المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

التي اتخذت لتشريد العرب المتنصرين وإبادتهم، بعين الكبرياء والرضى، وترى منها دائماً نوعاً من الإنقاذ القومي، وتطهيراً للدين والوطن من آثار الإسلام الخيرة. وهي تحيط هذه المرحلة من تاريخ إسبانيا بكثير من القصص والأساطير الحماسية، التي تشيد بظفر إسبانيا النصرانية، وبما أسبغت العناية الإلهية على خطتها وسياستها، في إبادة تراث العرب والإسلام، وفي القضاء إلى الأبد على آثار تلك الدولة الإسلامية المجيدة، التي ازدهرت في إسبانيا زهاء ثمانية قرون، وعلى حضارتها وآدابها، وكل ذلك التراث العظيم الباهر.

على أن الرواية الإسبانية، بالرغم من تأثرها العميق بالعوامل القومية والدينية، تعرض علينا حوادث هذا النضال الأخير في أسلوب مؤثر. وقد لا تضنّ في بعض المواطن والمواقف بعطفها، وأحياناً بإعجابها، على تلك الأمة المغلوبة الباسلة، التي لبثت تناضل حتى الرمق الأخير عن كرامتها، وعن تراثها القومي والروحي.

ولسنا نظلم كتاب الإسبان النصارى، إذا قلنا: إنهم يمثلون التعصب الأعمى تمثيلاً عملياً، حتى كأن التعصب تصوّر فيهم أناساً يمشون على الأرض ويكتبون، فهم يتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه في القضايا الدينية والقومية، ويتعصبون تعصباً أعمى لا مزيد عليه على كل مسلم وكل عربي، ويرون حسناً ما ليس بالحسن، حتى يلمس من يقرأ آثارهم بوضوح انحرافهم الشنيع عن جادة الحق وابتعادهم الواضح الصريح عن كل نوع من أنواع المناهج العلمية في البحث والتأليف، فهم بقدر تعصبهم لقومهم ودينهم، متعصبون على غيره من القوميات الأخرى والأديان وبخاصة العرب والإسلام.

إن الدراسات الإسبانية الخاصة بالإسلام والعرب، التي كتبها الإسبان، لا يعتمد عليها ولا يوثق بها عامة، وهذا هو القاعدة، ولا عبرة بالاستثناء.

‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

ص: 295

لبثت السياسة الإسبانية مدة قصيرة، بعد سقوط غرناطة، تلتزم جانب الروية والاعتدال. واتخذت الأهبة لنقل المسلمين الراغبين في الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، بعد بيع أملاكهم بأبخس الأثمان (1). وفي مقدمة المهاجرين بنو سراج وأنجاد غرناطة القدماء. فأقفرت مناطق بأسرها من أعيان المسلمين، ولا سيما منطقة البشرات، وكان تدفق سيل المهاجرين دليلاً على أن الشعب المغلوب لم يكن واثقاً من ولاء سادته الجدد، وأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين التوجس والريب.

وقد كان ممن هاجر من غرناطة إلى العدوة عقب سقوطها بقليل جماعة من أهلها برئاسة زعيم جندي هو أبو الحسن المنذري، وكان من أكابر جند الجيش الغرناطي، فعمروا مدينة تطوان وكانت يومئذ خربة، وكان ذلك في سنة (898 هـ - 1492 م). ومن ذلك الحين تغدو تطوان ملاذاً لكثير من الأسر الأندلسية التي أرغمت على التنصير ثم آثرت الهجرة إلى دار الإسلام فراراً من اضطهاد الإسبان ومحاكم التحقيق، وعادت إلى دينها القديم، وما زالت أعقابهم بها إلى اليوم (2).

ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً هذا الشعب الذكي النّابه، وكانت الكنيسة تجيش دائماً بنزعتها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة في القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية في إسبانيا، وكانت مملكة غرناطة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجنين في منطقة بلنسية، وفي منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراغون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامي. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة في قلب إسبانيا النصرانية، شغلاً شاغلاً للسياسة الإسبانية.

والظاهر أن السياسة الإسبانية، لبثت مدى حين مترددة في انتهاج المسلك

(1) أزهار الرياض (1/ 67).

(2)

الاستقصا (2/ 162) ومختصر تاريخ تطوان - محمّد داءود (14 - 17).

ص: 296

الذي تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء والعرفان فى إسبانيا، وكانت براعتهم قدوة في الزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وخلالهم قدوة في النشاط والمثابرة والزهد والعفّة والرفق، وكانوا على الجملة من أفضل العناصر الذين يمكن أن تضمهم دولة متمدنة (1). ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة في سبيل تحقيق مُثلها، ولم تكن السياسة الإسبانية في تلك الأيام من تاريخ إسبانيا سوى أداة لينة في يد الكنيسة، التي بلغت عندئذٍ ذروة قوّتها ونفوذها.

ويصف لنا مؤرخ إسباني، عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين في قوله:"إنه منذ استولى فرديناند على غرناطة، كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح، أن يعمل على سحق طائفة محمد في إسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء، إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة، لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون في صفاء وسلام مع النصارى، أو يحافظوا على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم"(2).

ولم تكن هذه السياسة في الواقع بعيدة، عما يخالج ملكي إسبانيا، فرديناند الخامس، وزوجته الملكة المتعصبة إيزابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن العهود التي قطعت للمسلمين بتأمينهم في أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، لتحول دون تحقيق السياسة القومية. ذلك أن فرديناند لم يحجم قط عن أن يقطع العهود والمواثيق متى كانت سبيلاً لتحقيق مآربه، وأن يسبغ على سياسته الغادرة ثوب الدين والورع، ولكنه لم يعتبر نفسه قط ملزماً بعهود يقطعها متى أصبحت تعارض سياسته وغايته.

(1) Dr. Lea: The Moriscos ; P. 7.

(2)

Luis del Marmol: Rebelion Y Costigo de los Moriscos de Granada; 1. Cap. XX11

ص: 297

ويعلّق الناقد الغربي الحديث على ذلك بقوله: "لو نفذت العهود (التي قطعت لمسلمي غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل إسبانيا كل التغيير، ولتفوّقت المملكة الإسبانية في فنون الحرب والسلم، وتوطّدت قوّتها ورخاؤها. ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذي انقضى، وأفضى التعصّب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلّة مروّعة، فاتسعت الهوّة بين الأجناس على كرّ الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدّى إلى علاج كان من جرّائه أن تحطّم رخاء إسبانيا"(1).

وأخذت سياسة الإرهاب تجرف في طريقها كل شيء، ونشط ديوان التحقيق ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحي الكنيسة وتأييد الملك، إلى مزاولة قضائه المدمّر، وكانت مهمّة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة) ومطاردة الكفر والزّيغ بكل ما وسعت، وكان جلّ ضحاياها في البداية من يهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وكانت إجراءات هذه المحاكم تنافي كل عدالة وكل قضاء متمدن.

وهكذا فإنه لم تمض أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة للمسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها، أعني تنصير المسلمين، بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذٍ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحي الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود موكّدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم، وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران هما: الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجوديسا، المحقق العام لديوان التحقيق (2).

(1) Dr. Lea: The Moriscos. P. 22.

(2)

كان المحقق العام ( General Inquisitor) وهو قاضي قضاة الديوان، يمثل يومئذ =

ص: 298

وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت في تحوير العهود والنصوص التي تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصّاً فنصّاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت شعائرهم وعقائدهم وشريعتهم (1). وأدرك المسلمون ما ترمي إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوَّت في آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التي ألقاها إليهم فارس غرناطة موسى بن أبي الغسّان يوم اعتزموا التسليم للعدو:"أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشدّ ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمائنا، والموت خير ما تلقون منهم. إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق، ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم. تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيماً".

وكان فرديناند يخشى في البداية عواقب التسرع في تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطّد بعد في المناطق المستولى عليها، ولأن المسلمين لم يُنزَع سلاحهم تماماً، وقد يؤدي الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت، ولكن انتهى إلى الخضوع إلى رأي الكنيسة، واستدعى الكاردينال خمنيس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمّة تنصير المسلمين، فوفد عليها في (شهر حزيران - يوليه سنة 1499 م - 905 هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعّالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة، ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل

= أعظم السلطات الدينية والقضائية في إسبانيا.

(1)

أخبار العصر (54).

ص: 299

والإرغام، في تنصير بعض أعيان المسلمين.

وكان قد اعتنق النصرانية قبل سقوط غرناطة وبعدها، جماعة من الأمراء والوزراء، وفي مقدمتهم الأميران سعد ونصر، ولدا السلطان أبي الحسن، من زوجه النصرانية أليزابيث دى سوليس المعروفة باسم ثريا، فقد تنصّرا ومنحا ضياعاً في أرجبة، وتسمى أحدهما باسم: الدوق فرديناند دى جرانادا أي صاحب غرناطة، وخدم قائداً في الجيش القشتالي، واشتهر في غيرته بخدمة العرش، وتسمَّى الثاني باسم: دون خوان دى جرانادا (1). وتنصّر سيدي يحيى النيار قائد ألمرية وابن عم مولاي الزغل، عقب تسليمه لألمرية، وتسمَّى باسم: الدون بيدرو دى جرانادا فنيجاس، وتزوج من دونيا خوانادى مندوثا وصيفة الملكة. وتنصر الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش ومعظم أفراد أسرته، وعادت أسرته تحمل لقبها القشتالي القديم:( Los Venegas) واشتهرت في تاريخ إسبانيا الحديث، وأنجبت كثيراً من القادة والأحبار. وتنصَّر آل الثغري الذين اشتهروا في الدفاع عن مالقة وغرناطة قسراً، وسُمِّي عميدهم باسم: جونثالفو فرنانديث ثجري. وتنصر الوزير يوسف كُماشة، وانتظم في سلك الرهبان، وهكذا اجتاحت موجة التنصير كثيراً من الأكابر والعامة معاً.

وتمركزت حركة التنصير في غرناطة بالأخص في حي البيازين، حيث حُوِّل مسجده في الحال كنيسة سميت باسم، سان سلفادور (2). واحتجّ بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى. وثار أهل البيازين، وتحصّنوا بحيّهم، وندّدوا بخرق العهود، فبذل الكاردينال خمنيس وحاكم المدينة، جهوداً فادحة لإقناعهم بالهدوء والسكينة، وبذلوا لهم من التأكيدات والضمانات الكلامية

(1) Hernando de Baeza ، ibid ، P. 65.

(2)

ما تزال كنيسة سان سلفادور ( San Salvador) تقوم حتى اليوم على موقع مسجد البيازين القديم، ولا تزال توجد في مؤخرتها بعض عقود المسجد القديمة.

ص: 300

ما شاءوا (1).

ولم يقف الكاردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية، التي انتهت بتوقيع التنصير المغصوب، على عشرات الألوف من المسلمين قسراً، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربري شائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة في ميدان باب الرّملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، أُضرمت النار فيها جميعاً ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حملت إلى الجامعة التي أنشأها في مدينة ألكالا دى هنارس، وذهبت ضحية هذا الإجرام الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما بقي من تراث الفكر الإسلامي في الأندلس (2).

وليس المؤلفون العرب والمسلمون وحدهم الذين يصفون عمل خمنيس بالبربرية والهمجية، بل قالها ويقولها المنصفون من الغربيين، فمثلاً يشير المستشرق الإيطالي الأب سكيابرللي ( Schiaparelli) في مقدمة إحدى كتبه إلى:"التعصب الكاثوليكي، وثورات خمنيس البربرية، التي ترتب عليها حرق المصاحف والكتب الإسلامية الأخرى لمسلمي غرناطة، وذلك لكي يتوسل إلى تنصيرهم".

ويقول المؤرخ الأمريكي وليم برسكوت: "إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجي جاهل وإنما جد مثقف، وقد وقع لا في ظلام العصور الوسطى،

(1) Luis del Marmol; ibid. 1. Cap. XX111.

(2)

يختلف المؤرخون الإسبان في تقدير عدد الكتب العربية التي أحرقت، فيقدرها دي روبلس E. de Robles الذي كتب بعد ذلك بقرن كتاباً عن حياة الكاردينال خمنيس: بمليون وخمسة آلاف كتاب. ويقدرها برمندث دي بدراثا B. de pedraza الذي كتب بعده بقليل بمائة وخمسة وعشرين ألفاً، ويقدرها كوندي بثمانين ألفاً، أنظر: Isabella: p. 451-453 and notis and Prescott: Fexd

ص: 301

ولكن في فجر القرن السادس عشر، وفي قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حدّ بتقدمها، إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها". ثم يشير إلى ما ترتب على هذا العمل بقوله: "لقد غدت الآداب العربية نادرة في مكتبات نفس البلد الذي نشأت فيه، وإن الدراسات العربية التي كانت من قبل زاهرة في إسبانيا، حتى في العصور الأقل لمعاناً، انهارت لأنها عدمت عذاء يؤدها، وهكذا كانت النتائج المحزنة للمطاردة التي يراها بعضهم أشد تقويضاً من تلك التي توجه إلى الحياة ذاتها (1).

على أن هذا العمل الذي يثير النقد الغربي الحديث وزرايته، يجد مع ذلك بين العلماء الإسبان من يسوّغه، بل ويمجّده. وقد تولى المستشرق سيمونيت الدفاع عن الكاردينال خمنيس، الذي يصفه بأنه أحد أمجاد الكنيسة الإسبانية، في رسالة عنوانها:"الكاردنال خمنيس دى سيسنيرس والمخطوطات العربية الغرناطية"(2)، يقول فيها: إن ما قام به الكاردينال من حرق الكتب أمر لا غبار عليه، إذ هو إعدام للشيء الضار، وهو بالعكس أمر محمود، كما يعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكين الكاثوليكيين قد أمرا بعد تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين، لكي تحرق في سائر مملكة غرناطة، أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم سواء في الدين أو الشريعة أو كتب الطب والفلسفة والتاريخ أو غيرها إلى قاضي الجهة، وذلك في ظرف خمسين يوماً من تاريخ هذا الأمر، لكي يفحصها القضاة، وتؤخذ منها كتب الدين والسنة، ويرخص القضاة بعد ذلك بحيازة غيرها. ويدافع سيمونيت عن تصرف الكاردينال خمنيس بحماسة ويقول: إن إحراقه للكتب، يمكن أن يقارن بما وقع من أعمال مماثلة خلال الثورات الحديثة، منذ الثورات البروتستانية الإنكليزية والألمانية إلى الثورة الفرنسية، وأنه خلال هذه

(1) Prescott; ibid. P. 453-454.

(2)

F. Javier Simonce Cardinal Ximenez de Cisneroz Y Los Manuscritos Arabigo-Granadinos.

ص: 302

الثورات قد أحرق أو أتلف كثير من الآثار الأدبية والفنية في كثير من البلاد الأوروبية، وأنه لا يمكن مقارنة عمل خمنيس، بما وقع من إحراق مكتبة الإسكندرية (المزعوم) بأمر الخليفة عمر، وأن معظم الكتب العربية قد أخرج من إسبانيا مع الهجرة ومع من هاجر من المسلمين من القواعد الأندلسية المختلفة، وأخيراً أن كثيراً منها قد جمع أيام الملك فيليب الثاني وأودع بقصر الأسكوريال (1). ذلك هو ملخص رسالة المستشرق سيمونيت في الدفاع عن تصرف الكاردينال خمنيس، وهو دفاع يبدو ركيكاً مصطنعاً، إزأء النقد الغربي الحديث، وتطبعه نزعة تحيّز وتعصب واضحة، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية كما أثبت أكثر من مستشرق منصف، وأصبحت معروفة لدى الغربيين وغيرهم. ويبدو تعصّب وتحيز هذا المستشرق الإسباني واضحاً في كل ما كتب عن الأمة الأندلسية المسلمة، وهو لا يمكن - مهما أسبغ على دراسته من المقارنات - أن يزيل أثر هذه الوصمة المشينة من حياة خمنيس، أو من التاريخ الإسباني.

وما حدث في غرناطة من تنصير المسلمين، حدث في باقي البلاد والنواحي الأخرى، فتنصر أهل البشرات وألمرية وبسطة ووادي آش في العام التالي، أعني في سنة (1500 م)، وعمّ التنصير في سائر أنحاء مملكة غرناطة. على أن هذه الحركة التي نظمت لتنصير بقية الأمة الأندلسية، والتي لم تدخر فيها أساليب الوعود والوعيد والإغراء والإكراه، لم تقع دون قلائل واضطرابات عديدة. وكان الإغراء بالتنصير يتخذ أحياناً، شكل هبات ومنح جماعية لبلدة أو منطقة بأسرها، كما حدث بالنسبة لأهل وادي ألكرين (الإقليم) ولنخرون والبشرات، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان مرسوماً في (30 حزيران - يوليه سنة 1500 م) بإبراء سائر أهالي النواحي المذكورة، الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الحقوق والتعهدات المفروضة على

(1) Simonet; ibid. P. 3، 8-10، 17، 18، 20-24 and 31.

ص: 303

الموريسكيين العرب المتنصرين - لصالح العرش، ورفعها عن منازلهم وأراضيهم وسائر أملاكهم المنقولة والثابتة، وهبتها لهم، وإلغاء ضريبة الرأس المفروضة عليهم لمدة ست سنوات، وإقالتهم من الغرامة التي فرضت عليهم من جرّاء ثورتهم، وقدرها خمسون ألف دوقية، هذا إلى منح وبراءات أخرى تضمنها المرسوم (1).

وصدر كذلك مرسوم مماثل من الملكين الكاثوليكيين في (30 أيلول - سبتمبر سنة 1500 ام) إلى المسلمين القاطنين بحيّهم ( Moreria) بمدينة بسطة، بإقالة الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الفروض والمغارم التي فرضت على الموريسكيين، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم أو أموالهم الثابتة والمنقولة من يوم التنصير، وألاّ يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب بغرامة فادحة، وأن يُعفوا من سائر الذنوب التي ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن تحترم جميع العقود والمحررات التي كتبت بالعربية وصادق عليها فقهاؤهم وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين في بسطة، ولهم أن ينتقلوا وأن يعيشوا في أي مكان آخر من أراضي قشتالة، دون قيد أو عائق، إلى غير ذلك من المنح والامتيازات (2).

وصدر أخيراً مرسوم بالعفو عن جميع سكان حي المسلمين، ( Moreria) بغرناطة والقرى الملحقة بها، بالنسبة لجميع الذنوب والأخطاء التي ارتكبت حتى يوم تنصيرهم، وألاّ يُتخذ في شأنهم أي إجراء سواء ضد أشخاصهم أو أملاكهم (3).

ولم تقدم لنا الرواية الإسلامية المعاصرة لأحداث التنصير كثيراً من

(1) يحفظ هذا المرسوم بدار المحفوظات الإسبانية العامة برقم Archivo general de Simancas، P. R. 11-98

(2)

Archivo general de Simancas; P. R. 11-107.

(3)

Arch gen، Leg. 28; Fol. 22

ص: 304

التفاصيل عن هذه الحوادث والتطورات، ولكنها تكتفي بأن تجمل مأساة تنصير المسلمين في هذه الكلمات المؤثرة:"ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصير، وأكرههم عليه، وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها مَن يقول: "لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله"، إلاّ مَن يقولها في قلبه، وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، لم يقدروا على الهجرة واللّحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ولا على زجرهم، ومَن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب؛ فيالها من فجيعة ما أمرّها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها"، ثم يختتم بقوله:"وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً"(1).

ونقل لنا المقري نبذة من رسالة أخرى يشير كاتبها إلى تنصير مسلمي الأندلس هي: "وتعرفنا من غير طريق، وعلى لسان غير فريق، أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يجد في سالف الدهر. وذلك أنهم أُكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضي في الظاهر الكفر، ولم يقبل منهم الأسر. وكان الابتداء في ذلك من أهل غرناطة، وخصوصاً أهل واسطتها لقلة الناس، وكونهم من الرعيّة الدهماء، مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس، وعلم النصارى بأن مَن بقي بها من المسلمين إنما هم أسارى

(1) أخبار العصر (54 - 56).

ص: 305

بأيديهم، وعيال عليهم، وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل، وعتوا فيهم بالخروج والجلاء، ولم يبق من المسلمين طائل، ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده، ونشر بمحض الغدر بنوده .. الخ" (1).

وجاء في رواية أخرى، هذا الوصف لمأساة التنصير:"إن طاغية قشتالة وأراغون، صدم غرناطة صدمة، وأكره على الكفر مَن بقي بها من الأمة، بعد أن هيض جناحهم، وركدت رياحهم، وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال، والطاغية يزدهي في الكفر ويختال، ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه، وتطمس معالمه ورسومه، فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم مَن جبر بالقتل على الإسلام، وتوعّد بالنكال والمهالك العظام، ومَن يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدّة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحدٍ بالتنصر أن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال، ويطلبون لطف الله على كل حال".

وقد تردد صدى هذه المحنة التي نزلت بمسلمي الأندلس بسرعة في سائر جنبات العالم الإسلامي، فنرى ابن إياس مؤرخ مصري، وهو راوية معاصر، يدوّن في حوادث (صفر سنة 906 هـ - آب - أغسطس 1500 م)، أعني عقب محنة التنصير بأشهر قلائل ما يأتي: "وفيه جاءت الأخبار من المغرب، بأن الإفرنج قد استولوا على غرناطة التي هي دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا: مّن دخل ديننا تركناه، ومَن لم يدخل قتلناه، فدخل في دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفاً على أنفسهم من القتل، ثم ثار

(1) أزهار الرياض (1/ 69 - 71).

ص: 306

عليهم المسلمون ثانياً وانتصفوا عليهم بعض شيء، واستمر الحرب ثائراً بينهم، والأمر لله تعالى في ذلك" (1).

أما المسلمون الذين بقوا في مملكة البرتغال، فقد كان مصيرهم فيما يبدو أفضل من مصير إخوانهم مسلمي الأندلس، فقد قضى العرش البرتغالي بإخراجهم من أراضي المملكة في سنة (1496 م)، والسماح لهم بالعبور إلى المغرب أو إلى حيث شاءوا، ونظراً لما لقوه من صعاب في اختراق الأراضي الإسبانية، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان، تحقيقاً لرغبة ملك البرتغال مرسوماً في (نيسان - أبريل سنة 1497 م) يصرح فيه للمسلمين البرتغاليين ونسائهم وأولادهم وخدمهم، أن يخترقوا أراضي قشتالة، وأن يذهبوا بأموالهم وأمتعتهم إلى البلاد الأخرى، وأن يبقوا في أرض قشتالة الوقت الذي يرغبون، ثم يغادرونها بأموالهم متى شاءوا، وفقط لا يسمح لهم بحمل الذهب والفضة إلى الخارج، ويؤمنون في أنفسهم وأموالهم ضد كل اعتداء، ولا يؤخذ منهم شيء بلا حق (2).

تلك هي المأساة التي استحالت فيها بقية الأمة الأندلسية بالتنصير المفروض إلى طائفة جديدة عرفت من ذلك التاريخ بالموريسكيين ( Moriscos) أو المسلمين الأصاغر، أو العرب المتنصرين (3). وقد فرض التنصير على المسلمين فرضاً، ولم تحجم السلطات الكنسية والمدنية، عن اتخاذ أشدّ وسائل العنف. ولم يستكن المسلمون إلى هذا العنف دون تذمّر ودون مقاومة، وسرت إليهم أعراض الثورة ولاسيما في المناطق الجبلية، حيث كان ما يزال ثمة قبس من الحماسة الدينية. وكانت السياسة الإسبانية تلتمس الوسيلة للتخلص نهائياً من العهود المقطوعة، فألفت من

(1) ابن إياس (2/ 392).

(2)

Arch. gen. de Simancas، P. R. Leg. 28 Fol. 3.

(3)

Moriscos هي تصغير كلمة Moros، ومعناها: المسلمون، أو العرب الأصاغر، رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال.

ص: 307

التذمّر والمقاومة سندها، وقرر مجلس الدولة بأن المسلمين أصبحوا خطراً على الدين والدولة، ولا سيما بعد ما تبين من جنوحهم إلى الثورة، ومحاولتهم الاتصال بإخوانهم في المغرب ومصر والقسطنطينية، وقضى بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، ونفي المخالفين منهم من الأراضي الإسبانية. وهكذا حاول مجلس الدولة أن يسبغ صفة الحق والعدالة على التنصير القسري، وعلى كل ما يتخذ لتحقيقه من إجراءات العسف والإرهاق.

وقع هذا القرار على المسلمين وقع الصاعقة، وسرعان ما سرت إليهم الحمية القديمة، فأعلنوا الثورة في معظم نواحي غرناطة، وفي ريفي البيازين، وفي البشرات، واشتدّ الهياج بالأخص في بلفيق وفي أندراش حيث نسف حاكم البلدة مسجدها، بالبارود، وفي فيحار وجويجار وغيرها، واعتزم المسلمون الموت في سبيل دينهم وحريتهم، ولكنهم كانوا عزلاً، وكانت جنود النصرانية صارمة شديدة الوطأة فمزقتهم بلا رأفة، وكثر بينهم القتل، وسبيت نساؤهم، وقضى بالموت على مناطق بأسرها، ما عدا الأطفال الذين هم دون الحادية عشرة، فقد حُولوا إلى نصارى. وحمل التعلّق بالوطن وخوف الفاقة وهموم الأُسرة كثيراً منهم على الإذعان والتسليم. فقبلوا التنصير المغصوب ملاذاً للنجاة، ولجأت الحكومة بعد إخماد الهياج في غرناطة والبيازين إلى أساليب الرّفق، فبعثت بالعمال والقسس في مختلف الأنحاء، ولم يدّخر هؤلاء وسعاً في اجتذاب المسلمين بالوعيد والوعود، وهكذا ذاع التنصير في سائر مملكة غرناطة القديمة (1).

وفي نفس الوقت، اضطر المسلمون المدجّنون في آبلة وسمورة وبلاد أخرى في جليقية إلى اعتناق النصرانية، وكانوا حتى ذلك الوقت يحتفظون بدينهم القديم.

ونشط فرديناند إلى إخماد الهياج حيث يقع، وفي الوقت الذي غدا فيه

(1) Marmol ; ibid، 1. Cap. XXV11. وكذلك Prescott: ibid; P. 462

ص: 308

التنصير أمراً محتوماً، وأضحى فرديناند يعتبر نفسه في حلّ من عقوده المقطوعة للمسلمين، تقدّم إليه ديسا المحقق العام بوجوب إنشاء ديوان للتحقيق في غرناطة، يعاون على مطاردة الزَّيغ بوسائله الفعّالة، فألِّفت لجنة ملكية للتحقيق في حوادث غرناطة، وقبض على كثير من المسلمين بتهمة التحريض، وهرع آلاف منهم أُخر إلى اعتناق النصرانية خيفة السجن والمطاردة. وعارض فرديناند وإيزابيلا في إنشاء ديوان التحقيق في غرناطة ذاتها، واقترحوا أن تحال شئونها إلى اختصاص ديوان التحقيق في قرطبة، وألاّ يقدم المسلمون أو الموريسكيون إلى الديوان إلاّ لتهم خطيرة، ولكن الكنيسة لم تقنع باتخاذ الإجراءات الجزئية، ومضت تعمل لغايتها الشاملة، وكان فرديناند من جهة أخرى لا يزال يتوجّس من المسلمين شرّاً، ويرى في منطق الكنيسة قوة، وهو أن احتفاظ المسلمين بدينهم يقوّي الروابط بينهم وبين إخوانهم في إفريقية، وأن إسبانيا ما تزال تضمّ بين جوانحها عدواًّ يخشى بأسه، وأن في تنصير المسلمين أو إخراجهم من إسبانيا، سلام إسبانيا ونقاء دينها.

وكانت الكلمة للكنيسة دائماً، ففي (20 حزيران - يوليه سنة 1501 م) أصدر فرديناند وإيزابيلا أمراً ملكياً خلاصته:"أنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم، خوفاً من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين نُصِّروا لئلا يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال".

وحاول المسلمون في يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصير، ويطلبون إليه أن ينذر ملك إسبانيا، بأنه سوف ينكّل بالنصارى المقيمين في مملكته، إذا لم يكف عنهم، فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة، وأرسل إلى فرديناند يخطره بما تقدّم. وانتهز فرديناند هذه الفرصة، فأوفد إلى بلاط القاهرة (سنة 1501 م) سفارته التي

ص: 309

تحدثنا عنها فيما تقدم والتي كان سفيره فيها بيترو مارتيري الحبر الكاتب المؤرخ، فأدى مارتيري سفارته ببراعة، واستطاع أن يقنع السلطان بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم (1).

وهكذا خبت آمال المسلمين تباعاً، ولم تستمر ثورة المسلمين إلاّ في المنطقة الجبلية الواقعة بين آكام فليا لونجاو وسيرافرمليا (الجبال الحمراء) بجوار رندة، حيث احتشدت بعض البطون المغربية، وحيث استطاع الثوار أن يقتحموا شعب الجبال، وأن يفتكوا بعمال الحكومة وجندها. وسيَّر فرديناند إلى تلك المنطقة حملة قوية تحت قيادة قائده الشهير ألونسو دي آجيلار دوق قرطبة، ونفذ الجند الإسبان إلى شعب فليالونجا، ووقعت المعركة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، فهُزِم النصارى هزيمة فادحة، وقتل منهم عدد ضخم، وكان قائدهم دى آجيلار وعدة آخرون من السادة الأكابر، في مقدمة القتلى (آذار - مارس 1501 م)، فكان لهذه النكبة التي نزلت بالجنود الإسبان وقوادهم، أعمق وقع في البلاط الإسباني. وهرع فرديناند إلى غرناطة، ورأى بالرغم مما كان يحدوه من عوامل السّخط والانتقام، أن يجنح إلى اللّين والمسالمة، فأعلن العفو عن الثوار بشرط أن يعتنقوا النصرانية في ظرف ثلاثة أشهر، أو يغادروا إسبانيا تاركين أملاكهم للدولة، فآثر معظمهم النفي والجواز إلى إفريقية، وهاجرت منهم جموع كبيرة إلى فاس ووهران وبجاية وتونس وطرابلس وغيرها، وقدمت الحكومة الإسبانية السفن اللازمة لنقلهم مغتبطة لرحيلهم (2)، إذ كانوا أشد الناس مراساً وأكثرها نزوعاً إلى الثورة. واستقر الباقون وهم الكثرة الغالبة من المسلمين في البلاد، خاضعين مستسلمين، وقد وصفهم دى بداراثا، وهو مؤرخ من أحبار الكنيسة عاش قريباً من ذلك العصر بقوله: "إنهم شعب ذو مبادئ أخلاقية متينة، أشراف في معاملاتهم وتعاقدهم، ليس بينهم عاطل، وكلهم عامل، يعطفون أشدّ

(1) أنظر: Prescott: ibid; P. 287 وكذلك: Dr. Lea: The Moriscos. P. 36

(2)

Prescott. ibid; P. 467.

ص: 310

العطف على فقرائهم" (1).

ولم تفت الرواية الإسلامية أن تشير إلى هذه الصفحة الأخيرة من جهاد المسلمين الباسل في سبيل دينهم، فقد نقل عنها المقري ما يأتي:"وبالجملة فإنهم (أي أهل غرناطة) تنصّروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وإمتنع قوم عن التنصّر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك، منها بلفيق، وأندراش وغيرها، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً إلاّ ما كان من جبل بلنقة (أي فليا لونجا)، فإن الله تعالى أعانهم على عدوّهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب غرناطة، وأُخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خفّ من أموالهم دون الذخائر. ثم بعد هذا كان من أظهر التنصير من المسلمين، يعبد الله خفية ويصلي، فشدّد عليهم النصارى في البحث، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة، فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً، ولم يقيّض الله تعالى لهم ناصراً"(2).

وصدق صاحب نفح الطيب، إذ لم يجد مسلموا الأندلس في محنتهم ناصراً، فلم يعاونهم المغاربة ولا سلطان مصر ولا سلطان القسطنطينية حتى بالكلام، ولو أن سلطان مصر، هدّد بمعاملة نصارى بلاده بالمثل، وجعل الملكين الكاثوليكيين يصدّقون وعيده - خاصة وأن فلسطين كانت تحت حكمه - لتبدّل الحال غير الحال، ولعُومل المسلمون من النصارى الإسبان بالحسنى. والقول إن سفير فرديناند استطاع إقناع سلطان مصر، بأن إسبانيا تعامل المسلمين بالحسنى، إدّعاء فارغ لا يصدّقه العقل ويرفضه المنطق، فقد كانت معاملة ملك النصارى في إسبانيا للمسلمين الظالمة معروفة لدى القاصي والداني في بلاد المسلمين، وقد وصلت أخبارها مصر، وسجلها

(1) R de Pedraza: Hist (Eclestica) : Vida Religiosa de Los Mariscos (P.L11) P. Longas (cit

(2)

نفح الطيب (2/ 616)، وأنظر أخبار العصر (55).

ص: 311

مؤرخها ابن إياس، فكيف يجهلها السلطان ويقتنع بأن ملك إسبانيا النصراني يعامل المسلمين معاملة حسنة؟! إن حكام المسلمين يومئذٍ، الذين لم يمدّوا يد العون إلى إخوانهم المضطهدين في الأندلس، مقصِّرون أمام الله وأمام الناس تقصيراً لا يمكن الدفاع عنه ولا السكوت، وقد تظاهر سلطان مصر بأنه اقتنع بادعاء سفير ملك إسبانيا بأنه يعامل المسلمين بالحسنى، وهو لم يقتنع أبداً، ولكنه لم يكن عازماً على مدّ يد العون لمسلمي الأندلس.

ومضت السياسة الإسبانية في اضطهاد المسلمين والموريسكيين بمختلف الوسائل، وكان من الإجراءات الشاذة التي اتخذت في هذا السبيل، تشريع أصدره فرديناند بإلزام المسلمين والموريسكيين في المدن، بالسكنى في أحياء خاصة بهم، على نحو ما كان متّبعاً نحو اليهود في العصور الوسطى، ونفّذ هذا التشريع في غرناطة عقب حركة التنصير الشامل، وأفرد بها للمسلمين والمتنصِّرين حيّان، أحدهما يضمّ نحو خمسمائة منزل، وهو الحي الصغير وهو داخل المدينة، والثاني يضم نحو خمسة آلاف منزل، ويشمل ضاحية البيازين، وكانت الأحياء التي يشغلها المسلمون أو المتنصّرون في المدن الأندلسية تسمى:(موريريا Moreria) أو أحياء الموريسكيين، على نحو ما كانت أحياء يهود الخاصة تسمى:(الجيتو Ghetto) وكانت تفصل بينها وبين أحياء النصارى أسوار كبيرة، وكان عدد المسلمين الذين بقوا في غرناطة يبلغ في ذلك الحين نحو أربعين ألفاً (1).

وصدر في نفس الوقت في (أيلول - سبتمبر 1501 م) قانون يحرّم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة

(1) Dr. Lea. The Moriscos، p. 31، 151-152، ويبدو هذا الالتزام بسكنى المسلمين في أحياء خاصة في غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية القديمة في كثير من المراسيم الملكية التي صدرت منذ سنة 1500 م، مثال ذلك المرسوم الصادر بالإعفاء لأهل بسطة Arch Ar gln، والمرسوم الصادر بالعفو عن حيّ المسلمين ( Moreria) في غرناطة.

ص: 312

بالحبس والمصادرة، تم الموت بعد ذلك، وهو قانون تكرّر صدوره بعد ذلك غير مرّة في ظروف وعصور مختلفة، وكان يطبق بصرامة بالأخص كلما حدث من الموريسكيين هياج أو مقاومة مسلحة تخشى عواقبها (1).

وكانت السياسة الإسبانية تخشى احتشاد الموريسكيين وتجمعاتهم في مملكة غرناطة، ولهذا صدر في (شباط - فبراير 1515 م) مرسوم ملكي أعلن في طليطلة، وفيه يحرّم بتاتاً على المسلمين المتنصرين حديثاً والمدجنين من أي جهة من مملكة قشتالة، أن يخترقوا أراضي غرناطة، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة. ونصّ هذا المرسوم أيضاً أن يحرم بتاتاً على المتنصرين حديثاً في مملكة غرناطة أو في أية جهة أخرى من المملكة، أن يبيعوا أملاكهم لأي شخص دون ترخيص سابق، ومن فعل عوقب بالموت، والمصادرة، وذلك لأنه تبين كما ورد في المرسوم، أن كثيراً من المسلمين المتنصرين يبيعون أملاكهم، ويحصلون أثمانها، ثم يعبرون إلى المغرب، وهناك يعودون إلى الإسلام (2).

3 -

ديوان التحقيق (3) الإسباني

ومهمته في إبادة الأمة الأندلسيّة

أ - قام ديوان التحقيق ( La Inquisicion) في مطاردة الموريسكيين بأعظم دور، وترك في مأساتهم أعمق الأثر، لذلك يجدر التحدث عن تاريخ هذه المحاكم الشهيرة، ونظمها وأعمالها الرهيبة.

ويرجع قيام محاكم التحقيق إلى فكرة الرقابة القديمة على العقيدة

(1) نفس المصدر السابق.

(2)

Archivo general de Simancas ، P. R. Legejo. 8، Fol. 120.

وأنظر تفاصيل هذه الدراسة في: نهاية الأندلس (292 - 310).

(3)

يطلق عليها خطأً: محاكم التفتيش، واسمها أعلاه هو الصواب.

ص: 313

والتحقيق عن سلامتها ونقائها. وقد ظهرت فكرة التحقيق على العقائد في الكنيسة الرومانية في عصر مبكّر جداً، وبُدىء بتطبيقها منذ أوائل القرن الثالث عشر، فكان البابا يعهد إلى الأساقفة وإلى الآباء الدومنيكيين، في تعقّب المارقين والكفرة ومعاقبتهم. وطبق هذا النظام منذ البداية في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وكان مندوبو البابوية يتجولون في مختلف الأنحاء، لتقصّي أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هي النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يعمل الكفرة والملاحدة، ثم تُحلّ متى تمّت مهمّة مطاردتهم والقضاء عليهم.

ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها في أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة في هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أي مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رئاسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجري بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن، وكان يسمح للنساء والصبيان والعبيد بالشهادة ضدّ المتهم وليس له، ويؤخذ الاعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التي يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة، وكانت العقوبات الرئيسية هي السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لمطاردة الألبيين (1) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا

(1) نسبة إلى: (ألبي)، وهي مدينة بجنوبي فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة.

ص: 314

منذ أوائل القرن الثالث عشر في جنوبي فرنسا. وفي عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق في تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرّمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة في العهد القديم.

ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضي الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر والزيغ في العقيدة، بل تعددته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرّافة والعرّافين، وشُبِّه هؤلاء بالكفر. وجاء بعد ذلك دور يهود، فاتهموا بسبّ النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا وتتبّعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب، على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر في مطاردة الكفر والزّيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها.

ب - تلك هي الظروف التي قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، في مختلف أنحاء أوروبا: في إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسباني إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة. وقد أنشئت محاكم التحقيق في مملكة أراغون منذ القرن الثالث عشر، ووضعت لها في سنة (1242 م) إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر في صوغ ديوان التحقيق الإسباني. وعرف هذا الديوان الأرغوني بالديوان القديم، وعكف حيناً على مطاردة الألبيين وإخماد دعوتهم في أراغون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والرّوع.

على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة لنشاط ديوان التحقيق الإسباني، ذلك أن ظروف إسبانيا النصرانية في ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين إسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها في ميدان الحرب والسياسة، كان كلها تذكي النزعة الصليبية، التي كانت تجيش بها إسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر إلى طوائف كبيرة من

ص: 315

المدجنين في مهاد عزّها القديم، في قشتالة وأراغون، ولم تبق سوى بقية أخيرة تحتشد في مملكة غرناطة الصغيرة، الذي كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً في الأفق. وكان تفوّق إسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكي عوامل التعصب الديني الذي تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه إسبانيا الظافرة يومئذٍ شعارها المفضّل في ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم في هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من يهود ( Conoersos) وكان أولئك المحدثون في النصرانية، قد سما شأنهم، ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوّأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية في الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الرّيب، ويعتبرونهم شرّاً من يهود الخلّص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزّيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً، ولما تفاقم الإتهام من حولهم، صدر في سنة (1465 م) في عهد الملك هنري الرابع ملك قشتالة، أمر ملكي إلى الأساقفة بالاستقصاء والبحث في دوائرهم، وتتبع هذا اللّون من المروق والزيغ، ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد، اتخذت صورة المحاكمات الدينية، وأحرق عدد من أولئك المتنصرين. ولكن قشتالة التي شغلت يومئذٍ بمشاكلها الداخلية، لم تعن بأمر المتنصّرين ولم تزعجهم. وهنا تدخّل البابا سكستوس ( SIXTO) الرابع، وحاول أن يدخل نظام التحقيق في قشتالة، فأرسل إليها مبعوثاً بابوياً مزوّداً بكل السلطات، للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم. ولكن فرديناند وإيزابيلا وقفا في وجه هذه المحاولة حرصاً على سلطانهما، وحدَّا من سلطان الكنيسة، وأغضت إيزابيلا مدى حين عن تحريض الأحبار، على مطاردة الكبراء المنتمين إلى أصل يهودي، إذ كانت تثق بهم وبصادق نياتهم وغيرتهم في خدمة الدولة والعرش.

على أن هذه المقاومة لم تلبث طويلاً، ذلك لأن كل الظروف كانت تمهّد لظفر السياسة الكنسية، فلم تلبث أن غلبت مساعي الأحبار، وقَبِل الملكان

ص: 316

إنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، ليضطلع في مثل المهام الخطيرة التي يضطلع بها في أراغون. وهنا يقال: إن الفضل في إقناع الملكة إيزابيلا بتحقيق هذه الفكرة يرجع إلى القس توماس دى تُركيمادا رئيس دير الآباء الدومنيكان في سانتا كروث بشقوبية. وقد كان معترف الملكة وله عليها نفوذ قوي، فقيل: إنه استطاع أن يحصل منها قبل اعتلائها العرش، على وعد بأنها متى ظفرت بالملك، فإنها تكرِّس حياتها لسحق الكفر وحماية الكثلكة، وأنه كان أكثر العاملين على إقناعها بالموافقة على إنشاء ديوان التحقيق. وفي سنة (1478 م) أرسل فرديناند وإيزابيلا سفيرها إلى البابا للحصول على المرسوم البابوي، وصدر المرسوم بالفعل في (تشرين الثاني - نوفمبر 1478 م) بالتصريح بإنشاء ديوان التحقيق في قشتالة، وتعيين المحققين لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين)، واتخذت الخطوة الحاسمة لتنفيذ المرسوم في (أيلول - سبتمبر 1480 م)، حيث ندب المحققون الثلاثة الأُول، وأنشئت محكمة التحقيق الأولى في إشبيلية. وهكذا بدأ ديوان التحقيق الإسباني نشاطه المروّع في قشتالة.

ج - وبدأ الديوان أعماله في إشبيلية بإصدار قرارات يحث فيها كل شخص أن يساعد الديوان، في البحث عن الملحدين والكفرة، وكل مَن في عقيدتهم زيغ، وفي جمع الأدلة على إدانتهم، وفي التبليغ عنهم بأية وسيلة. وانقضّت العاصفة بالأخص على يهود المتنصرين، وكانت منهم طائفة كبيرة في إشبيلية، فلم يمض عام حتى بلغت ضحاياهم ألوفاً أحرق معهم عدد كبير، وعوقب الكثيرون بالسجن والغرامات الفادحة والمصادرة والتجريد من الحقوق المدنية.

وحاول كثير من المتنصرين النجاة بالفرار إلى ضياع الأشراف، فصدر أمر ملكي بتسليم الهاربين إلى محكمة التحقيق، وهُدِّد الأشراف بفقد وظائفهم والنّفي من الكنيسة، إذا تخلّوا عن تنفيذ الأمر. وحاول بعض أكابر المتنصرين في الوقت نفسه تدبير مؤامرة، لمقاومة محكمة التحقيق، والفتك بأعضائها،

ص: 317

ولكن المؤامرة اكتشفت وقبض على كثير منهم، وقضي بإعدام بعضهم حرقاً. وبذلك سحقت كل مقاومة لنشاط الديوان الجديد. واتسع نشاط الديوان بسرعة، واستصدر الملكان من البابا مرسوماً بتعيين سبعة من:(المحققين) الجدد (شباط - فبراير 1482 م)، وأنشئت على أثر ذلك محاكم التحقيق في قرطبة وجيّان وشقوبية وطليطلة وبلد الوليد، وشمل نشاط الديوان سائر أنحاء المملكة الإسبانية (قشتالة وأراغون).

وكان فرديناند وإيزابيلا يرميان أن تسبغ الصفة القومية على ديوان التحقيق، وأن يكون سلطانه مستمداً من العرش، أكثر مما هو مستمد من البابوية. ولتحقيق هذه الغاية؛ رُؤى أن ينظم الديوان على أسس جديدة. وكان الديوان قد غدا في الواقع أداة هامة مرهوبة الجانب، ولابد لهذه الأداة من سلطة عليا تقوم بالتوجيه والإرشاد. ومن ثم فقد صدر المرسوم البابوي في سنة (1483 م) بإنشاء مجلس أعلى لديوان التحقيق ( Suprema) له اختصاص مطلق في كل ما يتعلق بشئون الدين. ويتألف من أربعة أعضاء، منهم الرئيس، وأطلق على منصب الرئيس:(المحقق العام) - ( Inquisitor General) وصدر المرسوم البابوي في (تشرين الأول - أكتوبر 1483 م) بتعيين القس توماس دى تُركيمادا معترف الملكين في هذا المنصب الخطير، وخوِّل في الوقت نفسه سلطة مطلقة في وضع دستور جديد للديوان المقدّس.

وكان القس تركيمادا شديد التعصب، وافر العزم والبأس، فبذل في تنظيم الديوان وتوطيد سلطانه جهوداً عظيمة، وبث فيه روحاً من الصرامة. وكان جلّ غايته أن يجعل من ديوان التحقيق الإسباني، أداة قومية تعمل وفقاً لحاجات إسبانيا، وقد وفِّق إلى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حدّ. وبُدئ بوضع دستور الديوان الجديد في سنة (1485 م) على يد جمعية من المحققين العامين عقدت في إشبيلية، ووضعت طائفة من القرارات واللوائح، ثم عقدت بعد ذلك جمعية أخرى في بلد الوليد سنة (1488 م) وضعت عدّة لوائح جديدة، وعقدت جمعية ثالثة في آبلة سنة (1498 م). وتولى المجلس

ص: 318

الأعلى (السوبريما) بعد ذلك صياغة اللّوائح وتنقيحها. وكان هذا التنظيم عظيم الأثر في تطور ديوان التحقيق الإسباني. ذلك أنه غدا من ذلك الحين محكمة قومية مستقلة، وغدا سلطة يخافها أعظم العظماء في إسبانيا، ويرتجف لذكرها الفرد العادي، وأضحى نشاطها الرهيب، وقضاؤها المدمر، عنصراً بارزاً في التاريخ الإسباني، يقوم بدوره الفعال في دفع إسبانيا إلى شفا المنحدر، الذي لبثت تترى في غمرته زهاء ثلاثة قرون.

ولبث تركيمادا في منصب المحقق العام حتى توفي في سنة (1498 م)، وفي عهده اشتد نشاط محاكم التحقيق واتسعت أعمالها. وكان هذا القس المتعصب بالرغم من تقشّفه، يعتبر بعد العرش أعظم سلطة في إسبانيا، ويعيش في قصور باذخة، وله حرس كبير من الفرسان والمشاة. وكان من جرّاء شدّته وعسفه، أن ندب البابا سنة (1494 م) إلى جانبه خمسة من المحققين العامين، يتمتع كل منهم بنفس سلطته. ولما توفي خلفه في منصب المحقق العام ديجو ديسا أسقف جيّان، واستمر في منصبه حتى سنة (1507 م).

د - ونقدِّم الآن عرضاً موجزاً لإجراءات ديوان التحقيق، وسنرى أنها بأصولها وتفاصيلها، أبعد ما تكون عن مبادئ المنطق وأشد ما تكون عسفاً وقسوة وهمجية.

تبدأ قضايا الديوان أو محاكماته الفرعية، بالتبليغ أو ما يقوم مقامه، كورود عبارة في قضية منظورة تلقي شبهة على أحدٍ ما. ولا فرق أن يكون التبليغ من شخص معين أو يكون غفلاً. ففي الحالة الأولى يُدعَى المبلّغ ويذكر أقواله وشهوده، وتعتبر أقوال المبلّغ وشهوده (تحقيقاً تمهيدياً). كذلك يمكن التبليغ بواسطة (الاعتراف) الذي يتلقاه القُسس، ولهم أن يبلِّغوا عما يقعون عليه في حالة الاشتباه في العقائد، وذلك بالرغم مما يقتضيه الاعتراف من الكتمان، ويُقسِم المبلغون يميناً بالكتمان، ولا توضح لهم الوقائع التي يسألون عنها بل يُسألون بصفة عامة، عما إذا كانوا قد رأوا أو سمعوا شيئاً

ص: 319

يناقض الدين الكاثوليكي أو حقوق الديوان. ويقوم الديوان في الوقت نفسه بإجراء التحريات السريّة المحلية عن المبلغ ضدّه، ثم تعرض نتائج التحقيق التمهيدي على (الأحبار المقرِّرين) ليقرِّروا ما إذا كانت الوقائع والأقوال المنسوبة إلى المبلَّغ ضده تجعله مرتكباً لجريمة الكفر أو تلقي عليه فقط شبهة ارتكابها، وقرارهم يحدّد الطريقة التي تتبع في سير القضية. ويقسم المقررون يمين الكتمان أيضاً، وكان معظم أولئك المقررين من القُسس الجهلاء المتعصِّبين. ومن ثم فقد كانت أخلاقهم وآراؤهم، بل ذمّتهم وشرفهم مثاراً للريب، وكان رأيهم الإدانة دائماً إلاّ في أحوال نادرة.

وعلى أثر صدور هذا التقرير، يُصدر النائب أمره بالقبض على المبلَّغ ضدّه وزجّه إلى سجن الديوان السري. وكانت سجون الديوان المخصصة لاعتقال المتهمين بالكفر أو الزيغ، وهي المعروفة بالسجون السرية، غاية في الشناعة والسوء، تتصل مباشرة بغرف التحقيق والعذاب، عميقة رطبة مظلمة، تغصّ بالحشرات والجرذان، ويُصفَّد المتهمون بالأغلال (1). ويقول لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني: إن أفظع ما في أمر هذه السجون هو أن مَن يزج إليها، يسقط في الحال في نظر الرأي العام، وتلحقه وصمة لا تلحقه من أي سجن آخر مدني أو ديني، وفيها يسقط في غمار حزن لا يوصف وعزلة عميقة دائمة، ولا يعرف إلى أي مدى وصلت قضيته، ولا ينعم بتعزية مدافع عنه، غير أن لورنتي ينفي تصفيد المتهمين بالأغلال الثقيلة في أرجلهم وأيديهم وأعناقهم، ويقول: إن هذا الإجراء لم يكن يُتّبع إلاّ في أحوال نادرة (2).

ويقول الدكتور لي: "كان القبض الذي يجريه ديوان التحقيق في ذاته عقوبة خطيرة، ذلك أن أملاك السّجين كلها تُصادَر وتُصفَّى على الفور، وتقطع

(1) Dr. Lea: History of the Inquisition of Spain، V. 1. Chap.1V.

(2)

Don. S. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817) ، وهو مؤلف نقدي ضخم، ويمتاز بكون مؤلفه إسبانيّ، وهو حبر خدم ديوان التحقيق أعواماً طويلة، وكان في آخر حياته يشغل فيه السكرتير العام.

ص: 320

جميع علائقه بالعالم حتى تنتهي محاكمته، وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة، لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرقه المحاكمة" (1). ولا يُخطر المتّهم بالتهم المنسوبة إليه، ولكنه يمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات في ثلاثة أيام متوالية، تعرف بجلسات الرأي أو الإنذار، وفيها يطلب إليه أن يقرِّر الحقيقة، ويُوعد بالرأفة إذا قرر وفق ما ينسب إليه، وينذر بالشدّة والنكال إذا كذب أو أنكر، لأن (الديوان المقدس) لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة الكافية على إدانته، وهي طريقة غادرة محيّرة. فإذا اعترف المتّهم بما ينسب إليه ولو كان بريئاً، اختصرت الإجراءات، وقُضي عليه بعقوبة أخف، ولكنه إذا اعترف بأنه كافر مطبق، فإنه لا ينجو من عقوبة الموت، مهما كانت الوعود التي بذلت له بالرأفة والعفو. فإذا أبى المتّهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث، وضع له النائب قرار الاتهام طبقاً لما ورد في التحقيق من الوقائع، وذلك مهما كانت الأدلة المقدّمة من الركاكة والضعف بمكان. بيد أن أفظع ما يحتويه القرار، هو إحالة المتهم على التعذيب، وغالباً ما يطلب النائب هذه الإحالة، وذلك بالرغم من اعتراف المتهم بما يُنسَب إليه، لأنه يفترض دائماً أنه أخفى أو كذب في اعترافه. وتصدر المحكمة قرار التعذيب مجتمعة بهيئة غرفة مشورة. وكان قرار التعذيب في العصور الأولى يصدر عقب الاشتباه والقبض فوراً. وقد استعمل التعذيب في محاكم التحقيق للحصول على الاعتراف، منذ القرن الثالث عشر، وكان التعذيب في قشتالة إجراء يسوّغه القضاء العادي، وكان يعتبر وسيلة مشروعة لنيل الاعتراف، فلم يكن غريباً أن يدمجه ديوان التحقيق في دستوره، وقد نوّه كثير من المؤرخين بروعة الإجراءات والوسائل التي كانت تلجأ إليها محاكم التحقيق في توقيع العذاب. ويعلق عليه دون لورنتي بقوله: "لست أقف لأصف ضروب التعذيب التي كان

(1) Dr Lea: the Moriscos of Spain.

ص: 321

يوقعها ديوان التحقيق على المتهمين، فقد رواها بما تستحق من الدقة كثير من المؤرخين، ولكني أصرِّح أن أحداً منهم لا يمكن أن يُتّهم بالمبالغة فيما روى. ولقد تلوت كثيراً من القضايا، فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً، ولم أر في المحققين الذين التجأوا إلى تلك الوسائل إلاّ رجالاً بلغ جمودهم حدّ الوحشية" (1). بيد أن مؤرخاً حديثاً لديوان التحقيق هو الدكتور لي يرى في هذه الأقوال مبالغة، ويقول لنا: إن ديوان التحقيق لم يكن في إجراءاته الخاصة بالتعذيب، أكثر قسوة أو إرهاقاً من القضاء العادي، وأن ديوان التحقيق الروماني، كان في إجراءاته أشد قسوة وفظاعة من الديوان الإسباني (2)، ومن الواضح أن هذا الدفاع متهافت، (لأن دون لورنتي) ليس متهماً بالنسبة لمسئولي ديوان التحقيق، فقد عمل فيه حتى نهاية حياته، وقد عاش أحداثه، فلا مجال للشك في أقواله أو الرد عليه، وهي تصف الواقع الذي لا غبار عليه.

وكانت معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، تستعمل في محاكم التحقيق، ومنها تعذيب الماء، وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلّم، وربط لساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات. وتعذيب (الجاروكا)، وهو عبارة عن ربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه. وتعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن والعجز، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وغيرها من الوسائل البربرية المثيرة. ولم يك ثمة حدود مرسومة لروعة التعذيب وآلامه، ولما كان التعذيب يعتبر خطراً لا تؤمن عواقبه، نظراً لاختلاف المتهمين في قوّة البنية والاحتمال المادي والعقلي،

(1) Liorente: ibid.، أنظر نهاية الأندلس (318).

(2)

Dr Lea: The History of the Inquisition. V. 111. Ch. V11.

ص: 322

فإنه لم يك ثمة قواعد معينة تتبع فى إجراء التعذيب، بل كان الأمر يترك لتقدير القضاء وحكمتهم وضمائرهم (1). ولا يحضر التعذيب سوى الجلاّد والأحبار المحققون، والطبيب إذا اقتضى الأمر، ولا يُخطر المتهم بأسباب إحالته على التعذيب، ولا يسأل ليقرر وقائع معينة، بل يعذب ليقرر ما يشاء، ولكن الطعن في القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما) إلاّ في أحوال استثنائية. ولكن الطعن لا يقبل ولا ينظر، حيثما كان القانون صريحاً في وجوب إجراء التعذيب. وقد يأمر الطبيب بإيقاف التعذيب إذا رأى حياة المتهم في خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جفّ دمه، فإذا اعترف المتهم واعتبر القضاء اعترافه صحيحاً، بمعنى أنه يتضمن عنصر التوبة، كف عن تعذيبه. وإذا استطاع المتهم احتمال العذاب وأصرّ الإنكار، لم يفده ذلك شيئاً، لأن القضاة يتخذون غالباً من الوقائع المنسوبة للمتهم أدلة على الإدانة، ويحكم عليه طبقاً لهذا الاعتبار. ويجب أن يؤيد المتهم ما قاله وقت التعذيب، باعتراف حر يقرره في اليوم التالي، وذلك حتى يؤكد صحة الاعتراف، فإذا أنكر أو غيّر شيئاً، أعيد إلى التعذيب.

وبعد انتهاء التعذيب، يحمل المتهم ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التى توجه إليه لأول مرة، ويسأل عند تلاوة كل تهمة عن جوابه عنها مباشرة، ثم يسأل عن دفاعه. وكان مبدأ الدفاع أمراً مقرراً من الوجهة النظرية، فإن كان له دفاع، اختارت له المحكمة محامياً من المقيدين في سجل الديوان للدفاع عنه، وقد يسمح للمتهم باختيار محام من الخارج في بعض الأحوال الاستثنائية، ويقسم المحامي اليمين بأن يؤدي مهمته بأمانة، وألاّ يعرقل الإجراءات بسوء نيّة، وأن يتخلى عن موكله إذا تبين له في أية مرحلة من مراحل الدعوى، أن الحق ليس في جانبه. على إن الدفاع لم يكن في الغالب سوى ضرب من السخرية، ولم يكن عملاً مأمون العاقبة، ولم يكن يسمح للمحامي أن يطّلع على أوراق القضية الأصلية، أو يتصل بالمتهم على

(1) Dr Lea: ibid; V. 111. P. 22.

ص: 323

انفراد، بل تقدم إليه خلاصة التحقيق مرفقة بقرار الإحالة وقرار الإتهام. وكان المحامي الذي يبدي في تأدية مهمته غَيْرة خاصة، يخاطر بأن يقع تحت سخط الديوان.

وبعد المراجعة واستجواب المتهم، تحال القضية على الأحبار المقررين ليبدوا فيها رأيهم من جديد. وكانت هذه خطوة حاسمة في الواقع، لأنها تمهيد إلى الحكم النهائي. ويصدر الأحبار المقررون قرارهم، وقلما كان يختلف عن القرار الأول. فإذا كان الحكم بالإدانة، كان للمتهم فرصة الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما). بيد أنها كانت على الأغلب فرصة عقيمة، إذ قلما كان المجلس الأعلى ينقض حكماً من الأحكام. وكان للمتهم أيضاً أن يلتمس العفو من الكرسي الرسولي، وكانت الخزانة البابوية تغنم من هذه الالتماسات أموالاً طائلة، فكانت فرصة لا يستفيد منها سوى ذوي الغنى الطائل. وقلما يصدر حكم البراءة أو (الإقالة)، إذ أن أقل شك في براءة المتهم براءة مطلقة، كان يوجب اعتباره مذنباً من النوع الخفيف ( De Levi) وعندئذٍ تصدر عليه عقوبات تتناسب مع ذنبه، ويقضى عليه أن يتطهّر من كل شبهة للكفر وفقاً لإجراءات معينة. وإذا قضى بالبراءة - وهو ما يندر وقوعه - أطلق سراح المتهم، وأُعطِيت له شهادة لطهارته من الذنوب، وهي كل ما يعوَّض به عما أصابه في شخصه وفي شرفه وماله، من ضروب الأذى والألم.

وأما إذا قُضِي بالإدانة، فإن الحكم لا يبلغ للمتهم إلاّ عند التنفيذ، وهو إجراء من أشنع الإجراءات الجنائية التي عرفت، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يعرف مصيره الحقيقي، ويجوز رسوم الإيمان (الأوتو دا في Auto-da-Fe) وهي الرسوم الدينية التي تسبق التنفيذ، وخلاصتها أن يلبس الثوب المقدّس، ويوضع في عنقه حبل، وفي يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجوز رسوم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، وهناك يُتلَى عليه الحكم لأوّل مرة. وقد يكون الحكم في حالة التهم الخطيرة بالسجن المؤبد

ص: 324

والمصادرة، أو بالإعدام حرقاً في حالة "الكفر الصريح". وقد يكون في حالة الذنوب الخفيفة بالسجن لمدة محدودة أو بالغرامة، وهو ما يسمى حكم "التوفيق". وكانت أحكام الإعدام هي الغالبة في عصور الديوان الأولى في قضايا الكفر. وكان التنفيذ يقع في ساحات المدن الكبيرة، وفي احتفال رسمي يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكان يقع على الأغلب جملة، فينفذ حكم الحرق في عدد من المحكوم عليهم، وقد يبلغ العشرات أحياناً، وينتظم الضحايا في موكب "الأوتودافي" التي اشتهرت في إسبانيا منذ القرن الخامس عشر، والتي كانت بالرغم من مناظرها الرهيبة من الحفلات العامة، التي تهرع لشهودها جموع الشعب. ومما يذكر في ذلك، أن فرديناند الكاثوليكي، كان من عشّاق هذه المواكب الرهيبة، وكان يسره أن يشهد حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها (1).

وكان قضاء محاكم التحقيق بطيئاً، يبث اليأس في النفوس، وكان الأمر يترك لهوى القضاة في تحديد مواعيد دعوى المتهم، والسير بإجراءات الدعوى، وكانت الإجراءات والمرافعات تستغرق وقتاً طويلاً، وقد تستغرق الأعوام أحياناً، وقد يموت المتهم في سجنه قبل أن يصدر الحكم في قضيته.

وكان دستور ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين. وتصدر الأحكام في حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق في موكب " الأوتودافي".

وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضي بحرمانه من تولي الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذا يؤخذ الأبرياء بذنب المحكوم عليهم (2).

(1) Dr Lea: ibid; V. 1.

(2)

نهاية الأندلس (311 - 321).

ص: 325

هـ - هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التي سوّدت بقضائها المروّع صحف التاريخ الإسباني زهاء ثلاثة قرون، وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه حوله جواً من الرهبة والروع، ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة أن تصدر سنة (1502 م) قرارأً يحرم على ربّان أية سفينة وأي تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثير من النصارى المحدثين، في مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق. وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق، تنحني أمامه أية سلطة، وتحمي أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جرّاء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع في هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامي، لا يتورّعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة في السجن جوعاً (1). وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً، أن يبسط حكم الإرهاب في بعض المناطق، وهذا ما حدث في قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو الذي يعتبر من أشدّ المحققين قسوة وإجراماً. ففي عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع الذي يجري باسم الديوان المقدس وفي ظله، والذي يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت في الموضوع تحقيقات طويلة، انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (2).

(1) Dr Lea: ibid; V. 1. P. 190-192.

(2)

Dr Lea: ibid ، V. 1. P. 210

ص: 326

وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة التي تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذي لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه في الوقت نفسه، أصلح أداة في تنفيذ سياسته في إبادة الموريسكيين. وفي الوصية التي تركها فرديناند الكاثوليكي عند وفاته في (كانون الثاني - يناير 1516 م)، لحفيده شارل الخامس، ما يلقي ضياءً على هذه الحقائق، ففيها بحث عن حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله، لكي يعملوا في عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (1).

ولما توفي فرديناند، كان المحقق العام هو الكاردينال خمنيس مطران طليطلة، الذي أبدى من الحماسة في مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه. وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين لا يُرغب فيهم، ولكنه ولم يعش طويلاً ليتم خطته في الإصلاح، فعادت المساوئ القديمة أشدّ مما كانت، وسار الديوان في قضائه المدمّر وأساليبه المثيرة، لا يلوي على شيء. ولما جلس شارل الخامس على العرش، كتب إلى مجلس قشتالة يقول: إن سلام المملكة، وتوطيد سلطانه، يتوقفان على تأييده لديوان التحقيق، ولم ير شارل بعد مدة من التردد، إلاّ أن ينزل عند هذا النصح، وأن يفسح الطريق لسلطان الديوان القاهر وذهبت كل الجهود للحد من عسف الديوان وعبثه سدى، وتوطد سلطان الديوان بقشتالة مدى قرون ثلاثة، كانت في الواقع أخطر ما في حياة الشعب الإسباني (2).

و- وقد رأينا كيف أنشئ ديوان التحقيق الإسباني في الأصل، لمطاردة الكفر وحماية الكثلكة من شبه المروق والزّيغ، وكان إنشاؤه في قشتالة قبل

(1) Dr Lea: ibid; Cit. Mariana; V. 1. P. 215.

(2)

Dr Lea: ibid ; V. 1. P. 250.

ص: 327

انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان يهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، في ظل الحكم الإسلامي، أوّل ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التي رسمتها إسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة في أيدي الملكين الكاثوليكيين، وما كاد يهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير في (30 آذار - مارس سنة 1492 م) وهو يقضي بأن يغادر سائر يهود - الذين لم يتنصروا - من أي سن وظرف، أراضي مملكة قشتالة في ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألاّ يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألاّ يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية وإيواء أي يهودي أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرّفوا فيها وفق مشيئتهم (1). فأذعن كثير من يهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم في سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شرِّدوا في مختلف الأقطار بعد التشريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبهة كما ذكرنا. ولقيت طوائف المدجّنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهي التي بقيت في بعض مدن قشتالة وأراغون في ظل الحكم النصراني، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه في قشتالة منذ سنة (1480 م)، وقبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى في إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ووقع ملايين المسلمين في قبضة إسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق في هذا المجتمع النصراني المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية في تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة

(1) Archivo general de Simancas: P. R. Legajo 28; Fol. 6.

ص: 328

دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائي بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هي القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها في المجتمع النصراني. ولم تشأ السياسة الإسبانية أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخي، بل رأت نزولاً على وحي الكنيسة وتوجهها المباشر، أن تعجِّل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب في ذلك إلى حدود الإسراف والغلوّ، هي التي أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كرّ الأجيال والعصور، وستبقى تلك الوصمة ما بقيت الحياة.

وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسباني بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية، التي أريد بها تنفيذ حكم الإعدام في أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لديوان التحقيق منذ سنة (1499 م) أعني مذ أُكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق في قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله في غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزّيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء في الوطن القديم، وأُكرهوا على التنصر واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الاضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت إسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجَّس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهري، وإنما كانت ترمي إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل

ص: 329

ذكرياتهم.

والواقع أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تنصيرهم، نزولاً على حكم القوة والإرهاب، مخلصين في سرائرهم لدينهم الإسلامي، ولم تستطيع الكنيسة بالرغم من جهودها الفادحة أن تحملهم على الولاء لدين قاسوا في سبيل اعتناقه ضروباً مروِّعة من الآلام النفسية والاضطهاد المضني. وإليك ما يقوله مؤرخ إسباني كتب قريباً عن ذلك العصر، وأدرك الموريسكيين، وعاش بينهم حيناً في غرناطة:"كانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القدّاس أيام الآحاد، فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف. وفي يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة في منازلهم المغلقة، وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمِّد أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمّون أولادهم بأسماء عربية، وفي حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقي البركة، تنزع ثيابها النصرانية، وترتدي الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية"(1).

وقد انتهت إلينا وثيقة عربية هامة تلقي ضوءاً كبيراً على أحوال الموريسكيين في ظل التنصير، وتعلقهم بدينهم الإسلامي، وكيف كانوا يتحيّلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التي يمكن أن تسوِّغ مسلكهم، وتشفع لهم عند ربّهم، مما يرغمون عليه من اتباعه من الشعائر النصرانية. وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة وجِّهت من أحد فقهاء المغرب إلى جماعة العرب المتنصِّرين ممن يسميهم:(الغرباء)، يقدم لهم بعض النصائح التي يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام خفية، وبطريق التورية والتستر. وتاريخ هذه الرسالة هو غرة رجب سنة (910 هـ) = (28 تشرين الثاني - نوفمبر 1504 م)، وإليك نص

(1) Marmol ، ibid. 11; Cap. 1.

ص: 330

هذه الوثيقة: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً، إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، مَن أجزل الله ثوابهم، فيما لقوا في ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جنّاته، وارثو سبيل السّلف الصالح، في تحمّل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى النزاق، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعات حقّه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد بن بو جمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم ( F.2) من الأبرار، ومؤكداً عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به مَن بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى؛ فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود، لا يضر ولا ينفع، وأن المُلك ملك الله ما اتّخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه، واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عوماً في البحور، وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحاً بالأيدي للحيطان، فإن لم يكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء ( F.3-1) والصعيد إلاّ أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، ثقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: فأتوا منه ما استطعتم. وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية، وانووا

ص: 331

صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام، وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا فيكم خنزيراً فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرَّم، وإن زوّجوكم بناتهم فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم على ( F.3-2) إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وإنكم ناكرون لذلك في قلوبكم، ولو وجدتم قوّة لغيّرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام، فافعلوه منكرين بقلوبكم، ثم ليس لكم إلاّ رءوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي، إن تبتم إلى الله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا، وإلاّ فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا: اشتموا محمداً، فإنهم يقولون له: مُمَد، فاشتموا مُمَد، ناوين أنه الشيطان أو مُمَد يهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا: قولوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم وانووا إسقاط مضاف، أي عبد اللاّه مريم معبود بحق. وإن قالوا: قولوا المسيح ابن الله، فقولوها إكراهاً، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحلّ به، وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا بالتوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلوّ، وما يعسر عليكم فابعثوا ( F.4.1) فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون، وأنا أسأل الله أن يزيل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهراً بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولا بد من جوابكم والسلام عليكم جميعاً. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة، عرف الله خيره".

ص: 332

"يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى"(1).

ومن ثم فقد لبث الموريسكيون، شغلاً شاغلاً للكنيسة وللسياسة الإسبانية، فهم عنصر بغيض في المجتمع الإسباني وهم خطر على الدولة وعلى الوطن، وهم بالرغم من ردّتهم ما زالوا أعداء للدين في سريرتهم. وكان يذكي هذا البغض والتحامل ضد الموريسكيين كل تذمر من جانبهم. فلما دفعهم اليأس إلى الثورة في مفاوز البشرّات، ولما آنست السياسة الإسبانية أن هذه البقية الممزّقة من الأمة الأندلسية القديمة ما زالت تجيش برمق من الحياة والكرامة، رأت أن تضاعف إجراءات القمع والمطاردة، ضد هذا الشعب المهيض الأعزل، حتى لا ينبض بالحياة مرة أخرى. وكانت ثورة البشرات نذير فورة جديدة من هجرة الموريسكيين إلى ما وراء البحر، فجازت منهم إلى إفريقية جموع عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم بقيت في الوطن القديم، هدفاً للاضطهاد المنظم، والقمع الذريع المدني والديني، إلى جانب الأوامر الملكية بمنع الهجرة، وحظر التصرف بالأملاك وحمل السلاح وغيرها من القوانين المقيِّدة للحقوق والحريات، كان ديوان التحقيق من جانبه يشدِّد الوطأة على الموريسكيين، ويرقب كل حركاتهم وسكناتهم، ويغمرهم بشكوكه وريبه، ويتخذ من أقل الأمور والمصادفات ذرائع لاتهامهم بالكفر والزيغ، ومعاقبتهم بأشد العقوبات وأبلغها. وقد نقل إلينا الدون لورنتي مؤرخ ديوان التحقيق الإسباني، وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول التي رأى الديوان المقدس أن يُؤخذ بها العرب

(1) نهاية الأندلس (325 - 327) وقد عثر مؤلف الكتاب على هذه الوثيقة خلال بحوثه في مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة، وهي تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية ( Borgiani)، وقد وصف هذا المخطوط في فهرست مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنّه:"المقدمة القرطبية". وفي صفحة عنوانه بأنّه: "كتاب نزهة المستمعين". وتشغل هذه الوثيقة في المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139)، ولهذه الوثيقة ترجمة قشتالية، أنظر:

P.Longas: La Vida Religiosa de las Moriscos (P. 305-307) .

ص: 333

المتنصرون في تهمة الكفر والمروق، وهذه هي الوثيقة الغريبة:

"يعتبر الموريسكي أو العربي المتنصر قد عاد إلى الإسلام، إذا امتدح دين محمدٍ وقال: إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلاّ رسول، أو إن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا قد رأى أو سمع، بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباع هذه العادة، أو يقول: إنه يجب ألاّ يعتقد إلاّ في الله وفي رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدّق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلاّ عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجّه وجهه نحو الشرق، ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يملّس بيديه على رءوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم بأثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكر، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء أو أن يستغيث بمحمد عند الحاجة، مُنعِتاً إياه بالنبي رسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول: إنه لم ينصّر إيماناً بالدين المقدس، أو: إنّ آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله، لأنهم ماتوا مسلمين

الخ" (1).

(1) Don Antonio Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana وأيضاً Dr Lea: The Moriscos، P. 130-131.

ص: 334

كانت هذه الشُّبه وأمثالها تتخذ ذريعة للتنكيل بالموريسكيين، بالرغم من تنصرهم وانتمائهم إلى دين سادتهم الجدد. ومن الطبيعي أن يكون موقف المسلمين الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم أدق وأخطر، وكانت قد بقيت منهم جماعات كبيرة في غرناطة وبلنسية وغيرها، يعيشون في غمرة من الجزع الدائم، وكانت محارق ديوان التحقيق تلتهم الكثير من هؤلاء، لأقل الشبه والوشايات. ولقد كان الإسراف في مطاردة المسلمين والموريسكيين نذير السخط والثورة، ولكن الثورة أخمدت، ولم تعدل السياسة الإسبانية عن مسلكها، وضاعفت محاكم التحقيق إجراءات القمع والتنكيل. وقد اتصل المسلمون في الأندلس بملوك مصر والمغرب والقسطنطينية، يستغيثون بهم ويطالبونهم بنصرة إخوانهم من ظلم إسبانيا النصرانية وديوان التحقيق، وكانت أخبار ما يعانيه المسلمون والعرب المتنصرون في إسبانيا النصرانية شائعة في الأقطار الإسلامية وفي غيرها دون أن يمدّ الحكام المسلمون العون لمسلمي الأندلس وللعرب المتنصرين، كأن الأمر لا يعنيهم من بعيد ولا قريب. وقد كتب المسلمون الأندلسيون رسائل إلى حكام المسلمين، فكانت السياسة الإسبانية تتخذ من هذه الرسائل التي يوجهها العرب المتنصرون والمسلمون إلى إخوانهم المسلمين فيما وراء البحر، كلما تفاقمت آلامهم ومحنتهم وازداد الضغط عليهم، ذريعة للاشتداد في مطاردتهم واعتبارهم خطراً على سلامة الدولة لأنهم يأتمرون بها مع ملوك الدول الإسلامية أعداء إسبانيا النصرانية (1).

(1) نهاية الأندلس (311 - 331).

ص: 335