليفه، ويتعهد ملك أراغون لسلطان غرناطة بمثل ما تقدم، كما يتعهد السلطان بمعاونة حليفه بفرسان من عنده في أرض مرسية إذا احتاج إلى هذا العون، وألاّ يعترض سلطان غرناطة على ما يأخذه ملك أراغون من أراضي قشتالة، إلاّ المواضع التي كانت لغرناطة، فهذه تردّ إليها. وقد وقِّعت هذه المعاهدة في أواخر ربيع الثاني سنة (701 هـ - 31 ديسمبر كانون الأول - 1301 م)(1). ولم يمض على عقد هذه المعاهدة نحو ثلاثة أشهر حتى توفي السلطان محمد الفقيه في شعبان سنة (701 هـ - مايو - 1302 م) بعد أن حكم أكثر من ثلاثين عاماً، وقد زاد ملك بني الأحمر في عهده توطداً واستقراراً، بالرغم مما توالى عليه من الأحداث والخطوب. وكان وزيره في آخر عهده الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم اللخمي،

(1) أنظر الوثيقة في: محفوظات التاج الأراغوني، برقم 148.

ص: 151