المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه - قادة فتح الأندلس - جـ ٢

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌السَّمْح بن مالك الخَوْلانِيّفاتح شطر جنوبيّ فرنسة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌السّمح في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌2 - فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس:

- ‌3 - فتوح البرتغال:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد العزيز في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان القائد

- ‌1 - الإنسان:

- ‌2 - القائد:

- ‌عبد الأعلى في التاريخ

- ‌نسبه وأيّامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌1 - في إِفْرِيْقِيَّة

- ‌2 - في البحر:

- ‌أ - في صِقِلِّيَة

- ‌ب - في مَيُوْرْقَة ومَنُوْرَقَة:

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌عبد الله في التاريخ

- ‌جزيرتامَيُوْرَقَة ومَنُوْرَقَة

- ‌1 - مَيُوْرَقَة

- ‌2 - مَنُوْرَقَة

- ‌نهاية الأندلس

- ‌مستهل

- ‌مملكة غرناطة

- ‌نشأة مملكة غرناطةوقيام الدولة النصريّة

- ‌طوائف الأندلسيين في عصر الانحلال

- ‌1 - مملكة غرناطة وحدودها

- ‌2 - عناصر السكاّن

- ‌3 - المدجّنون وتاريخهم وحياتهم في ظل الممالك النصرانية

- ‌4 - التكوين العنصري لسكان مملكة غرناطة

- ‌طبيعة الصراع بين الأندلس وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - حرب الاسترداد ومولد مملكة غرناطة

- ‌2 - طبيعة الصراع الإسلامي النصراني في الأندلس

- ‌مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر

- ‌1 - ولاية محمّد الفقيه وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد الملقّب بالمخلوع وأحداث أيامه

- ‌3 - نصر بن محمد الفقيه وحوادث أيامه

- ‌مملكة غرناطة في النصف الأول من القرن الثامن الهجريوذروة الصراع بين بني مرين وإسبانيا النصرانية

- ‌1 - أبو الوليد إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وحوادث أيامه

- ‌3 - أبو الحجّاج يوسف بن أبي الوليد وأحداث أيامه

- ‌الأندلس بين المد والجزر

- ‌1 - ولاية محمد الغني بالله وحوادث أيامه

- ‌2 - يوسف أبو الحجاج وحوادث أيامه

- ‌3 - محمد بن يوسف وحوادث أيامه

- ‌4 - يوسف بن يوسف

- ‌5 - أبو عبد الله محمد الأيسر بن يوسف

- ‌6 - السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل) وحوادث أيامه

- ‌نهاية دولة الإسلام في الأندلس868 هـ - 897 هـ - 1463 م - 1492 م

- ‌الأندلس على شفا المنحدر

- ‌1 - علي أبو الحسن وأحداث أيامه

- ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

- ‌بداية النِّهاية

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد ثانيةً

- ‌الصراع الأخير

- ‌1 - مع أبي عبد الله محمد أخيراً

- ‌2 - مفاوضات التسليم ومعاهدة التسليم

- ‌3 - عاقبة الملك المتخاذل

- ‌4 - أبو عبد الله في المغرب ودفاعه عن نفسه

- ‌ثمرات المعاهدة الغادرة

- ‌1 - مأساة الأندلس ونقص الروايات العربية عن المأساة

- ‌2 - التنصير وحرق الكتب العربية

- ‌4 - ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

- ‌نهاية النهاية

- ‌1 - توجّس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

- ‌2 - مأساة النّفي

- ‌تأمّلات في آثار المأساة الأندلسية

- ‌أسباب انهيار الفردوس المفقود

- ‌يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

- ‌فهرس الجزء الثاني

الفصل: ‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

‌2 - أبو عبد الله محمد بن على أبي الحسن وأحداث أيامه

وجلس أبو عبد الله محمد (1) مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ)، وأطاعته غرناطة ووادي آش وأعمالها، وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه، وكان أبو عبد الله يومئذ فتى في نحو الخامسة والعشرين (2). وكان فرديناند الخامس - عقب هزيمته أمام لوشة - قد سيّر جنده إلى مالقة لافتتاحها، وكانت أعظم الثغور الباقية بيد المسلمين. وكان النصارى يتوقون للاستيلاء عليها لإتمام تطويق الأندلس من الجنوب، ولكن المسلمين كانوا على أتمّ أهبة للدفاع عن هذا الثغر المنيع. واشتبك المسلمون والنصارى في عدة معارك دموية في الهضاب الواقعة فيما بين مالقة وبلش ( Velez) فهزم النصارى في كل مكان ورُدّوا بخسائر فادحة. وخرج الأمير محمد بن سعد (الزغل) في قواته من مالقة، ولقي النصارى على مقربة منها، ونشبت بين الطرفين معركة شديدة هُزِم فيها النصارى هزيمة ساحقة، وقُتِل وأُسِر منهم عدة آلاف بينهم كثير من الزعماء والأكابر (صفر 888 هـ - آذار - مارس 1483 م)(3). وتعرف هذه المعركة (بالشرقية) لوقوعها في المنطقة المسماة بذلك في شرق مالقة، وكان منظم هذا الدفاع الباهر كله أبو عبد الله "الزغل". وكان لانتصار المسلمين أعظم وقع في جنبات الأندلس، فانتعشت الآمال، وسرت الحماسة في كل مكان، وهبّت على غرناطة روح جديدة من

(1) يعرف السلطان أبو عبد الله في الرواية القشتالية والإفرنجيّة بوجه عام بإسم: ( Boabdil) محرّفاً عن أبي عبد الله. وتورد الوثائق القشتالية الرسمية المتعلّقة بسقوط غرناطة اسمه على النحو التالي: Muley Boaudili Boudili Beaudili، ويورد مارمول اسمه مصحّحاً Abi Abdili، Abi Abdala، Abdilehi

(2)

يشير المؤرخ المصري عبد الباسط بن خليل إلى هذا الانقلاب، ويندد بسلوك سلاطين غرناطة في الوثوب بعضهم على بعض بقوله: "وهو غالب عادتهم بتلك البلاد، مع الآباء والأولاد، بل والأجداد، أنظر Al Andalus; Vol. 1. 1933; Fase. 2

(3)

أخبار العصر (13).

ص: 210

الاستبشار والنصر.

واعتزم ملك غرناطة الفتى أبو عبد الله محمد، أن يحذو حذو عمِّه الباسل في الجهاد والغزو، وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب هزيمتهم، فخرج في قواته في شهر ربيع الأول سنة (888 هـ - نيسان - أبريل 1483 م) متجهاً نحو قرطبة، واجتاح في طريقه عدداً من الحصون والضياع، وهزم النصارى في عدة معارك محلية، ثم ارتد مثقلاً بالغنائم. وفي طريق العودة، أدركه النصارى في ظاهر قلعة اللّسانة ( Luccena)(1) وكان يزمع حصارها. ونشبت بين الطرفين معركة هائلة ارتدّ فيها المسلمون إلى ضفاف نهر شنيل، وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان من بين الأسري السلطان أبو عبد الله نفسه (2)، عرفه الجند النصارى بين الأسرى أو عرّفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه، فأخذوه إلى قائدهم الكونت دى كابرا (قبره) فاستقبله بحفاوة وأدب، وأنزله بإحدى الحصون الغربية تحت حراسة مشددة، وأخطر في الحال ملكي قشتالة بالنبأ السعيد، فأمر فرديناند أن يؤتى بالأسير الملكي إلى قرطبة، وأن يستقبل استقبال الأمراء، فأُخذ أبو عبد الله وأصحابه إلى قرطبة في حرس قوي، واحتشد أهل قرطبة لرؤية موكب الملك المسلم، وكان أبو عبد الله يرتدي ثوباً من القطيفة السوداء، ويمتطي حصاناً أسود عليه سرج ثمين، وكان وجهه يشعّ كآبة. وأُخذ الملك الأسير أولاً إلى دار الأسقف المواجه للمسجد الجامع، ثم أُخذ بعد ذلك إلى إحدى القلاع الحصينة، وعومل هناك بإكرام وحفاوة، وأقام في أسره مكتئباً ينتظر يوم الخلاص.

وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، وقد مزّقتهم الهزيمة وفتَّت في عزائمهم، فارتاعت العاصمة لهذه النكبة واضطرب الشعب، وساء الوجوم قصر الحمراء، وسرى الحزن إلى حرم الأمير وقرابته، ولم يحتفظ فيها

(1) هي بلدة صغيرة حصينة تقع اليوم في نطاق ولاية قرطبة، جنوب شرقي مدينة قرطبة.

(2)

أخبار العصر (14)، ويصف عبد الباسط بن خليل المصري في حولياته، هذه المعركة:"بالكارثة العظمى والداهية الطما".

ص: 211

بهدوئه وسكينته سوى أمّه الأميرة عائشة. واجتمع الأمراء والكبراء والقادة، وقرروا استدعاء أبي الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش مكان ولده الأسير، ولكن أبا الحسن كان قد هدَّه الإعياء والمرض، وفقد بصره، ولم يستطع أن يضطلع بأعباء الحكم طويلاً، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبي عبد الله (الزغل) حاكم مالقة، وارتدّ إلى المنكب فأقام بها حيناً حتى توفى (890 هـ - 1485 م)، وجلس الزغل على العرش يدير شئون المملكة، وينظم الدفاع عن أطرافها.

أما السلطان أبو عبد الله محمد، فلبث يرسف في أسره عند النصارى. وأدرك ملكا قشتالة في الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذا يدبّران أفضل الوسائل للاستعانة به في تحقيق مآربهما في مملكة غرناطة، وبعد إمعان البحث والتدبير، رُؤِيَ أن يُفرج عن الملك الأسير لقاء أفضل الشروط التي يمكن الحصول عليها، لأن هذا الإفراج من شأنه أن يزيد في اضطرام الحرب الأهلية بين المسلمين، وأن يعاون بذلك في إضعاف قواهم والتمهيد لسحقهم. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده، ويأمن شرّه ومنافسته، وعرض على فرديناند نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرديناند وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين. وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذي يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة، ليفاوض في الإفراج عن الأسير مقابل الشروط التي يرضاها. وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سريّة تتلخص نصوصها فيما يلي: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرديناند وزوجه الملكة ايزابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوبلاً من الذهب، وأن يفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى الموجودين في غرناطة، يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك في كل عام سبعين أسيراً لمدة خمسة

ص: 212

أعوام، وأن يقدِّم ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضماناً بحسن وفائه، وتعهد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما بالإفراج عن أبي عبد الله فوراً، وألاّ يكلّف في حكمه بأي أمرٍ يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه في افتتاح المدن الثائرة عليه من مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين، من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير (1).

وتختلف الروايات في تاريخ الإفراج عن أبي عبد الله محمد، فتقول بعض الرويات المعاصرة: إنه أفرج عنه لأشهر قلائل من أسره في أوائل (أيلول - سبتمبر 1483 م)، ولكن هناك رواية أخرى تقول بأنه استمر في الأسر أكثر من عامين، وإنه لم يفرج عنه إلا في أواخر سنة (1485 م) أو أوائل سنة (1486 م)(2). وهذه رواية يؤيدها صاحب أخبار العصر، إذ يقول: إن العدو أطلق سراحه في أواخر سنة (890 هـ- 1485 م) عقب انتصار المسلمين على النصارى في موقعة مكلين (3)، هذا فضلاً عن أنه يذكر لنا أن أبا عبد الله قد أُسر في موقعة أخرى هي موقعة لوشة، كما سيأتي وأنه لم يفرج عنه إلاّ في أواخر سنة (891 هـ - 1486 م)(4).

وعلى أي حال، فقد أُفرج عن أبي عبد الله بعد أن أخذ عليه ملكا قشتالة سائر العهود والمواثيق التي تكفل لهما تحقيق سياسة قشتالة في القضاء على مملكة غرناطة، وبعد أن أتى بالرهائن المشترط تسليمهم. وسار أبو عبد الله وصحبه الذين قدموا لمرافقته، ومعه سرية من الجند القشتاليين، إلى بعض الحصون الشرقية النائية التي قامت ...................................

(1) أورد المستشرق M. Gaspar y Reniro في كتابه Arabes de la Corte Nazari de Granada

(2)

Gaspar Y Remero ; ibid ; P. 27.

(3)

أخبار العصر (18).

(4)

أخبار العصر (21 - 22).

ص: 213

بدعوته (1). ولم يك شك في أن عقد مثل هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، وقد وضع فرديناند برنامجه المحكم لكي يستغلّ أسر ملك غرناطة ويستعين به على تنفيذ برنامجه المدمّر. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإدارة، قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتع بشيءٍ من الخلال الباهرة التي امتاز بها أسلافه وأجداده العظام من بني الأحمر. وكان الملك والحكم غايته، يبتغيها بأي الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف الطموح، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى. وسيَّر ملك قشتالة في نفس الوقت قواته في أنحاء مملكة غرناطة لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية. وزحف القشتاليون على منطقة الغربية (غربي ولاية مالقة) في أوائل سنة (890 هـ) واستولوا على حصن قرطبة وحصن ذكوين وعدة حصون أخرى تقع شمال غربي مالقة في منتصف الطريق بينها وبين رندة، وبذلك عزلت مدينة رندة، وأصبح الطريق ممهّداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليون على رندة، وهي معقل الأندلس في قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتى هدمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغري زعيم قبيلة غمارة. ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلاً لعدم استعدادها للدفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقي الإمداد السريع، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم، واستولى القشتاليون على رندة في (جمادى الأولى سنة 890 هـ - نيسان - أبريل 1485 م)، ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة في تلك المنطقة، وكان سقوط هذه المدينة الأندلسية التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل

(1) أخبار العصر (18).

ص: 214

وسيلة للدفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليون بذلك يهددون ثغر مالقة من الغرب (1). وحاول القشتاليون بعد ذلك مهاجمة حصن مكلين الواقع شمال غربي غرناطة، وكان به الأمير أبو عبد الله الزغل في قوة من الغرناطيين ليصلح أسواره ويتم تحصينه. ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان القشتاليون بقيادة الكونت دي قبرة الظافر في معركة اللّسانة، وكادت الدائرة تدور في البداية على المسلمين، ولكنهم بذلوا جهد المستميت بقيادة أميرهم الباسل، وانتهت المعركة بأن رُدّ النصارى بخسائر فادحة في الرجال والعُدد (شعبان سنة 890 هـ - تموز - يوليه 1485 م)، وعاد الأمير وجنده إلى غرناطة (2).

ولكن كان من سوء الطالع، أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى نشبت في غرناطة حرب أهلية جديدة. وكان الملكان الكاثوليكيان قد أطلقا سراح أبي عبد الله في تلك الآونة بالذات، بعد أن وقّع معاهدة الخضوع والطاعة كما ذكرنا، والواقع أن الحرب الأهلية كانت تضطرم في الأندلس خلال أسر أبي عبد الله، وكان الزغل بعد أن تربّع على عرش غرناطة، يحاول استخلاص الأندلس كلها لنفسه، وكان الأمير يوسف أبو الحجاج شقيق أبي عبد الله، قد استقر في ألمرية يحاول منازعة عمّه الزغل، فسار الزغل إلى ألمرية، وثار بها أنصاره، وغلبوا على خصومهم، وفتحوا له أبواب المدينة، وقُتل يوسف أثناء ذلك. ويقال: إن قتله كان بوحي من أبيه أبي الحسن أو عمّه الزغل. وما كاد الزغل يعود إلى غرناطة، حتى اضطرمت الفتنة من جديد. وكان أبو عبد الله حينما أُطلق سراحه قد سار إلى بعض الحصون الشرقية، فقامت بدعوته، وكان يشيد بمزايا الصلح المعقود مع ملكي قشتالة، وأنه يضمن للمسلمين الاستقرار والسلم، وأنه يطبق في سائر الأنحاء التي تدخل في طاعته، وكان قد سار إلى منطقة ....................................................

(1) أخبار العصر (15).

(2)

أخبار العصر (17).

ص: 215

بلش (1) في شرقي بسطة، وأعلن نفسه ملكاً من جديد.

وكان من الواضح أن اضطرام الفتنة في غرناطة، في هذا الوقت بالذات، لم يكن بعيداً عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقام أهل ربض البيازين - وهو حي غرناطة الشعبي، الواقع في شمالها الشرقي تجاه مدينة الحمراء - بدعوة أبي عبد الله. وكان أهل البيازين دائماً، عنصراً من عناصر الاضطراب والشغب، وكان لهم دائماً ثورة وفتنة (2). وشُغِل ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل بإخماد هذه الفتنة الجديدة عن مقاتلة النصارى. وبذلك تحقق الغرض الذي يرمي إليه ملكا قشتالة، وكان ذلك في أوائل سنة (891 هـ - أوائل سنة 1486 م). واشتدت الفتنة، ونصب الزغل على البيازين المجانيق والأنفاط، ودافع أهل البيازين عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وكان أبو عبد الله خلال ذلك يبعث رسله إليهم، ويعدهم بمقدمه. وطالت هذه الفتنة أكثر من شهرين، ثم بدأت المفاوضة بين أبي عبد الله وبين عمِّه الزغل (ملك غرناطة) في عقد الصلح، وارتضى أبو عبد الله أن ينزل عن دعواه في العرش، وأن يدخل في طاعة عمه (3). وفي رواية أخرى أنهما اتفقا على تقسيم المملكة إلى قسمين، فيختص الزغل بحكم غرناطة ومالقة وألمرية وبلش مالقة والمنكب، ويختص أبو عبد الله بحكم الأنحاء الشرقية (4).

وعلى أي حال، فقد انتهز ملك قشتالة، فرصة هذه الفتنة، للزحف على مدينة لوشة. وهنا تتفق الروايات الإسلامية والقشتالية، على أن أبا عبد الله، حينما علم بتهديد النصارى لـ (لوشة)، سار إليها وتحصّن بها، مع نخبة من

(1) المقصود هنا بمنطقة بلش بلدتا: بلش الحسناء ( Velez Rubio) وبلش البيضاء ( Velez Blanco) وكلتاها تقع على مقربة من الأخرى. في شمال شرقي مدينة بسطة.

(2)

أخبار العصر (18) ونفح الطيب (2/ 611)، وأنظر: Gaspar Y Remiro; ibid; P. 23-24 and 30

(3)

أخبار العصر (16).

(4)

Gaspar Y Remiro; ibid. P. 24.

ص: 216

أنجاد الفرسان. وهاجم النصارى مدينة لوشة، وشدّوا الحصار عليها، وسلّطوا على أسوارها الأنفاط والعُدد، وأبدى المسلمون بسالة فائقة في الدفاع عن مدينتهم. وتقول الروايات القشتالية: إن أبا عبد الله بذل في هذا الدفاع مجهوداً عظيماً. وإنه جرح أثناء ذلك (1)، ولكن لم نعثر على ما يؤيد ذلك في الروايات الإسلامية. يكتفي صاحب أخبار العصر بالقول: بأن أبا عبد الله كان في لوشة وقت حصارها (2)، ويروي صاحب نفح الطيب على ذلك بأن أهل غرناطة أذاعوا بأن أبا عبد الله ما جاء للوشة إلاّ ليسلِّمها لملك قشتالة (3).

وعلى أي حال، فإن بسالة المسلمين، في الدفاع عن لوشة، لم تغن شيئاً أمام القوة القاهرة، وفتك الأنفاط والعُدد الثقيلة، فاضطروا إلى التسليم، وذلك بالشروط التالية: أن يؤمَّن أهل لوشة الذين يرغبون في مغادرتها في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، وأن يسمح لمن يشاء منهم أن يعيش في قشتالة أو أراغون أو بلنسية بذلك، وأن تسلم المدينة إلى ملك قشتالة مع سائر الأسرى النصارى. ودخل القشتاليون لوشة في (26 جمادى الأولى سنة 891 هـ - مايس - مايو سنة 1486 م)، وسار معظم أهلها إلى غرناطة، بأمتعتهم وخيلهم وسلاحهم.

وأما ما يتعلق بأبي عبد الله، فتقول الرواية القشتالية: إن موقفه في الدفاع عن لوشة، اعتبر منافياً لتعهداته للملكين الكاثوليكيين، ونكراناً لحسن الصنيعة، ومع ذلك فقد ارتضيا الصّفح عنه، وأن يسمح له بالاحتفاظ بلقب ملك غرناطة، وأن يمنح لقب:"صاحب وادي آش"، إذا استطاع أن يستولي عليها، وإذا أراد الالتجاء إلى قشتالة، فإنه يسمح له أن يعيش هناك آمناً على نفسه، وإن شاء العبور إلى المغرب أمدّه ملك قشتالة بوسائل الانتقال (4).

(1) Gaspar. Y Remiro; ibid، P. 32

(2)

أخبار العصر (19).

(3)

نفح الطيب (2/ 611).

(4)

Gaspar Y Remiro; ibid، P. 32

ص: 217

على أننا نرى - على ضوء الرواية الإسلامية، وسير الحوادث أيضاً، وتحيّز ملكي قشتالة لأبي عبد الله دون مسوِّغ - أن موقف أبي عبد الله من حوادث لوشة كان موقفاً مريباً. والواقع أنه كان يبذل جلّ جهده للدعوة إلى قضيته، وإلى مقاومة عمّه ونزعه عن العرش. وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً أنه كان يستظلّ بمظاهرة النصارى وتأييدهم، وأنه غدا آلة في يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه (1)، فهو عميل للأجنبي كما يبدو.

ولما غادر ملك قشتالة لوشة، أخذ معه أبا عبد الله إما أسيراً - حسبما يذكر صاحب أخبار العصر - أو أنه سار معه ليستمدّ عونه في تنفيذ خطته للاستيلاء على عرش غرناطة، وهي خطة يؤيدها ملك قشتالة ويشجعها، لأنها تخدم أغراضه ومطامعه في القضاء على تلك المملكة الصغيرة التي مزّقتها الحرب الأهلية.

ولم يُغفل فرديناند تلك الفرصة الذهبية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أراضي مملكة غرناطة، فبينما الحرب الأهلية تضطرم في العاصمة وحولها، إذ سار النصارى إلى حصن إلورة الواقع شمال غربي غرناطة، وحاصروه وضربوه بالأنفاط حتى اضطروا أهله إلى التسليم والخروج عنه، ثم سار إلى حصن مكلين الواقع شمال شرقي إلورة وهاجموه. ونشبت بينهم وبين المدافعين عنه معركة عنيفة، انتهت بتحطيم أسواره بفعل الأنفاط واستيلائهم عليه، وخروج أهله عنه إلى غرناطة. ثم استولى النصارى بعد ذلك على حصن قلمبرة الواقع شرقي مكلين بالأمان (2)، إذ رأى أهله ما نزل بغيرهم، ففضّلوا التسليم دون قتال. واستولوا بعده على سلسلة أخرى من

(1) نهاية الأندلس (196).

(2)

حصن إلورة أو بلدة إلورة: هي بالإسبانية Illora، وموكلين أو مكلين هي بالإسبانية Maclin، وقلمبرة هي Colomera، وهي اليوم من بلاد منطقة غرناطة الشمالية الغربية.

ص: 218

القلاع والحصون التي تحمي مشارف غرناطة، وأصلحوها وشحنوها بالرجال والمؤن، لتؤدي دورها فيما بعد في التضييق على العاصمة وتهديدها (1).

وهنا نقف قليلاً لنتساءل عن حقيقة هذه "الأنفاط" التي توالى ذكرها في سير هذه المعارك، خاصة في لوشة ورندة والحصون المجاورة، والتي كانت فيما يبدو عمدة النصارى في التفوق على المسلمين في تحطيم تلك الحصون القوية. وقد أشارت الرواية الإسلامية عن سقوط غرناطة إلى الأنفاط، وهي رواية صاحب أخبار العصر، وهي التي كتبها بعد وقوع تلك الأحداث بنحو نصف قرن فقط، وكان شاهداً ومشاركاً فيها، إلى تلك الأنفاط في عدة مواضع، ثم وصفها لنا بهذا الوصف:"وكان له (أي ملك قشتالة) أنفاط يرمى بها صخوراً من نار، فتصعد في الهواء، وتنزل على الموضع، وهي تشتعل ناراً، فتهلك كل مَن نزلت عليه وتحرقه، فكان ذلك من جملة ما كان يخذِّل في أهل المواضع التي كان ينزل فيها"(2).

ونحن نعرف أن مسلمي المشرق كانوا منذ أيام الحروب الصليبية، يحذقون استعمال الرمي بالنار والأنفاط، وأن هذه النار كانت ترمى من آلات قاذفة تعرف بالحراقات، على معسكرات العدو وحصونه وسفنه في البحر فتفتك بها. وقد لعبت هذه النار دوراً مهماً في الحروب الصليبية، وألفت فيها مصر سلاحاً منيعاً لردّ عدوان الصليبيين وتمزيق حملاتهم. والظاهر أن هذا السلاح الذي استأثر به المسلمون مدى حين في الشرق، قد عرفه مسلمو إفريقية والأندلس منذ منتصف القرن السابع الهجري، واستعملوه في محاربة أعدائهم نصارى إسبانيا. ففي حصار لبلة (655 هـ - 1257 م) استعمل الموحّدون لدفع جيوش الفونسو العاشر ملك قشتالة، آلات تقذف حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد. وقد كان استعمال هذه النار أو الأنفاط الفتاكة يتطوّر بلا ريب مع العصور. ومنذ منتصف القرن الثامن الهجري

(1) أخبار العصر (22).

(2)

أخبار العصر (22).

ص: 219

(الرابع عشر الميلادي) نرى مسلمي الأندلس يستعملون لمقاتلة النصارى آلات تقذف اللهب والحجارة، ويصحبها دوي مخيف (1). وظهرت براعة الأندلسيين في استعمال هذه الآلات في عدّة مواقع. ففي حصار بياسة سنة (724 هـ - 1324 م) في عهد السلطان أبي الوليد إسماعيل، أطلق المسلمون على المدينة الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع، واستعملت مثل هذه الآلات في موقعة وادي لكُّهُ (ريو سليتو) سنة (740 هـ - 1340 م)، وفي الدفاع عن الجزيرة سنة (742 هـ - 1342 م) وذلك في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف. والظاهر من وصف هذه الآلات أنها كانت نوعاً من المدافع السّاذجة التي تُحشى بالحديد والحجارة وبعض المواد الملتهبة، التي كانت فيما مضى عماد الحرّاقات أو الأنفاط الشرقية. وليس بعيداً أن يكون مسلموا الأندلس قد وفِّقوا في هذا العصر أيضاً إلى العثور على سرّ البارود، قبل أن يقف على سرِّه القس الألماني برتولد شفارتز في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. ومن المرجّح أن النصارى الإسبان قد نقلوا سرّ الأنفاط عن مسلمي الأندلس وحذقوا في استعمالها مع الزمن. ولما غلب الضعف على مملكة غرناطة تضاءلت نشاطاتها الدفاعية، ونقصت مواردها من السلاح والذّخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت معظم قواعدها الصناعية. بيد أنه من المحقق أن المسلمين كانوا يستعملون الأنفاط أيضاً في محاربة أعدائهم، وإن يك ذلك بنسبة صغيرة تتفق مع ضآلة مواردهم. أما القشتاليون فقد كانت لديهم الأنفاط بكثرة، وكانت السلاح المفضّل في مهاجمة القواعد والحصون الإسلامية. وهناك ما يدل على أن هذه الأنفاط التي كان يستعملها القشتاليون لم تكن سوى المدفع في صورته البدائية، فالرواية الغربية تحدثُنا عن اهتمام ملك قشتالة بصنع "المدافع" لمحاربة المسلمين، وتقول لنا: إن هذه المدافع كانت تصنع في مدينة وشقة، وإنّ كميات كبيرة من القنابل الخاصة بها كانت

(1) مواقف حاسمة - ط3 (108 - 109).

ص: 220

تضع في جبال قسنطينة (1)، وتحدثنا الرواية الإسلامية المعاصرة عن البارود، وتقول: إن النصارى حينما نشبت الثورة في ربض البيازين، أمدّوا فريقاً من الثوار بالرجال والأنفاط والبارود (2) إذكاءً منهم للفتنة بين المسلمين. وهكذا نرى أن الأنفاط التي تنوّه الرواية الإسلامية بفتكها بحصون المسلمين وصفوفهم في معارك غرناطة، إنما هي المدافع بذاتها، وأن تفوق القشتاليين في استعمال هذا السلاح كان له أعظم الأثر في التعجيل بإخضاع مملكة غرناطة والقضاء عليها.

ولنعد إلى قصة الحرب الأهلية في غرناطة، فقد ثار أهل البيازين - كما ذكرنا بتحريض من دعاة أبي عبد الله وأمّه الأميرة عائشة - والتفَّ معظم الشعب الغرناطي حول أميره أبي عبد الله الزغل، واستمرت المعارك سجالاً بين الفريقين مدى أشهر، وفي أثناء ذلك استولى النصارى على لوشة وعلى كثير من الحصون الشمالية الغربية. وسار أبو عبد الله بعد سقوط لوشة مع ملك قشتالة، ولم يمض سوى قليل حتى عاد إلى الأنحاء الشرقية، إلى منطقة بلش، وأخذ يدبّر خططه. وفي أوائل شوال (891 هـ - أيلول - سبتمبر 1486 م) غادر أبو عبد الله محمد الأنحاء الشرقية، وظهر فجأة في ربض البيازين. واجتمع حوله أنصاره من الثوار، وأذاع أنه عقد الصلح مع النصارى، وأمدّه حليفه فرديناند بالرجال والعُدد والذخائر والمؤن، ومنها الأنفاط (3)، فزادت الفتنة اضطراماً. وشدَّد أبو عبد الله الزغل الضغط على أهل البيازين، وبينما هو على وشك تمزيقهم وإبادتهم، إذ بلغه أن ملك قشتالة قد سيَّر قواته على مدينة بلش مالقة ( Velez Malaga) وذلك في (ربيع الثاني سنة 892 هـ - آذار - مارس 1487 م)(4)، وكان من الطبيعي أن ينتهز فرديناند

(1) Sierra Constantina وراجع Prescott; ibid; 223

(2)

أخبار العصر (24).

(3)

Gaspar Y Remiro ; ibid; P. 42

(4)

أخبار العصر (22 - 24) ونفح الطيب (2/ 612).

ص: 221