المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌2 - مأساة النفي

‌2 - مأساة النّفي

أ - تلك هي البواعث والظروف التي حملت إسبانيا النصرانية، على التوجس من العرب المتنصرين، واعتبارهم خطراً قومياً يجب العمل على درئه والتخلص منه؛ وكان هذا التوجس يزيد على كرّ الأعوام، وتذكيه الحوادث المتوالية: ثورات الموريسكيين ولا سيما ثورة غرناطة الكبرى، وغارات المجاهدين البحرية على الشواطئ الإسبانية، وصلات الموريسكيين الدائمة بمسلمي إفريقية وبلاط القسطنطينية. وسواء أكان هذا الخطر حقيقة يهدد سلامة إسبانيا، أم كان للتحامل والبغض أثر في تصويره، فقد غدت قضية العرب المتنصرين، غير بعيد في نظر السياسة الإسبانية، مشكلة قومية خطيرة يجب التذرع لمعالجتها بأشد الوسائل وأنجعها.

وكانت السياسة الإسبانية، تعتزم منذ أواخر عهد فيليب الثاني، أن تتخذ خطوتها الحاسمة في شأن الموريسكيين، وكان هذا الملك المتعصب نفى الموريسكيين بعد الذي عانته إسبانيا في قمع ثورتهم، ووضع بالفعل في سنة (1582 م) مشروعاً لنفيهم، ولكن مشاغل السياسة الخارجية حالت دون تحقيق مشروعه. وكان قد مضى يومئذ زهاء قرن على سقوط غرناطة، واستحالت بقية الأمة الأندلسية إلى شعب جديد، لا تكاد تربطه بالماضي سوى ذكريات غامضة. وكان التنصير قد عم الموريسكيين يومئذ، وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والضغط والإرهاب، نصارى يشهدون القداس في الكنائس، ويتكلمون القشتالية، غير أنهم لبثوا مع ذلك في معزل، وأبت إسبانيا النصرانية، بعد أن فرضت عليهم دينها ولغتها ومدنيتها، أن تضمهم إلى حظيرتها القومية. وكانت ما تزال ثمة منهم جموع كبيرة في بلنسية ومرسية وغرناطة، وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة، وكانوا مايزالون رغم العسف والإرهاق والاضطهاد والتشريد والذلّة، قوة أدبية واجتماعية خطيرة، وعنصراً بارزاً في إنتاج إسبانيا القومي، ولا سيما في الصناعات والفنون. ولكن السياسة الإسبانية كانت

ص: 380

تخشاهم بالرغم من ضعفهم وخضوعهم، بعد أن أخفقت بوسائلها الهمجية البغيضة في كسب محبتهم وولائهم. وكان ديوان التحقيق من جهة أخرى، ومن ورائه الأحبار والكنيسة، يعتبرهم بالرغم من تنصرهم، أبداً وصمة في نقاء النصرانية، وتتصور الإسلام دائماً يجري كالدم في عروقهم.

وقد تضاربت آراء الساسة والأحبار الإسبان في شأن الخطوة الحاسمة التي يجب اتخاذها، للقضاء على خطر الموريسكيين، ورأى بعض أكابر الأحبار أن خطر الموريسكيين لا يزول إلاّ بالقضاء على الموريسكيين أنفسهم. وكان مما اقترحه المطران ربيرا ( RIVERA) أن يُقضَى عليهم بالرق، وأن يؤخذ منهم كل عام بضعة آلاف للعمل في السفن ومناجم الهند، حتى يتم إفناؤهم بهذه الطريقة؛ وذهب بعضهم الآخر إلى وجوب قتل الموريسكيين دفعة واحدة أو قتل البالغين منهم، واسترقاق الباقين وبيعهم عبيداً، وكان مما اقترحه بعض وزراء فيليب الثاني، أن يُجمَع الموريسكيون، ويُحمَلوا على السفن ثم يُغرَقوا في عرض البحر (1). واستمرت السياسة الإسبانية حيناً من الزمن تتلمس المخرج وسط هذه الحلول الهمجية، حتى تُوفي فيليب الثاني (سنة 1598 م) وخلفه ولده فيليب الثالث وكان هذا الملك الفتى، ضعيف الرأي والإرادة، يتأثر كأبيه بنفوذ الأحبار، ويخضع لنفوذ وزيره وصفيّه الدوق دى ليرما. وكان الدوق من أشد أنصار القضاء على الموريسكيين، وقد أشار بها منذ (سنة 1599 م)، ووضع لتنفيذها مشروعاً خلاصته: أن الموريسكيين إنما هم عرب، ويجب أن يعدم الشبان والكهول منهم، ما بين الخامسة عشرة والستين، أو أن يُسترَقوا ويُرسَلوا للعمل في السفن، وتُنزَع أملاكهم. أما الرجال والنساء الذين جاوزوا الستين، فيُنفَوا إلى المغرب، وأما الأطفال فيؤخذوا ويربوا في المعاهد الدينية، وهو مشروع أقرّه مجلس الدولة، وأخذ يعمل سراً لحشد القوى اللازمة لحصر عدد الموريسكيين في إسبانيا.

(1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 296-299.

ص: 381

وفي سنة (1601 م)، قدم المطران ربيرا تقريراً إلى الملك يقول فيه: إن الدين هو دعامة المملكة الإسبانية، "وإن الموريسكيين لا يعترفون، ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة، ولا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون النبيذ، ولا يعملون شيئاً من الأمور التي يعملها النصارى"، ثم يوضح الأسباب التي تدعو إلى عدم الثقة في ولائهم بقوله:"إن هذا المروق العام، لا يرجع إلى مسألة العقيدة، ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ العام في أن يبقوا مسلمين، كما كان آباؤهم وأجدادهم، ويعرف المحققون العامون، أن الموريسكيين بعد أن يعتقلوا عامين وثلاثة، وتشرح لهم العقيدة في كل مناسبة، يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها، والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة، لأنهم لا يريدون معرفتها، ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئاً يجعلهم يبدون نصارى"(1)، ثم يقول المطران في تقرير آخر: إن الموريسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل، وإن كل وسيلة للرفق بهم قد أخفقت، وإن إسبانيا تتعرض - من جراء وجودهم فيها - إلى أخطار كثيرة، وتتكبد في رقابتهم والسهر على حركاتهم، وإخماد ثوراتهم، كثيراً من الرجال والمال. ثم يقترح أن تؤلف محكمة سرية من الأحبار، تقضي بردّة الموريسكيين وخيانتهم، ثم تحكم علناً بوجوب نفيهم ومصادرة أملاكهم، وأنه لا ضير على الملك في ذلك ولا حرج. ولكن مشروع المطران لم ينفذ، لأن مجلس الدولة كان يرى أن يسير في تحقيق غايته سراً، وألاّ تصطبغ إجراءاته في ذلك بالصبغة الدينية.

ومضت بضعة أعوام أخرى، والفكرة تُبحَث وتختمر وتتوطد، حتى كانت حوادث المغرب في أواخر سنة (1607 م) وما نسب للموريسكيين من صلة بمولاي زيدان ومشاريعه لغزو إسبانيا، وعزمهم على الثورة. عندئذ بادر مجلس الدولة بالاجتماع في أواخر (كانون الثاني - يناير 1608 م)، واستُعرِضت جميع الآراء والمشاريع السابقة، وبُحِثت جميع الاقتراحات، وكرّر المطران ربيرا اقتراحه بوجوب نفي الموريسكيين إلى المغرب، وقال: إن

(1) P. Longas. Vida Religiosa de Los Moriscos; P. LXV111.

ص: 382

النفي أرفق ما يمكن عمله، وأيد رأيه معظم الأعضاء الآخرين، وذكروا أن نفي الموريسكيين أصبح ضرورة لا مفر منها، لأنهم يتكاثرون بسرعة، بينما يتناقص عدد النصارى القدماء. وبحثت تفاصيل المشروع ووسائله، وما يجب اتخاذه من التحوطات لضمان تنفيذه، خصوصاً وقد بدأت أنباء المشروع تتسرب إلى الموريسكيين، وظهرت بينهم أعراض الهياج في سرقسطة وبلنسية. وكانت الخطوة التالية أن عُهد بدرس المشكل كلّه، إلى لجنة خاصة على رأسها الدوق دى ليرما، ووضعت هذه اللجنة أسس المشروع التمهيدية بعد كبير جدل، وخلاصتها أن يمنح الموريسكيون شهراً لبيع أملاكهم ومغادرة إسبانيا إلى حيث شاءوا، فمن جاز منهم إلى إفريقية منح السفر الأمين، ومَن جاز إلى أرض نصرانية أُوصِي به خيراً، ومَن تخلف عن الرحيل بعد انقضاء هذه المدة عوقب بالموت والمصادرة؛ ولم يعترض أحد على هذه الأسس بذاتها، ولكن هذه الأسس الرفيقة نوعاً ما لم يؤخذ بها.

وفي كانون الثاني - يناير من سنة (1609 م) بحث مجلس الدولة المسألة لآخر مرة، وقدم تقريراً ينصح فيه بوجوب نفي الموريسكيين لأسباب دينية وسياسية فصّلها، وأهمها تعرّض إسبانيا يومئذ لخطر الغزو من مراكش وغيرها. وقيام الأدلة على أن الموريسكيين جميعاً خونة مارقون، يستحقون الموت والرق، ولكن إسبانيا تؤثر الرفق بهم، وتكتفي بنفيهم من أراضيها. وتقرر أن ينفذ المشروع كله هذا العام في الخريف منه، وأرسلت الأوامر إلى حكام صقلية ونابولي وميلان، بإعداد جميع السفن الممكنة لنقل الموريسكيين، وجمع القوات اللازمة لحوراستهم، واجتمعت منذ أوائل الصيف في مياه ميورقة، عشرات السفن المطلوبة، وسارت أهبة التنفيذ بسرعة ونشاط.

وهكذا انتهت السياسة الإسبانية بعد مدة من التردد، إلى اتخاذ خطوتها الحاسمة في القضاء على البقية الباقية من الموريسكيين، وتحقيق أمنيتها القديمة في (تطهير) إسبانيا نهائياً من آثار الإسلام وآثار العرب، ومحو تلك

ص: 383

الصفحة الأخيرة لشعب عظيم تالد.

ب - وفي (22 أيلول ت سبتمبر سنة 1609 م) أعلن قرار (مرسوم) النفي النهائي للموريسكيين أو العرب المتنصرين، فساد بينهم الروع والاضطراب، وإليك نص هذا القرار الشهير في صحف المآسي والاستشهاد:

يبدأ القرار بالتنويه بخيانة الموريسكيين، واتصالهم بأعداء إسبانيا، وإخفاق كل الجهود التي بذلت لتنصيرهم، وضمان ولائهم، وما استقر عليه رأي الملك من نفيهم جميعاً إلى بلاد البربر (المغرب). وبناء على ذلك فإنه يجب على جميع الموريسكيين من الجنسين، أن يرحلوا مع أولادهم في ظرف ثلاثة أيام من نشر هذا القرار من المدن والقرى إلى الثغور التي يعينها لهم مأمورو الحكومة، والموت عقوبة المخالفين، وأن لهم أن يأخذوا من متاعهم ما يستطاع حمله على ظهورهم، وأن السفن قد أعدت لنقلهم إلى بلاد المغرب، وسوف تتكفل الحكومة بإطعامهم أثناء السفر، ولكن عليهم أن يأخذوا ما استطاعوا من المؤن، وأنهم يجب عليهم أن يبقوا خلال مهلة الأيام الثلاثة في أماكنهم رهن إشارة المأمورين، ومَن وُجد متجولاً بعد ذلك يكون عرضة للنهب والمحاكمة، أو الإعدام في حالة المقاومة. وقد منح الملك السادة كل الأملاك العقارية والأمتعة الشخصية التي لم تحمل، فإذا عمد أحد إلى إخفاء الأمتعة أو دفنها، أو أضرم النار في المنازل أو المحاصيل، عوقب جميع سكان الناحية بالموت. ونص القرار على إبقاء ستة في المائة فقط من الموريسكيين للانتفاع بهم في صون المنازل، والعناية بمعامل السكر، ومحصول الأرز، وتنظيم الري، وإرشاد السكان الجدد، وهؤلاء يختارهم السادة من بين الأسر الأكثر خبرة وأشد ولاء للنصرانية. أما الأطفال فإذا كانوا دون الرابعة، فإنه يسمح لهم بالبقاء إذا شاءوا (كذا) ورضي آباؤهم وأولياؤهم، وإذا كانوا دون السادسة سمح لهم بالبقاء إذا كانوا من أبناء النصارى القدماء (أعني من غير العرب المتنصرين)، وسمح كذلك بالبقاء لأمهم الموريسكية، فإذا كان الأب موريسكياً والأم نصرانية أصيلة، نُفِي الأب

ص: 384

وبقي الأولاد دون السادسة مع أمهم. كذلك يسمح بالبقاء للموريسكيين الذين أقاموا بين النصارى مدى عامين، ولم يختلطوا (بالجماعة)، إذا زكّاهم القسس. وحظر القرار إخفاء الهاربين أو حمايتهم. ويُعاقَب المخالف بالأشغال الشاقة لمدة ستة أعوام. كذلك حظر على الجنود والنصارى القدماء أن يتعرضوا للموريسكيين أو يهينوهم بالقول أو الفعل، وهدّد المخالفون بالعقاب الصارم. وأخيراً نص القرار على السماح لعشرة من الموريسكيين بالعودة عقب كل نقلة، لكي يشرحوا لإخوانهم كيف تم النقل إلى المغرب على أحسن حال.

وقع قرار النفي على الموريسكيين وقوع الصاعقة، ونهكت قواهم، وسادهم الوجوم والذهول. وكان عصر الثورة والمقاومة قد ولّى، إذ انهارت معنوياتهم، ونضبت مورادهم. وكانت الحكومة الإسبانية قد اتخذت عدتها للطوارئ، وحشدت قواتها في جميع الأنحاء الموريسكية، واجتمع زعماء الموريسكيين وفقهاؤهم في بلنسية، فقرّوا أنه لا أمل لهم في المقاومة، وأنه لا مناص لهم من الخضوع، واستقر الرأي على أن يرحلوا جميعاً، وألاّ يبقى منهم أحد، ولا حتى نسبة الستة بالمائة التي سمح ببقائها، وأن مَن بقي منهم اعتبر مرتداً مارقاً، ومع ذلك فقد وقعت ثورات محلية، وتأهبت بعض الجماعات المحتشدة في المناطق الجبلية للمقاومة، وعاثت في الأنحاء المجاورة، ولكنها كانت فورة المحتضر، فأخمدت حركاتهم بسرعة، وقتل منهم عدد كبير.

وتظلم كثير من المدجنين من قرار النفي، وقالوا إنهم اعتنقوا النصرانية طوعاً قبل التنصير الإجباري، وغدوا نصارى وإسبانيين قبل كل شيء، فصدر الأمر إلى الأساقفة ببحث ظلامتهم، وأن يسمح بالبقاء لمن توفرت فيه منهم شروط الولاء والإخلاص (1).

(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; Vol. 111. P. 399

ص: 385

أما الكثرة الساحقة من الموريسكيين، فقد هرعت إلى اتخاذ أهبة الرحيل، وأخذوا في بيع ما تيسر بيعه من المتاع، وتدفقت السلع على الأسواق، من الماشية والحبوب والسكر والعسل والملابس والأثاث وغيرها، لتباع بأبخس الأثمان. بُدئ بتنفيذ قرار النفي في الجهات التي نشر فيها أولاً، وهي أعمال بلنسية، وذلك منذ أوائل (تشرين الأول - أكتوبر سنة 1609 م)، وخرجت أول شحنة من هذه الكتلة البشرية المعذّبة على سفن الحكومة من ثغر دانية وبعض الثغور القريبة، وقدّرت بثمانية وعشرين ألف نفس، حملوا إلى ثغر وهران في الضفة الأخرى من البحر، وقد كان يومئذ بيد الإسبان، ثم نقلوا إلى تلمسان بحماية فرقة من الجند المرتزقة، وهناك استظلوا بحماية السلطان. وعاد بعضهم إلى إسبانيا، ليروي عن رحيل الراحلين، وكيف وصلوا في أمن وسلام. ومع ذلك فقد آثر معظم المهاجرين السفر بأجر، في سفن غير التي عينتها الحكومة الإسبانية لنقل المهاجرين وإطعامهم دون أجر، واضطرت الحكومة نتيجة لذلك أن تستدعي عدداً كبيراً من السفن الحرّة إلى مياه بلنسية، ورحل بهذه الطريقة من ثغر بلنسية زهاء خمس عشر ألفاً، معظمهم من الموسرين والمتوسطين، ورحل المنفيون من ثغر لقنت على عزف الموسيقى ونشيد الأغاني، وهم يشكرون الله على العود إلى أرض الآباء والأجداد، ولما سئل فقيه من زعمائهم عن سبب اغتباطهم، أجاب: بأنهم كثيراً ما سعوا إلى شراء قارب أو سرقته للفرار إلى المغرب، مستهدفين لكثير من المخاطر، فكيف إذا عرضت لنا فرصة السفر الأمين مجاناً، ألا ننتهزها للعود إلى أرض الأجداد، حيث نستظل بحماية سلطاننا، سلطان الترك، وهناك نعيش أحراراً مسلمين، لا عبيداً كما كنا؟!

وكانت الجنود تحرس المنفيين في معظم الأحوال، حماية لهم من جشع النصارى الإسبان، الذين انتظموا في عصابات لمهاجمة المنفيين ونهبهم وقتلهم أحياناً. وفضلاً عن ذلك فإن تنفيذ قرار النفي لم يجرِ دائماً في يسر وسهولة، فقد أبى كثير من الموريسكيين في الجبل الخضوع للأوامر لعدم

ص: 386

ثقتهم بولاء الحكومة، وفضلوا المقاومة حتى الموت، واحتشدوا بالأخص في وادي أجوار، حيثا اجتمع منهم زهاء خمسة عشر ألفاً، وفي مويادي كورتيس حيث اجتمع منهم تسعة آلاف، فبادرت الحكومة إلى محاصرتهم، وفتكت بالموريسكيين العزل، وقتلت منهم بضعة آلاف، ومات كثير منهم من الجوع والبرد. وأخيراً سلم من بقي منهم، وحملوا قسراً إلى ميناء السفر، وسَبَى الجند منهم كثيراً من النساء والأطفال باعوهم رقيقاً، ولم يصل منهم إلى شواطئ المغرب سوى القليل. وفي مويادي كورتيس لم يبق منهم عند الإبحار سوى ثلاثة آلاف، ولبثت فلولهم تقاوم مستميتة، وثبت الاضطراب نحو عام، حتى قضي عليها بعد جهد جهيد (1).

وصدر قرار النفي في قشتالة في (15 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م)، ولكن أجل تنفيذه حتى ينفذ أولاً في بلنسية، ولم ينفذ بالفعل إلاّ في أوخر (كانون الأول - ديسمبر)، ومنح الموريسكيون فيه شهراً للسفر، بنفس الشروط التي تضمنها قرار النفي في الأندلس، وسافر منهم شمالاً إلى حدود فرنسا نحو أربعة آلاف عائلة، وسافر إلى قرطبة نحو عشرة آلاف بحجة السفر إلى الأراضي النصرانية، وذلك لكي يحتفظوا بأولادهم الصغار، ولكن تسرب الكثير منهم إلى الثغور المغربية.

وبلغ عدد المنفيين في الثلاثة أشهر الأولى زهاء مائة وخمسين ألفاً، وسافر منهم ألوف كثيرة من الأغنياء والموسرين على نفقتهم الخاصة، وقصدت جموع كثيرة من الموريسكيين في أراغون - قدّرت بنحو خمسة وعشرين ألفاً - إلى ولاية نافاد الفرنسية، ودخل فرنسا من قشتالة نحو سبعة عشرة ألفاً، وسمح لهم هنري الرابع ملك فرنسا بالتوطن فيما وراء نهر الكارون، بشرط بقائهم على دين الكثلكة، وأن تهيأ السفن لمن أراد السفر منهم إلى شواطئ المغرب.

(1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain; V. 111. P. 397-398.

ص: 387

أما في غرناطة وأنحاء الأندلس، فقد أعلن قرار النفي في (12 كانون الثاني - يناير سنة 1610 م) بعد أن عدِّلت بعض أحكامه، وفيه يمنح الموريسكيون للرحيل ثلاثين يوماً، ويباح لهم بيع سائر أملاكهم المنقولة وأخذها ثمنها، على أن يقتنى بها عروض أو بضائع إسبانية، ولا يسمح لهم بأن يحملوا معهم من النقد أو الذهب أو الحلي، إلاّ ما يكفي نفقات الرحلة بالبر والبحر، وأما الأملاك العقارية، فتصادر لجهة العرش. وقد استقبل الموريسكيون في الأندلس قرار النفي بالاستبشار والرضى، ويقدر مَن نزح منهم إلى المغرب سواء على سفن الحكومة أو السفن الحرة، بنحو مائة ألف نفس، وقد نزح معظمهم إلى مراكش.

ثم توالى إعلان قرارات النفي في جميع الجهات التي تضم مجتمعات موريسكية، في سائر أنحاء المملكة الإسبانية: في قطلونية، وأراغون في (أيار - مايو - 1610 م)، ثم في إشبيلية واسترمادورة ( EXTREMADURA) ، ثم في مرسية وغيرها. وتأخر تنفيذه في مرسية نحو أربعة أعوام حتى (كانون الثاني - يناير 1614 م)، وخرج من مرسية زهاء خمسة عشر ألفاً، واتجهت جموع كثيرة من الشمال إلى الثغور الجنوبية.

واتجهت بعض الجماعات إلى الثغور الإيطالية مباشرة، أو عن طريق فرنسا، ومنها أبحرت إلى مصر والشام والقسطنطينية (1). وبلغ السلطان أحمد سلطان الترك، ما أصاب الكثير منهم في أرض فرنسا من الاعتداء والنهب، فأرسل إلى ملكتها (وهي يومئذ ماري دى مريتشي الوصية على ولدها لويس الثالث عشر) يحتج على هذا الإيذاء، ويطلب حماية المنفيين (2). وكان بين هؤلاء الذين اتجهوا إلى المشرق، بعض طوائف من يهود الأندلس، ولا سيما طائفة (الحسديم) التي مازالت تقيم حتى اليوم في القسطنطينية، ويقيم بعضها في مصر.

(1) نفح الطيب (2/ 617).

(2)

Dr Lea: The Moriscos; P. 364.

ص: 388

ونفذت قرارات النفي في كل مكان بصرامة ووحشية واستمرت السفن شهوراً بل أعواماً، تحمل أكداساً من الكتل البشرية المعذّبة، فتلقي بها هنا وهناك، في مختلف الثغور الإفريقية، في جو من المناظر المروّعة المفجعة.

وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في عدد الموريسكيين الذين أُخرجوا من إسبانيا تطبيقاً لقرار النفي، فيقول نفاريتي وهو من أعظم مؤرخي إسبانيا: إنه نُفِي من إسبانيا في مختلف الأوقات، نحو مليوني يهودي، وثلاثة ملايين موريسكي. ويقدر آخرون عدد المنفيين من الموريسكيين بأربعمائة ألف أو تسعمائة ألف ويقدرهم دون لورنتي مؤرخ "ديوان التحقيق" بمليون نسمة، ويقدرهم المستشرق فون هامار بثلاثمائة ألف وعشرة آلاف نسمة. وفي الرواية العربية الموريسكية يقدر عدد الموريسكيين المنفيين بستمائة ألف. ونحن نميل إلى أن عددهم لا يمكن أن يتجاوز هذا القدر، وقد كان مجموعهم في أواخر القرن السادس عشر ستمائة ألف حسبما قدّمنا. ويقدر عدد من هلك من الموريسكيين أو استُرِق منهم أثناء مأساة النفي بنحو مائة ألف (1).

وقد عاد معظم الموريسكيين الذين نفوا إلى إفريقية والمشرق، إلى الإسلام دين الآباء والأجداد، ولم تخمد مائة عام من التنصير القسري، والإرهاق المستمر، جذوة الإسلام في نفوسهم، وقد لبث على كرّ العصور متغلغلاً في أعماق سرائرهم.

وبذلك ينتهي الفصل الأخير، من مأساة الموريسكيين، وتُطوَى إلى الأبد صفحة شعب، من أنبل وأمجد شعوب التاريخ، وحضارة من أزهر الحضارات.

ج - وتقدّم لنا الرواية المغربية، تفاصيل ضافية عن مأساة الموريسكيين، من بدايتها إلى نهايتها، وتخصها بكثير من النقد والتعليق. ولكن الرواية

(1) Dr Lea: The Moriscos ; P. 259.

ص: 389

الإسلامية مُقِلَة حول ذلك، شأنها في تاريخ الأندلس منذ سقوط غرناطة، فهي لا تُعنَى بتتبع مصير العرب المتنصرين، كما تعني الرواية الغربية بها، ولا تقدم لنا عن مأساة النفي سوى بعض الشذرات والإشارات الموجزة.

وأهم وأوفى ما وقفنا عليه من ذلك، رواية معاصرة عن أحوال الموريسكيين، ومساعيهم السريّة للمحافظة على دينهم، وظروف نفيهم، كتبها موريسكي، عاش في جيان في أوخر عهد الموريسكيين، ثم هاجر إلى تونس قبيل النفي بقليل، وكتب فيما بعد هذه الرسالة دفاعاً عن الموريسكيين المهاجرين، وشرف نسبهم، وتوكيداً لحسن إسلامهم وتمسكهم بالإسلام، ووردت خلالها حقائق تاريخية هامة، عن النفي وأسبابه وملابساته، ننقل منها ما يلي:

"لقد كثر الإنكار علينا معشر أشراف الأندلس، من كثير من إخواننا في الله، بهذه الديار الإفريقية من التونسيين وغيرهم، حفظهم الله، بقولهم: من أين لهم هذا الشرف. وقد كانوا ببلاد الكفار، دمّرهم الله، ولهم مئون من السنين كذا وكذا، ولم يبق فيهم مَن يعرف ذلك من مدة الإسلام، وقد اختلطوا مع النصارى، أبعدهم الله تعالى، إلى غير ذلك من الكلام

".

"مع أني صغير السن، حين دخولنا هذه الديار، عمّرها الله تعالى بالإسلام وأهله، فقد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي، رحمة الله عليه، وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أني كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسنّي حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام. فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز، فكتب لي فيه حروف الهجاء، وهو يسألني حرفاً حرفاً عن حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميت له حرفاً أعجمياً كتب لي حرفاً عربياً، فيقول حينئذٍ: هكذا حروفنا، حتى استوفى جميع حروف الهجاء في كرتين، فلما فرغ من الكرّة الأولى، أوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي، وجميع قرابتنا، وأمرني ألاّ أخبر أحداً من الخلق

".

ص: 390

وقد كان والدي رحمه الله يلقنني حينئذ ما كنت أقوله حين رؤيتي للأصنام .... فلما تحقق والدي أنني أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلاً عن الأجانب، أمرني بإفشائه لوالدتي وعمتي، وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون في أمر الدين، وأنا أسمع، فلما رأى حزمي مع صغر سنّي، فرح غاية الفرح، وعرّفني بأصدقائه وأحبّائه وإخوانه في دين الإسلام، فاجتمعت بهم، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار، من جيان مدينة ابن مالك، إلى غرناطة، وإلى قرطبة وإشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتلخص لي من معرفتهم أني ميزت سبعة رجال كانوا كلهم يحدّثونني بأمور غرناطة وما كان بها في الإسلام حينئذٍ، فباجتماعي بهم حصل لي خير كثير، وقد قرأوا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة، أعادها الله للإسلام، يقال له: الفقيه اللوطوري، رحمه الله تعالى ونفعنا به، فإنه كان رجلاً صالحاً، ولياً لله، فاضلاً ورعاً، زاهداً، قد قرأ القرآن الكريم في مكتب الإسلام بغرناطة، قبل استيلاء أعداء الله عليها، وهو ابن ثمانية أعوام، ثم بعد مدة يسيرة، انتزعت غرناطة من أيدي المسلمين أجدادنا، وقد أذن العدو في ركوب البحر لمن أراده، وبيع ما عنده، وإتيانه لهذه الديار الإسلامية، وذلك في مدة ثلاثة أعوام، ومَن أراد أن يقيم على دينه وماله فليفعل، بعد شروط اشترطوها، وإلزامات كتبها عدو الدين على أهل الإسلام. فلما تحرك لذلك أجدادنا، وعزموا على ترك ديارهم وأموالهم، ومفارقة أوطانهم للخروج من بينهم، وجاز إلى هذه الديار التونسية، والحضرة الخضراء بغتة مَن جاز إليها حينئذٍ، ودخلوا في زقاق الأندلس المعروف الآن بهذا الاسم، وذلك سنة اثنتين وتسعمائة، وكذا للجزائر وتطوان وفاس ومراكش وغيرها، ورأى العدو العزم فيهم، لذلك نقض العهد، فردّهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهراً عن الخروج واللحوق بإخوانهم وقرابتهم بديار الإسلام، وقد كان العدو يظهر شيئاً ويفعل بهم شيئاً آخر، مع أن المسلمين أجددنا

ص: 391

استنجدوا مراراً ملوك الإسلام، كملك فاس ومصر حينئذٍ، فلم يقع من أحدهما إلاّ بعض مراسلات، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ثم بقي العدو يحتال عليهم بالكفر غصباً، فابتدأ يزيل لهم اللباس الإسلامي، والجماعات، والحمامات، والمعاملات الإسلامية شيئاً فشيئاً، مع شدّة امتناعهم والقيام عليهم مراراً، وقتالهم إياه، إلى أن قضى الله سبحانه ما قد سبق من علمه، فبقينا بين أظهرهم، وعدو الدين يحرق بالناس من لاحت عليه إمارة الإسلام، ويعذّبه بأنوع العذاب، فكم أحرقوا؟ وكم عذّبوا؟ وكم نفوا من بلادهم، وضيعوا من مسلم؟ حتى جاء النصر والفرج من عند الله سبحانه، وحرّك القلوب للهروب، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة وألف، فخرج منا بعض للمغرب، وبعض للمشرق خفية، متطهراً من دين الكفار أبعدهم الله، فخرج بعض أحبابنا وإخواننا وهو الفقيه الأجل محمد أبو العباس أحمد الحنني، المعروف بعبد العزيز القرشي، ومعه أحد أخوانه، إلى مدينة بلغراد من عمالة القسطنطينية، فالتقيا بالوزير مراد باشا وزير السلطان المعظم المرحوم السلطان أحمد بن السلطان محمد آل عثمان نصرهم الله تعالى وأيدهم، فأخبراه بما حل بإخواننا بالأندلس من الشدة بفرنسا وغيرها، فكتب أمراً لصاحب فرنسا دمرها الله، بإعلام السلطان يأمره بأن يُخرج مَن كان عنده من المسلمين بالأندلس، ويوجههم إليه في سفن من عنده، مع ما يحتاجون إليه. فلما قرئ الأمر السلطاني في ديوان الفرنسيس، فسمعه مَن كان مرسلاً من قبل صاحب الجزيرة الخضراء، وهو اللعين فيليب الثالث، فأرسل لسيده يخبره بالواقع، وأن السلطان أحمد آل عثمان، أرسل أمره إلى فرنسا، وأمر صاحبها أن يخرج مَن كان عنده من الأندلس، فقبل كلامه، وأمر بإخراج المسلمين، وأذن لمن جاء من الأندلس بأن لا بأس عليهم، وأن يركبوا عنده في سواحله مراكبه، ويبلغهم إلى حيث شاءوا من بلاد المسلمين. فلما أحسّ بهذا الأمر عدوّ الله فيليب صاحب إسبانية، دخله الرعب والخوف الشديد، وأمر حينئذٍ مجمع أكابر القسيسين والرهبان والبطارقة، وطلب منهم

ص: 392

الرأي، وما يكون العمل عليه في شأن المسلمين الذين هم ببلاده كافة، فبدأ الشأن في أهل بلنسية، فأخذ الرأي، فأجمعوا كلهم على إخراج المسلمين كافة من مملكته، وأعطاهم السفن، وكتب أوامر وشروطاً في شأنهم، وفي كيفية إخراجهم، وشدّد على عماله بالوصية، والاستحفاظ على كافة المسلمين من الأندلس. نعم أريد أن أذكر لك نبذة يسيرة اختصرتها وترجمتها من جملة أسباب ذكرها الملك الكافر أبعده الله، في أوامره التي كتبها في شأن إخواننا الأندلسيين حين إخراجهم من الجزيرة الخضراء، لتكون على بصيرة من أمرهم، وتعلم بعض الأسباب التي أخرجوا لأجلها على التحقيق، لا كما يزعم بعض الحاسدين.

قال الملك الكافر، أبعده الله وزلزله آمين: لما كانت السياسة السلطانية الحسنة الجيدة موجبة لإخراج مَن يكدّر المعاش على كافة الرعيّة النصرانية، في مملكتها التي تعيش عيشاً رغداً صالحاً، والتجربة أظهرت لنا عياناً، أن الأندلسيين الذين هم متولدون من الذين كدّروا مملكتنا فيما مضى، بقيامهم علينا، وقتلهم أكابر مملكتنا، والقسيسين والرهبان الذين كانوا بين أظهرهم، وقطعهم لحومهم، وتمزيقهم أعضاءهم، وتعذيبهم إياهم بأنواع العذاب، الذي لم يسمع فيما تقدم مثله، مع عدم توبتهم فيما فعلوه، وعدم رجوعهم رجوعاً صالحاً من قلوبهم لدين النصرانية، وأنه لم تنفع فيهم وصايانا، ورأينا عياناً أن كثيراً منهم قد أُحرقوا بالنار، لاستمرارهم على دين المسلمين، وظهر منهم العناد بعيشهم فيه خفية، واستنجادهم كذلك عون السلطان العثماني لينصرهم علينا، وظهر لي أن بينهم وبينه مراسلات إسلامية، ومعاملات دينية، وقد تيقنت ذلك من إخبارات صادقة وصلت إليّ، ومع هذا أن أحداً منهم لم يأت إلينا ليخبرنا بما هم يدبرونه هذه المدة بينهم، وفيما سبق من السنين، بل كتموه بينهم؛ علمت بذلك أن كلهم قد اتفقوا على رأي واحد، ودين واحد، ونيتهم واحدة، وظهر لي أيضاً ولأرباب العقول والمتدينين من القسيسين والرهبان والبطارقة الذين جمعتهم لهذا الأمر واستشرت، مع أن من

ص: 393

إبقائهم بيننا ينشأ عنه فساد كبير، وهول شديد بسلطتنا، وأن بإخراجهم من بيننا يصلح الفساد الناشئ من إبقائهم بمملكتي، أردت إخراجهم من سلطتنا جملة، ليزول بذلك الكدر الواقع، والمتوقع للنصارى، الذين هم رعيتنا، طائعين لأوامرنا وديننا، ورميهم إلى بلاد المسلمين أمثالهم، لكونهم مسلمين.

"فانظر رحمك الله، كيف شهد عدو الدين، الملك الكافر، بأنهم مسلمون، واعترف أنه لم يقدر على إزالة دينهم من قلوبهم، وإنهم متمسكون كلهم به، مع أنه كان يحرق منهم من ظهر عليه الدين، ثم وصفهم بالعناد لرؤيته فيهم لوائح المسلمين وأماراتهم، فأي علامة أكبر من صبرهم على النار لدين الحق، ومن استنجادهم بملك دين الإسلام المؤيّد لحماية الدين، أمير المسلمين السلطان أحمد آل عثمان نصرهم الله تعالى، فهذا غاية الخير والعزّ والبركة لهذه الطائفة الطاهرة الأندلسية".

"فخرجوا كلهم سنة تسعة عشر (كذا) وألف. ووجد في دفاتر السلطان الكافر، أبعده الله تعالى، أن جملة مَن أُخرِج من أهل الأندلس كافة، نيف وستمائة ألف نسمة، كبيراً وصغيراً، فكانت هذه الواقعة منقبة عظيمة، وفضيلة عجيبة لجماعتنا الأندلسيين زادهم الله شرفاً بمنّه، وأمر أيضاً بإخراج مَن كان مسجوناً في كافة مملكته، وكل مَن كان أمر بإحراقه فأخرجه وعفا عنه، وزوّده وأرسله إلى بلاد الإسلام سالماً، فيالها من أعجوبة ما أعظمها، ومن فضيله ما أشرفها، ومن كرامة ما أجملها، ومن نعمة ما أكبرها، فما سُمِعَ من أول الدنيا إلى آخرها مثل هذه الواقعة"(1).

(1) كاتب هذه الرسالة، هو النّسابة محمد بن عبد الرفيع الأندلسيّ المتوفَّى سنة (1062 هـ-1652 م)، أي بعد نفي الموريسكيين بإثنين وأربعين عاماً، وقد وردت في آخر كتابه المسمى:"الأنوار النبويّة في أخبار البريّة"، وهو لا يزال مخطوطاً. وقد نقل الرسالة المذكورة الشاعر أبو عبد الله محمد بوجندار في كتابه المسمى:"مقدمة الفتح في تاريخ رباط الفتح"(الرباط 1345 هـ)، والرسالة منقولة عن هذا الكتاب مع =

ص: 394

وقد صدر قرار النفي - كما قدمنا - في (22 أيلول - سبتمبر سنة 1609 م) وهو يوافق جمادى الثانية سنة (1018 هـ)، ولكن الرواية الإسلامية تضع تاريخ القرار أحياناً سنة (1016 هـ أو 1017 هـ)، وهو تحريف واضح.

قال المقري - وهو مؤرخ الأندلس، وقد كان معاصراً للمأساة -:"إلى أن كان إخراج النصارى إياهم (أي العرب المتنصرين) بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أُخَر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومَن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد تلمسان وفاس. ونجا القليل من هذه المضرّة. وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطوان وسلا وفيجة الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى جيشاً جراراً وسكنوا سلا، كان منهم من الجهاد في البحر، ما هو مشهور الآن. وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات والدور، وهم الآن بهذه الحال. ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصفت"(1).

وقال ابن دينار التونسي - وقد كتب بعد المأساة بنحو سبعين عاماً في أخبار سنة (1017 هـ) -: "وفي هذه السنة والتي تلتها، جاءت الأندلس من بلاد النصارى، نفاهم صاحب إسبانيا، وكانوا خلقاً كثيراً، فأوسع لهم عثمان باي في البلاد، وفرّق ضعفاءهم على الناس، وأذن لهم أن يعمروا حيث شاءوا، فاشتروا الهناشير، وبنوا فيها، واتسعوا في البلاد، فعمرت بهم، واستوطنوا في عدة أماكن، وعمروا نحو عشرين بلداً، وصارت لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين، ومهّدوا الطرقات، وصاروا يعتبرون من أهل .....................................................................

= بعض التصرف (ص: 200 - 214).

(1)

نفح الطيب (2/ 617).

ص: 395

البلاد" (1).

وقال صاحب الخلاصة النقية - وهو من الكتاب المتأخرين -: "وفي سنة ست عشرة وألف، قدمت الأمم الجالية من جزيرة الأندلس، فأوسع لهم صاحب تونس عثمان باي كنفه، وأباح لهم بناء القرى في مملكته، فبنوا نحو العشرين قرية، واغتبط بهم أهل الحضرة، وتعلموا حُرفهم، وقلّدوا ترفهم"(2).

وهذه النصوص الموجزة، هي كل ما تقدم إلينا الرواية الإسلامية عن نفي العرب المتنصرين، وقد لبثت رواية المقري عن المأساة، مصدراً لكل ما كتبه الكتاب المتأخرون (3). وربما كان هذا النقص راجعاً إلى أنه لم يعن أحد من كتاب المغرب المعاصرين، باستيفاء التفاصيل الضافية المؤثرة عن المأساة، أو لعله قد ضاع ما كتبه المعاصرون عنها فيما ضاع، مما كتب عن المراحل الأخيرة لتاريخ الأندلس والعرب المتنصرين، ولم تصلنا على يد المقري سوى لمحات يسيرة.

وهكذا بذلت إسبانيا النصرانية كل ما وسعت لإخراج البقية الباقية من فلول الأمة الأندلسية، ولم تدخر وسيلة بشرية للقضاء على آثار الموريسكيين إلاّ اتخذتها، ومع ذلك فإن آثار الموريسكيين لم تنقطع بعد النفي بصورة نهائية. فقد رأينا أن كثيراً من المنفيين قد عادوا إلى إسبانيا، فراراً مما لَقَوْا في رحيلهم من ضروب الاعتداء المفزع، وأسلموا أنفسهم رقيقاً يقتنى. كذلك كانت ثمة جماعات في الأسرى المسلمين، من مغاربة وغيرهم، ممن يؤخذون في المعارك البحرية مع المغيرين يباعون رقيقاً في إسبانيا، ويفرض عليهم التنصير. ومع أنه صدر قرار يحظر وجودهم في العاصمة الإسبانية، فإنه كان من الصعب إخراجهم من المملكة. نظراً لما ترتب لأصحابهم عليهم من

(1) المؤنس في أخبار إفريقية وتونس (ص: 193).

(2)

الخلاصة النقية (تونس)(ص: 91).

(3)

أنظر الاستقصا (3/ 101)، حيث تنقل هذه النصوص.

ص: 396

الحقوق. وكان بعضهم يفلح في ابتياع حريته، ويعيد حياة الموريسكيين سراً، وأخيراً توجّست الحكومة الإسبانية من وجودهم، فصدر في سنة (1712 م) قرار بنفيهم، خلال المدد التي يحدّدها القضاة المحليون وسمح لهم بأن يأخذوا معهم أسرهم وأموالهم إلى إفريقية.

وقد كان من المستحيل بعد ذلك كلّه، أن يبقى في البلاد أحد الموريسكيين أو سلالتهم، وقد كانت ذكراهم أو أشباحهم، تثير حولها أيّما توجّس وتعصب. وكان من المتعذّر أن يفلت أحد منهم من بطش ديوان التحقيق. وكان الديوان المقدّس أبداً على أهبته لضبط أية قضية ضد موريسكي مختف أو عبد متنصر، ولكن هذه القضايا كانت نادرة، مما يدل على انقراض هذا العنصر بمضي الزمن. بيد أن أسرى المعارك الحربية بحراً الذين كانوا يُكرهون على التنصير، كان بعضهم ينبذ النصرانية خفية، وكان معظم هؤلاء من الموريسكيين الذين عادوا إلى الإسلام، وخرجوا إلى الجهاد في البحر، وكان ديوان التحقيق طوال القرن السابع عشر الميلادي، يجد بينهم فرائس من آن لآخر. وعلى الجملة فإن آثار الموريسكيين والإسلام لم تختف نهائياً من إسبانيا، وقد لبث كثير من الأسرى والأفراد الموريسكيين الذين اندمجوا في المجتمع الإسباني، على صلاتهم الخفية بالماضي البعيد، وقد ضبطت خلال القرن الثامن عشر أمام محاكم التحقيق بعض القضايا الخاصة بالموريسكيين، كانوا يجرون شعائر الإسلام خفية، وضبط في سنة (1769 م) مسجد صغير في قرطاجنة، أنشأه المتنصرون المحدثون، مما يدل على أنه كانت ما تزال ثمة آثار ضئيلة للموريسكيين والإسلام.

ولا تقدم لنا محفوظات ديوان التحقيق منذ أواخر القرن الثامن عشر، أي ذكر للموريسكيين، أو الإسلام والمسلمين، مما يدلّ على أن الآثار الأخيرة لمأساة الموريسكيين قد غاضت، وأسبل عليها الزمن عفاءه إلى الأبد (1).

(1) Dr Lea: The Moriscos; P. 391-392.

ص: 397