الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن جميل إشارات العلماء إلى أسباب تعَدُّد الرويات إعرابيا قولهم:
«وحين لاحت ضرورة وضع قواعد نحوِيَّة لِلُّغَة العربِيَّة اتجه العلماء إلى ديوان العربِيَّة، وهو الشعر، فاستخرجوا من أنساقه قواعد التركيب، كما استخرجوا من مفرداته قواعد الصوغ القياسي، وبنوا مقاييس اللُّغَة على نسبة الشيوع، ثُمَّ جعلوا الأَقَلّ استثناء من المقياس العام.
وعلى الرغم مما لابس عَمَلِيَّة التَّقْعِيد من خلط ــ أحيانا ــ بين اللهجات، أو بينها وبين المستوى الفصيح ــ فقد كان الأساس المشترك دائما هو ما روي عن الشعراء والخطباء من أقوال سارية على الألسن، فاشية في الناس. ولقد تقَبَّل النُّحَاة ما بدا من تضارب في الشواهد المرويَّة؛ ليجعلوا في المسألة الواحدة قولين أو أكثر، دون أَنْ يجدوا في ذلك غضاضة، أو يحسوا حرجا، حتى إِنَّ النحو قد انتهى إلى الأجيال اللاحقة مطبوعا بطابع الاختلاف وتعَدُّد الأقوال، بل وربما سلك مسلك التناقض.
وما نحسب أَنْ تعَدُّد الأقوال أو تضاربها يعزى إلى اختلاف القبائل فحسب؛ أي: إلى اختلاف مصادر الرواية، بل إِنَّهُ يرجع أساسا ــ وفي تقديرنا ــ إلى أَنَّ مصدر التَّقْعِيد كان أدبيًّا، ومن شأن اللُّغَة الأدبِيَّة أَنْ تختلف في الجانب التركيبِيّ اختلافا بَيِّنا من فرد إلى فرد، ومن شاعر إلى شاعر، بل من شاعر في موقف معين إلى نفس الشاعر في موقف آخر؛ نتيجة اختلاف المشاعر، وتباين الأحاسيس، وتغَيُّر الظروف البيئِيَّة والنفسِيَّة، هذه حقيقة علمِيَّة مسلمة») (1).
والعلاقة بين التوجيه والتَّقْعِيد النَّحْوِيّين أَنَّ التوجيه مرحلة تالية بعد التَّقْعِيد، فمن يقوم بالتوجيه لا بد أَنْ تكون تحت يديه القواعد التي يُخَرِّجُ عليها هذا التوجيه، فالتَّقْعِيد تنظير، والتوجيه تطبيق لهذا التنظير.
-
المصطلح الرابع ((
…
الأصل)):
هذا المصطلح من المصطلحات التي استخدمها سيبويه في الكتاب، وسَيَرِدُ هذا المصطلح في حديثنا، وسنرتب عليه بعض النتائج؛ لذلك من اللازم الوقوف عنده وإيضاح المقصود منه.
لهذا المصطلح دلالة مُعَيَّنَة على الجانب النَّحْوِيّ ودلالة أخرى على الجانب الصَّرْفِيّ، وسنبدأ بتحديد المقصود به على الجانب النَّحْوِيّ أولا.
» معنى مصطلح «الأصل» على المستوى النَّحْوِيّ:
(1) د. عبد الصبور شاهين: العَرَبِيَّة لغة العلوم والتقنية، ص 75 ــ 76
قبل تحديد دلالة هذا المصطلح على المستوى النَّحْوِيّ عند سيبويه نُمهِّد لهذا بقولنا: كان سيبويه يقوم بتحديد المسألة النحوِيَّة التي يريد التَّقْعِيد لها، ويتَتَبَّعها في النصوص التي أمامه وبين يديه تَتَبُّعا «تزامُنِيًّا وتواقُتِيًّا» وتَتَبُّعًا «تاريخِيًّا» ، أو بتعبير آخر تَتَبُّعًا رأسِيًّا وأفقِيًّا.
أما التتبُّع التزامُنِيّ التواقُتِيّ فتشي به عبارات كثيرة في الكتاب، مثل قوله: «سمعنا، سألنا، أُنشِدْنا
…
».
أَمَّا التَتَبُّع التاريخي فيظهر في مواضع قليلة من الكتاب، منها مثلا الموضع الذي يناقش فيه مسألة في الممنوع من الصرف، يقرِّرُ فيها أَنَّ الأعلام التي تأتي على وزن «فَعَالِ» إذا سُمِّيَتْ بها امرأة فَإِنَّ بني تميم ترفعها وتنصبها؛ أي لا تُجَرُّ بالكسرة، على عكس الحجازيّين الذين يجرونها بالكسرة، ويستثنى من هذه الأعلام المؤنثة الأعلام المنتهية بالراء فَإِنَّها عند التميميين والحجازيين تجر بالكسرة، يقول سيبويه:«فأَمَّا ما كان آخِرُه راءً فإنَّ أهل الحجاز وبني تميم فيه مُتَّفِقون، ويختار بنو تميم فيه لغة أهل الحجاز كما اتَّفقوا في يَرَى، والحجازيَّةُ هي اللُّغَة الأولى القُدْمَى» ) (1).
ويهمنا في هذا النَّصّ عبارته الأخيرة التي تشير إلى البعد التاريخي الذي نقصده، وتدُلُّ على التَتَبُّع الرأسي للمسألة النحوِيَّة.
بعد هذا التَتَبُّع كان سيبويه يُخْرِج «تركيبًا أساسيًّا» للمسألة التي يناقشها ويقعد لها، ويذكر أيضا التراكيب البديلة للتركيب الأساسيّ لنفس المسألة النحوِيَّة التي يعالجها.
والتركيب الأساسي للمسألة النحوِيَّة هو التركيب الذي يحظى بأعلى نسبة تكرار في النصوص اللُّغَوِيَّة، أَمَّا التراكيب البديلة هي التراكيب الأَقَلّ تكرارا وتَرَدُّدًا من التركيب الأساسي.
بعد هذا التمهيد البسيط نقول إِنَّ مصطلح «الأصل» على المستوي النَّحْوِيّ يُقصد به عند سيبويه: «التركيب الأساسي الي يحظى بأعلى نسبة تكرار في النصوص اللُّغَوِيَّة، كما أَنَّهُ هو الذي يحظى بثبات تاريخي» .
ولابد أَنْ يكون الأصل هو ما يدلُّ على الأكثر نقلا وعقلا، فأَمَّا نقلا فهو ما نلمحه في قول سيبويه:«وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل، لأَنَّه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل» ) (2).
(1) سيبويه: الكتاب، 3/ 278
(2)
سيبويه: الكتاب، 2/ 213
أَمَّا عقلا فلا يعقل أَنْ يكون الأَقَلّ هو الأصل والأساس الذي يُحْتَكَمُ إليه، ويعوَّل عليه، ويناقش في ضوئه الأكثر، خاصة إذا علمنا أَنَّ الأصل Origin ــ كما يعرفه علماء الكلام والفلسفة ــ هو «ما يبنى عليه الشيء أو ما يتوقَّف عليه» ) (1). أو هو بعبارة أخرى «ما يبنى عليه غيره» ) (2).
ولا يعقل أَنَّ ما يبنى عليه هو الأَقَلّ في وجود الأكثر.
» معنى مصطلح «الأصل» على المستوى الصَّرْفِيّ:
من يتَتَبَّع مصطلح «الأصل» على المستوى الصَّرْفِيّ يجد أَنَّ هذا المصطلح له عدة معاني:
- الأول: ارتباط صيغة مُعَيَّنَة بقسم معين من أقسام الكلام، مثل قوله:«ألا ترى أَنَّ: تَفْعَلُ ويَفْعَلُ في الأسماء قليل. وكان هذا البناء إِنَّما هو في الأصل للفعل» ) (3).
- الثاني: ارتباط صيغة مُعَيَّنَة بحالة عَدَدِيَّة مُعَيَّنَة، مثل:«واعلم أَنَّ لأدنى العدد أبنيةٌ هي مختصَّة به، وهي له في الأصل» ) (4).
- الثالث: الدِّلَالَة على أصول الكلمة ثلاثِيَّة أو رباعِيَّة أو خماسِيَّة سواء من حيث عددها أو من حيث ترتيبها أو من حيث الضبط، مثل: «هذا باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين، فإنْ شئت تركته في الإضافة على حاله قبل أَنْ يضيف، وإن شئت حذفت الزوائد ورددت ما كان له في الأصل. وذلك: ابنٌ واسمٌ
…
فإذا تركته على حالة قلت: اسمىٌّ
…
وابنىٌّ واثنىٌّ في اثنين واثنتين») (5). ومثل: «ومثل ذلك القيسيُّ إِنَّما هي في الأصل
القووس») (6). ومثل: «هذا باب ما يسكن استخفافًا وهو في الأصل متحرك» ) (7).
- الرابع: الطريقة الثابتة في الصياغة والاشتقاق، مثل:«قلت: فما بال ياء التصغير ثانيةً في ذا حين حقرت؟ قال: هي في الأصل ثالثة» ) (8). ويقصد أَنَّ الأصل في التحقير أَنْ يكون بطريقة مُعَيَّنَة؛ وإذا أتى على خلاف هذه الطريقة فهو على خلاف الأصل.
(1) المعجم الفلسفي: مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة، القاهرة، ) 1982 م (، ص 15
(2)
الجرجاني: التعريفات، ص 45
(3)
سيبويه: الكتاب، 3/ 197
(4)
سيبويه: الكتاب، 3/ 490
(5)
سيبويه: الكتاب، 3/ 361
(6)
سيبويه: الكتاب، 3/ 467
(7)
سيبويه: الكتاب، 4/ 113
(8)
سيبويه: الكتاب، 3/ 487