الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدارسة. وهو يقع في طرف الهضبة في الجنوب الشرقي منها على مقربة من: (برج الماء)، والذي رآه يشهد أنه قد سد فراغه حقيقة بالبناء.
وأما الرواية الأخرى، وهي الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء صبيحة يوم التسليم بمفرده وفي نفرٍ من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين، وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحي البيازين ليلتقي به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك توّاً إلى البشرات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالي في شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سوّيت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندراش التي اختارها أبو عبد الله مقراً ومقاماً.
3 - عاقبة الملك المتخاذل
كان لسقوط غرناطة وانتهاء دولة الإسلام في الأندلس، وقع عميق في الضفة الأخرى من البحر، في أمم المغرب التي لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفي سائر العالم الإسلامي.
وكان له أيضاً وقعه العميق في سائر الأمم النصرانية، فقد ابتهجت له أيّما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عوضاً لسقوط القسطنطينية في قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. ورحبت سائر قصور أوروبا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية منوهة بفضل فرديناند وإيزابيلا في تحقيق هذه الأمنية العظيمة (1).
ولنبدأ الحديث عن مصير الملك المنكود أبي عبد الله محمد بن علي آخر ملوك الأندلس، دقد غادر غرناطة ساعة استيلاء النصارى عليها، وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرات، واستقر هناك في بلدة أندراش، وهي
(1) Prescott: Ferd and Isabella. P. 299 والهامش.
إحدى البلاد التي أقطعت له في تلك المنطقة ليقيم فيها في ظل ملك قشتالة وتحت حمايته. وصحبه إلى وطنه الجديد كثير من الفرسان والسادة والفقهاء، وفي مقدمتهم وزيراه: يوسف بن كماشة، وأبو القاسم عبد الملك (المليخ)، وكانا ألصق الناس به، وأقربهم إلى ثقته. وكانت أسرة السلطان المنفي تتألف من والدته السلطانة عائشة، وأخته عائشة، وزوجه مريم (أو مريمة)، وولده الصغير (1). أما أخوه الأصغر يوسف، فكان قد قتل في ألمرية أيام الفتنة بتحريض أبيه السلطان أبي الحسن أو عمه أبي عبد الله الزغل.
وكان أبو عبد الله، عندئذ فتى في نحو الثلاثين من عمره، وبالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ مولده، فإن صديقه المؤرخ القشتالي هرناندو دى بايثا يقول لنا: إنه كان في نحو العشرين، يوم استطاع الفرار من سجن أبيه السلطان أبي الحسن في سنة (887 هـ - 1482 م)، وبذلك يكون سنّه يوم تسليم غرناطة نحو الثلاثين (2). وقد تركت لنا الرواية القشتالية المعاصرة تلك، وصفاً لشخص أبي عبد الله، خلاصتها أنه كان ممشوق القد، حسن الطلعة، شاحب اللّون، له عينان سوداوان نجلاوان، ولحية قوية (3). وعاش أبو عبد الله وآله
(1) تشير بعض الوثائق المعقودة بين الملكين الكاثوليكيين وأبي عبد الله إلى: أخواته، مما يدلّ على أنه كانت له أكثر من أخت، والمرجّح أن عائشة كانت كبراهنّ.
(2)
راجع رواية: Hernando de Baeza القشتالية المنشورة ضمن كتاب: أخبار العصر (63).
(3)
Lafuente Alcantra، ibid، V. 111. P. 74.، وقد انتهت إلينا لأبي عبد الله صورتان إسبانيتان، كانت تحفظ إحداهما بمتحف جنة العريف قبل إلغائه، وفيها يبدو أبو عبد الله بوجه وسيم ولون جميل وشعر أصفر ولحية مفروقة، ويرتدي ثوباً أصفر، يظلّله حرير أسود، وعلى رأسه قلنسوة عالية. والصورة الثانية تحفظ اليوم بمتحف غرناطة المسمى: ( Casa de las Tivos) والمعروف أنّها رُسمت لأبي عبد الله حينما كان في أسر الملكين الكاثوليكيين، عقب معركة اللسانة، وهي عبارة عن لوحة صغيرة الحجم، وفيها يبدو أبو عبد الله فتى في عنفوانه، بوجه عريض وأنف منسّق، وعينين خضراوين ونظرات حادّة، تغشاها الكآبة، وشعر كستني غزير، ولحية صغيرة مفروقة، وقد رسمت حول عنقه حلقة رمزية لوقوعه في الأسر.
وصحبه في تلك المملكة الصغيرة الذليلة حيناً، وأنشأ له في أندراش بلاطاً صغيراً، وكان يعيش هناك في ترف ورغد، وكان يعشق الصيد ويقضي فيه كثيراً من أوقاته، ويجوب أطراف مملكته الصغيرة فوق جواده (1).
وكان فرديناند وإيزابيلا، بالرغم من انتصارهما وقضائهما الأخير على المملكة الأندلسية، قد لبثا يتوجسان من أعماق نفسيهما، من بقاء السلطان المخلوع في الأراضي الإسبانية، ويخشيان أن يكون مثار القلاقل والفتن، ويتوقان إلى إبعاده وحاشيته عنها، مبالغة في الحيطة، واتقاءً لكل خطر. وكان يفرضان على أبي عبد الله رقابة صارمة، ويتلقيان أدق التقارير والأنباء، عن حركاته وسكناته، وكانت عيناهما الساهرة على رقابته، الوزيرين الماكرين يوسف كماشة وأبو القاسم عبد الملك. ولم يمض على إقامة أبي عبد الله في أندراش زهاء عام، حتى بدأ الملكان الكاثوليكيان يسعيان سراً في تحقيق غايتهما الأخيرة، وكان سبيلهما إلى ذلك ابن كماشة وأبا القاسم عبد الملك. ففي شهر آذار - مارس سنة (1493 م) وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين وبين فرناندو دى ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، في شأن مغادرة أبي عبد الله الأراضي الإسبانية، والعبور إلى المغرب. ويقال: إن أبا عبد الله لم يأذن لوزيريه في إجراء هذه المفاوضات، ولم يعلم بها حتى تمخضت عن مشروع جديد؛ يُقِرُّ فيه أبو عبد الله بتنازله عن جميع حقوقه وأملاكه، نظير ثمن معين، ويتعهد بالعبور إلى المغرب. ويقال: إن الملك المنكود حينما عرض عليه ابن كماشة هذا الاتفاق، ثار لعقده، وكاد يبطش بوزيره، ولكنه عاد فاستمع إلى نصح الوزير وشرحه، بأن البقاء في أرض العدو، وفي ظل العبودية والهوان، لم يبق له محل، وأنه ليس مكفول السلامة والطمأنينة، وأن العبور إلى أرض الإسلام خير وأبقى. ولعلّ أبا عبد الله نفسه قد أدرك، كما أدرك عمّه مولاي الزغل من قبل، أن تلك الحياة الذليلة التي
(1) Lafuente Alcantra، ibid، V. 111. P. 74.
فرضت عليه، لا تخلق له ولا تجمل، وأنه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع المؤلم، كتابع لملك قشتالة. وعلى أي حال، فقد اقتنع أبو عبد الله، بوجهة نظر وزيره، ولكنه أرسل أمينه ومدير شئونه أبا القاسم عبد الملك (المليخ) ليسعى إلى تعديل الاتفاق لمصلحته. وبعد مفاوضات جديدة، وُضع الاتفاق النهائي، الذي قبله السلطان المخلوع. وخلاصته: أنه يتعهد بالعبور إلى المغرب، في موعد أقصاه نهاية شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م)، وأنه يتنازل عن سائر ضياعه، في أندرش، ولوشار، وبرشينا وغيرها، وكذلك عن أملاكه الأخرى في غرناطة، بالبيع للملكين الكاثوليكيين، وذلك نظير ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف جنيه قشتالي (كاستليانو) من الذهب الحر، أو الدوقات المضروبة من الذهب الخالص. كما يتنازل أبو عبد الله عن اختصاصه المدني والجنائي، ويحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان عربتين لحمل متاعه، وسفناً ينتقل عليها مع صحبه إلى المغرب. ويتضمن الاتفاق نصوصاً أخرى ببيع الأميرات لأملاكهن إلى الملكين الكاثوليكيين وكذلك يبيع الوزير ابن كماشة والوزير أبو القاسم كلَّ أملاكه، نظير مقادير من المال.
ويحمل هذا الاتفاق تاريخ (15 نيسان - أبريل سنة 1493 م)، كما يحمل في ذيله موافقة أبي عبد الله بالعربية ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وهي تدل بألفاظها ومعانيها على كثير من العبر المؤلمة: "الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضْيَافي، أنا الأمير محمد بن علي بن نصر خديمكم، وصلتني من مقامكم العلي. العقد وفيه جميع الفصول التي عقدها عني وبكم التقديم، من خديمي القائد أبو القاسم المليخ، ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها، وبطابعكم العزيزة، كيف هي مذكورة بهذا الذي هي تصلكم. وإني نوفى ونحلف أني رضيت بها، بكلام الوفا مثل خديم جيد. وترى هذا خط يدي وطابعي أرقيته عليها، لتظهر صحّة قولي. ووصلت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم عام ثمانية وتسعون وثمانمائة. أنا كاتبه محمد بن
علي بن نصر، رضيت وقبلت جميع ما في هذا المكتوب الثابت وتقبل بيدي إلى أضيافي السلطان والسلطانة مُدَّ لي هناكما".
وتوفيت زوجته قبل رحيله، فلم يحل هذا الرزء دون مضيّه في اتخاذ أهبة الرحيل، وفي أوائل شهر تشرين الأول - أكتوبر سنة (1493 م) غادر أبو عبد الله الوطن في غمرة من الحسرات والأسى، وجاز إلى المغرب بأسرته وأمواله وحشمه، من ثغر أدرة الصغير الواقع جنوبي برجة، في سفينة كبيرة أُعدّت لرحيله، وعبر في نفس الوقت من ثغر المنكب عدد كبير من الوزراء والقادة والأكابر، في صحبته ممن آثروا الرحيل، وبلغ جميع الذين عبروا مع الملك المخلوع ألفاً ومائة وثلاثين شخصاً (1).
(1) Lafuente Alcantra، ibid; V. 111. P. 81.، ويقول صاحب أخبار العصر: إنَّ الذين رحلوا مع أبي عبد الله بلغوا نحو سبعمائة فقط.