الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القائد
لئن كان طارق بن زياد، قد ترك ثغرة خطرة على فتحه، بالرغم من عظمة ذلك الفتح، هو تغلغله بالعمق في الأندلس، إلى مسافات لا تتناسب مع ما كان لديه من قوّات، فكانت خطوط مواصلاته مهدّدة بالانقطاع عن قاعدته الأمامية المتقدِّمة في جبل طارق، وقواعده في طَنْجَة وسَبْتَة والقيروان، وكان جناحاه الأيمن والأيسر مهددين بحشود المقاومة القوطية المتنامية. ولكن اعتماد طارق على قيادة موسى بن نُصير، قائده المباشر، سوّغ له هذا التغلغل عمقاً في الأندلس، لأنّه كان يثق ثقة مطلقة بأنّ موسى لن يتركه وحده في مصاولة القوط، ولن يسمح للمقاومة القوطية أن تقطع خطوط مواصلاته، أو تعرِّض جناحيه للخطر الدّاهم، وفعلاً كان موسى عند حسن ظنِّ طارق به، فلم يفسح المجال للمقاومة القوطية أن تلحق الضرر بقوّات طارق، وعمل على ملافاة الخطر من تغلغل طارق فوراً وفي الزمان والمكان المناسبين.
ولئن كان الهدف الرئيس من عبور موسى بن نُصير إلى الأندلس، هو لحماية قوّات طارق من خطر تعرّض خطوط مواصلاتها للانقطاع، ومن خطر تعرّض جناحيها للتهديد المعادي، ولحرمان المقاومة القوطية من محاولة قطع خطوط مواصلات قوّات طارق وتهديد جناحيها المكشوفَيْن.
فإنّ عبد العزيز في الواقع، هو الذي نفذ عملياً خطّة الانقاذ لقوات طارق التي وضَعها موسى، وعبر إلى الأندلس من أجل تنفيذها، فاستعاد فتح إشبيلية من جديد، ورصّن قوّات المسلمين في لَبْلَة وباجَة، وبذلك حمى خطوط مواصلات طارق وموسى من القطع، كما فتح جنوبيّ وجنوب شرقي الأندلس، وبذلك حمى جناح قوّات طارق وموسى الأيسر، فأصبحت بذلك قوّات المسلمين في الأندلس، على الرغم من تغلغلها عمقاً نحو الشمال، في أمان واطمئنان، ولا تخشى قطع خطوط مواصلاتها، ولا تحذر تهديد
جناحيها، وتفتّتت المقاومة القوطيّة شرقاً وغرباً، وأصبح الفتح الأندلسي فتحا مستداماً، ولم يبق للمقاومة القوطية أثر ولا تأثير إلاّ في الجبال الشمالية التي تفصل بين الأندلس من جهة وفرنسا من جهة أخرى.
لقد كان أثر عبد العزيز بمعاونة أخيه عبد الأعلى، في الفتح الأندلسيّ، وفي ترصين ذلك الفتح، وفي حماية القوّات الإسلامية الفاتحة، عظيماً للغاية في واقعه وفي حاضر المسلمين في الأندلس ومستقبلهم، دون أن يُعطى الأهمية المناسبة له من المؤرخين قديماً وحديثاً.
فهو الذي تولّى الأندلس: "بعد قُفُول أبيه عنها
…
فضبط سلطانها، وضمّ نَثَرَها، وسدّ ثغورها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، مما كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلاّ أنّ مدّته لم تطل
…
" (1). ومعنى ذلك، أنّ بقاءه والياً لم يطل أمده، لتظهر مزاياه القيادية في الفتوح وفي إحراز الانتصارات الباهرة.
وبالإمكان إضافة عامل آخر، على قِصر مدّته والياً، هو أنّ ظروفه الراهنة، بعد غضب الخلافة على أبيه موسى وعلى أهل بيته، لم تكن ملائمة لاستئناف الفتوح وإحراز الانتصارات، إذ كان هو الآخر مصيره معلّقاً في مهبّ الريح، ومن المتوقّع أن يُصيبه ما أصاب أباه وأهل بيته عاجلاً أم آجلاً، فكان بحقّ منهكاً نفسياً، لا يدري ما تخبِّؤه له الأيام من مِحَن ومصائب، ولا يستطيع والٍ في مثل موقفه هذا غير المضمون أن يفعل ما فعله عبد العزيز أو يحقِّق ما أنجزه. ومن المعلوم أنّ الوالي يومئذ هو القائد العام على البلاد، فهو إداريّ وقائد، يعمل في القضايا الإداريّة، كما يعمل في القضايا العسكرية، فهو إداري وقت السّلام، إداريّ وقائد وقت الحرب.
وقد ظهر لنا، أنّ عبد العزيز قد تهيّأت له في أيامه الأولى مزيتان من مزايا القائد الّلامع، هما: العلم المكتسب، والتجربة العمليّة.
(1) نفح الطيب (1/ 181) وأنظر البيان المغرب (2/ 24).
وبقي علينا، أن نتدارس معاً، المزيّة الثالثة للقائد الّلامع، وهي: الطبع الموهوب، لاستكمال دراسة المزايا الثلاث: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
إنّ مفتاح شخصيّة عبد العزيز القياديّة، هو أنّه إذا قرّر فتح مدينة من المدن أو منطقة من المناطق، ووضع الخطة التّعبويّة المناسبة لتحقيق هدفه، فإنَّه يبذل قصارى جهده لتحقيق هدفه بالحُسنى، فيفاوض لعقد معاهدة للصّلح، تجعل التعايش بين الغالب والمغلوب ممكناً، وتقلّل من الخسائر المادية - وبخاصة في الأرواح - بين الجانبين المتحاربين، وتجعل بنود السّلام تخفق على رءوس المتحاربين بدلاً من أن تدقَّ بينهم طبول الحرب. فإذا نجح في تحقيق هدفه بالسّلام لا بالحرب، فذلك ما يصبو إليه ويتمناه، وإلاّ فلا مفرّ من القتال، إذا لم يبق من وسيلة للتفاهم إلاّ القتال.
والأسبقية في تحقيق الهدف، بالنسبة لعبد العزيز، هو للسَّلام أولاً، وللقتال ثانياً، إذا لم يُفلح في تحقيق هدفه بالسَّلام، وإذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً، فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها، والكيّ آخر الدواء.
وهو في هذه المزية القياديّة، يشابه أبا عُبَيْدَة بن الجّراح رضي الله عنه (1)، وهو على طرفي نقيض من خالد بن الوليد رضي الله عنه (2)، وطارق بن زياد رحمه الله، فقد كان خالد وطارق شديدين على الأعداء: إمّا أن يستسلم لهم العدو فوراً، وإلاّ قاتلوه بعنف شديد فوراً، حتى يستسلم لهما عَنْوَة دون قيد أو شرط.
وقد عقد عبد العزيز معاهدة للصلح بينه وبين تدمير، جعلت التّعايش بين المسلمين والإسبان في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس ممكناً ومريحاً، ولكنّه لم يستطع أن يعقد معاهدة للصلح بينه وبين ما فتحه من مدن غربي
(1) أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح الشّام ومصر (54 - 81).
(2)
أنظر سيرته المفصّلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (51 - 237) وكتابنا: خالد بن الوليد المخزوميّ.
الأندلس في البرتغال، فنشب القتال بين المسلمين والقوط، ولكن هذا القتال كما يبدو لم يكن عنيفاً لا يُبْقي ولا يَذَر، بل كان كالدواء يتناوله المريض للشفاء، فإذا شفي أو قارب حدود الشفاء، تخلّى عن الدواء. وهكذا كان القتال في غربي الأندلس، قليل الخسائر على الجانبين، فلمّا تمّ الفتح بادر عبد العزيز إلى مواساة المتضرّرين من جرّاء القتال.
فإذا تجاوزنا مفتاح شخصية عبد العزيز القياديّة، إلى سمات قيادته بإيجاز، نجد أنه كان يتحلّى بسمة: إصدار القرار الصحيح السّريع، فقد كان ذكياً حاضر البديهة متعلِّماً، مثابراً على الحصول على المعلومات عن العدو، والأرض التي يقاتل عليها، من شتى مصادر الحصول على المعلومات، ومنها العيون والاستطلاع.
وكان يتحلّى بالشجاعة والإقدام، فكان يقود رجاله من الأمام، ولا يقودهم من الخلف، ويكون أُسوة حسنة لرجاله بشجاعته الشّخصيّة.
وكان ذا إرادة قويّة ثابتة، إذا عزم على أمر نفّذه، وإذا أصدر أمراً أصرّ على تنفيذه، وكان يُقدم على تحقيق أهدافه في الفتح بعزم وإصرار.
وكان من أولئك القادة الذين يتحملون مسئولياتهم كاملة، ولا يتهرّبون منها، أو يلقونها على عواتق الآخرين.
وكان ذا نفسية لا تتبدّل في حالتي النّصر والاندحار، واليُسر والعُسر، فما عرفناه ضَعُفَ أو أبدى ضعفاً، حين أصبح والده موسى مغضوباً عليه من الخليفة، بل ظلّ يزاول أعماله، أقوى ما يكون ثباتاً ونشاطاً، حتى أتاه اليقين.
وكان يتمتّع بمزية: سبق النّظر، فيتوقّع ما سيحدث، ويتصوّر ما سيقع، ويُعدّ لكلّ شيء عدّته حلاًّ لما عسى أن يجابهه من معضلات.
وكان يعرف نفسيّات رجاله وقابلياتهم، فيكلِّف كلّ واحد منهم ما يناسبه من واجبات تناسب نفسيته وقابليته، ولكنّه لم يكن يعرف نيّات مَنْ حوله من كبار رجاله، فتآمروا على اغتياله دون أن يكتشف نياتهم قبل وقت مناسب من
التنفيذ، لأنّه لم يؤذِ أحداً منهم، ولم يَظلم أحداً، فما كان يتوقع أن يؤذيه أحد أو يظلمه، وكان عليه أن يحتاط لنفسه، فالوقاية خير من العلاج.
وكان يثق برجاله ويثقون به، والتآمر على اغتياله ليس دليلاً على عدم ثقة رجاله به، وهؤلاء الذين تآمروا عليه يُعدّون على الأصابع، وهم لا يمثِّلون سائر رجاله، الذين كانوا يبادلونه ثقةً بثقة، ويرونه قائداً يستحق الثقة الكاملة به.
وكان يحب رجاله، ويبادلونه حبّاً بحب، وآية حبّه لهم أنّه حرص على أرواحهم في ميادين القتال، فلم يقاتل إلاّ بعد أن أعيته وسائله كافة في تحقيق أهدافه بدون قتال. كما أنّه لم يفرّط برجل من رجاله بأي شكل من الأشكال وبأي أسلوب من الأساليب، وأبقاهم حوله بتماس شديد معه، حتى رحل إلى جوار الله.
وكان ذا شخصية قويّة نافذة مؤثِّرة فيمن حوله من رجاله ومن الإسبان الذين فتح بلادهم، ولولا تلك الشخصية المتميِّزة، لما استطاع السّيطرة على الأندلس، بعد أن تسامع النّاس، بأنّ أباه أصبح في عِداد المغضوب عليهم من الخليفة، وأنّ مركز عبد العزيز والياً وقائداً أصبح مهدداً بالعزل اليوم أو غداً.
وكان يتمتّع بقابلية بدنيّة متميّزة، فقد كان في ريعان الشباب، واستطاع مشاركة رجاله في ميادين القتال صيفاً وشتاءً، وتعباً وعناءً، وتنقّلاً وثواءً.
وكان ذا ماضٍ ناصع مجيد، فهو ابن فاتح الأندلس، موسى بن نُصَير، وهو قد أضاف إلى أمجاد أبيه مجداً جديداً في الفتح وفي ميادين القتال.
وكان يطبِّق مبادئ الحرب كافةً بصورة فطريّة، فهذه المبادئ ثابتة أبداً، ولكنّ الأساليب القتاليّة هي التي تتغيّر باستمرار.
فقد كان عبد العزيز يطبّق مبدأ: اختيار المقصد وإدامته، فكان يختار مقصده بالضبط، ويفكّر في أقوم طريقة للوصول إليه، ثم يضع الخطّة المناسبة للحصول عليه.
وكان قائداً تعرضياً، لم يتّخذ الدفاع مسلكاً له في تحقيق أهدافه
العسكرية، ولكنّه كان يتعرّض إذا لم ينجح في حمل عدوّه على الصّلح.
وكان يطبِّق مبدأ المباغتة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن قبل أن يباغت عدوّه، يحاول أن يحقِّق هدفه بلا قتال بالمفاوضات لعقد الصلح، فإذا لم ينجح في تفادي القتال، حاول أن يباغت عدوّه بالمكان أو بالزمان أو بالأسلوب. أما العدو، فلم يستطع أن يباغت قوّات عبد العزيز في يوم من الأيام.
وكان يطبّق مبدأ: حشد القوّة، لتكون جاهزة لقتال العدو، دون تفريط في جزء منها بلا مسوِّغ، ولم تكن قوّاته في حينه كبيرة، لذلك لم يكن بمقدوره الاستغناء عن جزء منها.
ولم يكن يُغفل مبدأ: الاقتصاد في المجهود، فكما كان لا يفرِّط بجزءٍ من قوّاته دون مسوِّغ، كان يحول دون التفريط بجزء منها دون مسوِّغ أيضاً، وقد كان من أولئك القادة الذين لا يغرٍّرون برجالهم، ويحرصون على أرواحهم حرصاً لا مزيد عليه.
وكان يسهر على: أمن رجاله، وقد نوّهنا بمبلغ حرصه على أرواحهم، وذكرنا أنّه لا يغرّر بهم، وأنّ العدو لم يستطع مباغتة رجاله في يوم من الأيام، مما يدلّ على أنّه كان يطبق مبدأ: الأمن، بشكل يدعو إلى التقدير.
وكان يطبِّق مبدأ: المرونة، في خططه التعبوية، فالمقصد من العملية واضح لديه، والخطة مرسومة سلفاً لتحقيق المقصد، ولكن الخطة قابلة للتحوير والتّطوير بالنسبة للظروف والأحوال، فلا يصرّ على تطبيق خططه إذا اقتضت الظروف إدخال التعديلات عليها، ما دامت تلك التعديلات لا تؤثِّر في تحقيق المقصد المطلوب.
وكان لا يتوانى عن: التعاون، بين قوّاته، تعاوناً وثيقاً، وبين قوّاته وقوّات غيره من قادة المسلمين، كما فعل مع قوّات أخيه عبد الأعلى، وبين قوّاته وقوّات القيادة العامّة التي كان أبوه موسى على رأسها، وقد لمسنا همّته في استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة لتأمين خطوط مواصلات طارق وموسى،
وهمّته في فتح مدن جنوبي وجنوب شرقي الأندلس وغربيِّها، لتأمين جناحي طارق وموسى الأيمن والأيسر، فأصبحت قوّات المسلمين آمنةً مطمئنّة، وكانت قبل فتوح عبد العزيز في خطر عظيم.
وكان يطبِّق مبدأ: إدامة المعنويات، بثلاثة عوامل، هي العقيدة الرّاسخة، التي هي التّمسك بالدين الحنيف، وبالنّصر المؤزر، الذي أحرزه عبد العزيز وطارق وموسى، وبالقيادة القادرة المتميِّزة، التي هي قيادة عبد العزيز ومن قبله قيادة طارق وموسى، فكانت معنويات المسلمين في الأندلس عالية جداً، لأن عوامل إدامة المعنويات الثلاثة كانت متيسرةً يومذاك.
وكان عبد العزيز معنياً بالأمور الإداريّة، فلا نعلم أنّ قوّاته عانت من نقص في ناحية ما، من نواحيها الإدارية، بل كان وضعها الإداري جيداً للغاية، ويكفي أن نتذكّر ما حمله موسى معه من غنائم جسيمة من الأندلس، حين غادرها إلى دمشق. ومهما قيل في المبالغة بجسامة تلك الغنائم، فإنَّها تبقى دليلاً على أنّ المسلمين كانوا يعيشون في الأندلس عيشاً هو أقرب إلى الرفاهية والثراء منه إلى الفقر والعوز. ولا يمكن أن تكون القيادة الأندلسية تمتلك كلّ هذا الثراء الباذخ العريض، دون أن يظهر ذلك على القوّات الإسلاميّة التي تقودها في مسيرة أمورها الإداريّة.
إنّ قوّات المسلمين في الأندلس كانت في بحبوحة من العيش، ويمكن أن يكون وضعها من النّاحية الإداريّة، أفضل من وضع سائر قوّات المسلمين، في سائر أمصار الدولة الإسلامية، شرقاً وغرباً.
ويبدو أن عبد العزيز، كان يساوي بينه وبين رجاله، فكان يعيش بينهم، ويصلّي في مسجدهم، ولو أنّه اتّخذ حرساً لنفسه، وجماعة مختارة من رجاله لحمايته، ومكاناً خاصاً به في المسجد للصّلاة، لصعب على المتآمرين عليه في تنفيذ خطتهم في اغتياله، ولكنّهم استطاعوا اغتياله بسهولة ويسر، مما يدلّ على أنّه كان يساوي نفسه برجاله، ولا يتميَّز عليهم في شيءٍ من المظاهر الخارجيّة، التي يحاول أن يتميّز بها أصحاب السُّلطة والحكم.