المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نقد نظرية العامل: - قرينة السياق ودورها في التقعيد النحوي والتوجيه الإعرابي في كتاب سيبويه

[إيهاب سلامة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ منهج البحث في أثناء الدراسة:

- ‌ خطة البحث

- ‌تمهيد

- ‌ ترجمة سيبويه

- ‌ الاسم والنشأة والوفاة:

- ‌ أسفاره العلميَّة:

- ‌ شيوخه:

- ‌ منزلة سيبويه العلميَّة:

- ‌ كتاب سيبويه:

- ‌ وقت تأليفه:

- ‌ القيمة العلميَّة للكتاب:

- ‌ منهج الكتاب:

- ‌ أهم المصطلحات المستخدمة في البحث:

- ‌ المصطلح الأول ((…السِّياق)):

- ‌ المصطلح الثاني ((…التَّقْعِيدالنَّحْوِيّ)):

- ‌ المصطلح الثالث ((…التوجيه الإعرابِيّ)):

- ‌ المصطلح الرابع ((…الأصل)):

- ‌ المصطلحات ((…الغالب، الكثير، القليل، الضعيف، الشاذ، الردئ

- ‌الفصل الأول: السياق والمنهج عند سيبويه

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: سيبويه والسِّياق:

- ‌ سيبويه يقوم بالتَّقْعِيدالنَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ من خلال النصوص الحَيَّة المنطوقة:

- ‌اعتبار سيبويه للسياق:

- ‌المخاطب والمُتَكَلِّم أبرز عناصر سياق الحال التي اهتَمَّ بها سيبويه:

- ‌ المبحث الثاني: خطوات إجرائِيَّة ومنهجِيَّة قبل التقيعد النَّحْوِيّ والتوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه:

- ‌1 ــ تصنيف اللُّغَة إلى تراكيب نمطِيَّة مُجَرَّدة:

- ‌2 ــ الإحصاء العددي للتراكيب النَّمَطِيَّة:

- ‌3 ــ تتَبُّع التركيب اللغويّ المُعَيَّن قيد البحث في السِّياقات المختلفة وربطه بدلالة السِّياق إِنْ وجدت:

- ‌4 ــ معايشة التراكيب اللُّغَوِيَّة في نصوصها المنطوقة:

- ‌الفصل الثاني: دور سياق الحال في التوجيه الإعرابِيّ عند سيبويه

- ‌1 ــ المبحث الأول: أهمِيَّة سياق الحال في التوجيهات الإعرابِيّة عند سيبويه:

- ‌أوجود تراكيب نحوِيَّة لا يصِحُّ تركيبُها ولا تصِحُّ كينونتُها وبالتالي لا يصِحُّ توجيهها نحويا إلا إذا قامت قرينة من سياق الحال تُصَحِّحُها:

- ‌ب وجود تراكيب نحوِيَّة توجَّه في إطار معرفة قرينة السِّياق:

- ‌ت يستعين به أحيانا في شرح توجيهه:

- ‌ث يفسِّرُ بالسِّياق مَرْجِعِيَّة الضمير:

- ‌ج خطورة عدم الاعتداد بقرينة السِّياق وأثره في التوجيه:

- ‌2 ــ المبحث الثاني: إثراء السِّياق للتوجيهات الإعرابِيّة والدِّلالِيَّة:

- ‌ حال المُتَكَلِّم ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌ المخاطب ودوره في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه:

- ‌3 ــ المبحث الثالث: تَحَرُّك سيبويه بحُرِّيَّة في توجيهاته النحوِيَّة في حالة عدم اللَّبس:

- ‌الفصل الثالث: دور السِّياق في التَّقْعِيد النَّحْوِيّ عند سيبويه

- ‌المبحث الأول: سياق الحال والجملة الاسمِيَّة:

- ‌ السِّياق والابتداء بالمعرفة:

- ‌ الحذف في الجملة الاسمِيَّة وسياق الحال:

- ‌ قرينة السِّياق والحال النَّحْوِيّ:

- ‌المبحث الثاني: سياق الحال والجملة الفعلِيَّة وما يتعلق بها:

- ‌ سياق الحال يُؤَثِّر في كينونة الجملة الفعلِيَّة أيضا:

- ‌ الترتيب بين العناصر المكوِّنة للجملة الفعلِيَّة:

- ‌ السِّياق وإعمال اسم الفاعل عمل الفعل:

- ‌ نواصب الفعل المضارع:

- ‌ المفعول المطلق:

- ‌ دور قرينة السِّياق في إعمال ظن وأخواتها أو إلغاء عملها:

- ‌ الحذف في الجملة الفعلِيَّة:

- ‌المبحث الثالث: سياق الحال والتوابع:

- ‌ أولا البدل:

- ‌ ثانيا التوكيد:

- ‌ ثالثا النعت:

- ‌ رابعا العطف:

- ‌المبحث الرابع: سياق الحال والأساليب النحوِيَّة:

- ‌1 ــ أسلوب الاستفهام:

- ‌2 ــ أسلوب النفي:

- ‌3 ــ أسلوب التفضيل:

- ‌4 ــ أسلوب النداء:

- ‌5 ــ أسلوب التحذير والإغراء والاختصاص:

- ‌6 ــ أسلوب الاستثناء:

- ‌7 ــ أسلوب القسم:

- ‌8 ــ النصب على التعظيم أو الذم:

- ‌المبحث الخامس: سياق الحال والأدوات النحوِيَّة:

- ‌ المبحث السادس: سياق الحال والتنوين والتنكير والتعريف:

- ‌الفصل الرابع: سياق الحال والقواعد الصَّرْفِيَّة

- ‌ المبحث الأول: سياق الحال ودلالة الفعل الزَّمَنِيَّة والمصادر والمشتقات

- ‌أ - سياق الحال والدِّلَالَة الزَّمَنِيَّة للفعل:

- ‌ج - سياق الحال ودلالة أوزان المصدر:

- ‌ح - سياق الحال ودلالة المشتقات:

- ‌ المبحث الثاني: سياق الحال ومعاني الأوزان الصَّرْفِيَّة:

- ‌الفصل الخامسالسِّياق وسيبويه والنظَرِيَّةالنحوِيَّة

- ‌ المبحث الأول:‌‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة، وأهم خصائص النظَرِيَّةالعلميَّة:

- ‌ تعريف مصطلح النظَرِيَّة

- ‌ أهم خصائص النظَرِيَّة العلميَّة:

- ‌ المبحث الثاني:‌‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ النظَرِيَّة النحوِيَّة السِّياقِيَّة:

- ‌ نقد نظَرِيَّة العامل:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر والمراجع

- ‌أولا ـ المصادر والمراجع العربِيَّة

- ‌ثانيا المراجع الأجنبية

- ‌ثالثا: المجلات والدوريات

- ‌ملخص الرسالة

الفصل: ‌ نقد نظرية العامل:

• الخلفيَّة الاجتِماعِيَّة والثقافيَّة لصاحب اللُّغَة تؤثر على التوجيه الإعرابِيّ وليس فقط ملابسات الحال الوقتِيَّة.

• التوجيه الإعرابِيّ بدون ربط بالسِّياق يؤدي إلى فوضى دلالية.

• أنَّ للمخاطب دورا في التوجيه الإعرابِيّ وإثرائه.

• العادة والعرف الاجتماعِيّان في البيئة المُعَيَّنَة يتدخلان في التوجيه النَّحْوِيّ.

• التوجيه النَّحْوِيّ يراعي الفرق بين الإنسان والحيوان.

• تأثير سياق الحال على كينونة الجملة الاسمِيَّة، والعلاقة بين أجزائها، وحذف أحد أركانها.

• تأثير سياق الحال على عمل المشتقات.

• تأثير سياق الحال على نواصب الفعل المضارع، وظن وأخواتها، والمفعول المطلق،

والتوابع: النعت والتوكيد والعطف والبدل، والأساليب النحوِيَّة: أسلوب الاستفهام، أسلوب النفي، أسلوب التفضيل، أسلوب النداء، أسلوب التحذير والإغراء والاختصاص، أسلوب الاستثناء، أسلوب القسم، النصب على الذم، الأدوات النحوِيَّة.

• تأثير سياق الحال على الفعل والمصادر والمشتقات ومعاني الأوزان الصَّرْفِيَّة.

بعد كل تلك العناوين الواضحة التي تشير لوجود تأثير واضح على تركيب الجملة فإِنَّهُ من غير المعقول إغفال جانب سياق الحال في تكوين النظَرِيَّة النحوِيَّة، ومن المغالطة العلميَّة التي لا تخطئها العين ألا يكون سياق الحال أحد أعمدة وأركان هذه النظَرِيَّة، إِنْ لم يكن هو الركن الوحيد.

***

o‌

‌ نقد نظَرِيَّة العامل:

إن مطلبنا بوضع نظَرِيَّة نحوِيَّة قائمة على السِّياق ــ وقد سبقنا في هذا المطلب بعض الأساتذة منهم أستاذنا د. كمال بشر ــ يعني ضمنا طرح نظَرِيَّة العامل، فهما لا يلتقيان. يقول د. تَمَّام:

«بعد أَنْ بيَّنت طبيعة القرائن المقالِيَّة معنوِيَّة كانت أو لفظِيَّة في دلالتها على المعنى الوظيفي النَّحْوِيّ، أحب أَنْ أضيف إليها كلمة أخرى تتصل بإغناء فهم القرائن المقالِيَّة عن فكرة العامل النَّحْوِيّ الذي قال به النُّحَاة» ) (1).

إن منادتنا بنظَرِيَّة نحوِيَّة قائمة على سياق الحال يقابلها مناداة بالتخلِّي عن نظَرِيَّة العامل تلك النظَرِيَّة التي اعتمدت على منطق أرسطو، هذا المنطق الذي أصاب النحو العربي «بشيء من العقم والصورية التي بلي بها المنطق الأرسطي نفسه؛ فعُني بالصور والأشكال أكثر مما عني بالدلالات

(1) اللُّغَة العَرَبِيَّة معناها ومبناها، ص 231

ص: 358

والمعاني. وأكثر من القوانين والضوابط؛ فأثقل على العلماء والمتعلِّمين، وغلا في القواعد بحيث أصبحت جوفاء لا تصدق إلا على حال أو أحوال محدودة، ومع ذلك لم تخل من شذوذ واستثناء، وأسرف في التمارين غير العَمَلِيَّة التي جاءت وليدة تشبيه وفروض وهمية لا أساس لها. ومن يقرأ شرح السيرافي على كتاب سيبويه أو شرح أبي حيان على التسهيل يلمس أَنَّ النُّحَاة كثيرا ما أفسدوا النحو بما وضعوا من فروع وعلل وأصول وأقيسة ومسائل غير عَمَلِيَّة.

وفوق هذا فتح مبدأ العلية على النُّحَاة باب فلسفة مفرطة وثقيلة أحيانا، فهناك علل أُوَل وثوان وثوالث، وقد يكون للمعلول الواحد أكثر من علِّة يتأوَّلها كلُّ نحوي كما يتراءى له. وفي باب الممنوع من الصرف أمثلة من تلك العلل المتهافتة، وفي باب الاشتغال ولا النافية أمثلة أخرى من تلك الاعتبارات الفلسفِيَّة غير المقبولة. وكثيرا ما ورد في المسألة قولان أو أقوال، واستخدمت العلِّة الواحدة في إثبات الشيء وضده

ولعلَّ هذا هو الذي دفع ابن مضاء الأندلسي إلى القول بإلغاء نظَرِيَّة العامل، ورفض القياس والعلل النحوِيَّة، فوق ما كان لديه من اعتبارات أخرى نظَرِيَّة») (1).

وسوف أضرب هنا مثالا واحدا على نظَرِيَّة العامل هذه يبين مدى تعقيدها ومدى تهافتها.

في كتاب ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لأبي البركات الأنباري، نقرأ مناقشة له على مدار خمس صفحات عن العامل في «المبتدأ» ، فنجده يقول في مسألة ((القول في رافع المبتدأ ورافع

الخبر)): «ذهب الكوفيون إلى أَنَّ المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ؛ فهما يترافعان،

وذهب البصريون إلى أَنَّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، وأما الخبر فاختلفوا فيه: فذهب قوم إلى أَنَّه يرتفع بالابتداء وحده، وذهب آخرون إلى أَنَّه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معًا، وذهب آخرون إلى أَنَّه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء. أَمَّا الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إِنَّمَا قلنا إِنَّ المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنَّا وجدنا المبتدأ لا بدّ له من خبر، والخبر لا بدّ له من مبتدأ، ولا ينفك أحدهما من صاحبه، ولا يتم الكلام إلا بهما

ولا يمتنع أَنْ يكون كل واحد منهما عاملًا ومعمولًا،

ولا يجوز أَنْ يقال أَنَّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، لأنا نقول: الابتداء لا يخلو: إما أَنْ يكون شيئًا من كلام العرب عند إظهاره، أو غير شيء؛ فإنْ كان شيئًا فلا يخلو من أَنْ يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة من حروف المعاني؛ فإنْ كان اسمًا فينبغي أَنْ يكون قبله اسم يرفعه، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له، وذلك محال، وإن كان فعلًا فينبغي أَنْ يقال زيد قائمًا

وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف. قالوا: ولا يجوز أَنْ يقال إِنَّا نعني

(1) يُنْظَر: د. إبراهيم بيومي مدكور: منطق أرسطو والنحو العربي، مجلة مجمع اللُّغَةالعَرَبِيَّة بالقاهرة، ج 7 ص 345، 346، وألقي هذا البحث في مؤتمر المجمع، الجلسة السابعة، 27 من ديسمبر 1948 م

ص: 359

بالابتداء التَّعَرِّي من العوامل اللفظِيَّة، لأنا نقول: إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظِيَّة فهو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا. والذي يدل على أَنَّ الابتداء لا يوجب الرفع أنَّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف، ولو كان ذلك مُوجبًا للرفع لوجب أَنْ تكون مرفوعة، فلما لم يجب ذلك دَلَّ على أَنَّ الابتداء لا يكون موجبًا للرفع.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إِنَّمَا قلنا إِنَّ العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظِيَّة لأَنَّ العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإِنَّمَا هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محلّ الإجماع إِنَّمَا هي أمارات ودلالات فالأمارة والدِّلَالَة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أَنَّه لو كان معك ثوبان وأردت أَنْ تميز أحدهما من الآخر فصبغْتَ أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان تَرْكُ صبغ أحدهما في التمييز بمنزله صبغ الآخر؟ فكذلك ههنا. وإذا ثبت أَنَّه عامل في المبتدأ وجب أَنْ يعمل في خبره، قياسًا على غيره من العوامل، نحو ((كان)) وأخواتها و ((إِنَّ وأخواتها)) و ((ظننت))

وأخواتها فَإِنَّها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره فكذلك ههنا

وأما من ذهب إلى أَنَّ الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا: لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدأ؛ فوجب أَنْ يكونا هما العاملين فيه، غير أَنَّ هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أَنَّه لا يخلو من ضعف، وذلك لأَنَّ المبتدأ اسم، والأصل في الأسماء أَنَّ لا تعمل، وإذا لم يكن له تأثير في العمل، والابتداء له تأثير، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له

») (1).

إن تتَبُّع هذا النَّصّ وما فيه من استدلالات مغرقة في الفلسفية على مدار خمس صفحات أمر مرهق ذهنيا، يولد الملل والضجر، ويصد عن متابعة القراءة واستمرارها، ويعطي انطباعا سيئا يبقى في نفس القارئ دوما، ولقد كان من السهل علينا أَنْ نقول بدلا من كل هذا أَنَّ الذي رفع المبتدأ والخبر هو المُتَكَلِّم، وأنَّ المُتَكَلِّمين اتفقوا على رفع الاسم في بداية الجملة الاسمِيَّة، كما تعارفوا على الألفاظ ودلالتها، وتعارفوا على البنى اللفظِيَّة، واتفقوا على استعمال بعضها وإهمال البعض الآخر.

وقولنا إِنَّ المُتَكَلِّم هو الذي رفع أو نصب أو جر هو قولٌ سبقنا به عالمان من علماء العربِيَّة: ابن جني وابن مضاء، والباحث ليس بدعا في هذا.

ويحضرنا هنا نص مُهِمّ للرضي) ت: 688 هـ (يتحدث فيه عن أحد أفعال اليقين الفعل

«علم» ، محاولا إظهار الفرق بينه وبين الفعل «عرف» ، فيقول:

«

وإمّا لليقين فقط وهو «علم» بمعنى «عَرَف» ، ولا يُتوهم أنَّ بين ((علمت))

و((عرفت)) فرقًا معنويًا، كما قال بعضهم، فإنَّ معنى:((علمت أنَّ زيدًا قائم)) و:

(1) الإنصاف في مسائل الخلاف، 1/ 56

ص: 360

((عرفت أنَّ زيدًا قائم)) واحدٌ، إلا أَنَّ:((عرف)) لا ينصب جزأي الجملة الاسمية، كما ينصبها ((علم))، لا لفرق معنويٍّ بينهما، بل هو موكولٌ إلى اختيار العرب، فإنهم قد يَخُصُّون أحَدَ المتساويين في المعنى بحكم لفظي دون الآخَر») (1).

فالرَّضِيّ ينص على أنَّ معنى «علم» يساوي معنى «عرف» ، وعلى الرغم من هذا التساوي في المعنى ــ عند الرَّضِيّ ــ فإن «علم» ينصب جزأي الجملة الاسمية، أما «عرف» فلا ينصب جزأي الجملة الاسمية، والسبب في هذا هو «اختيار العرب» فإنَّهم قد «يَخُصُّون أحَدَ المتساويين في المعنى بحكم لفظي دون الآخَر» ؛ أي أنَّ العرب «اختارت» أنْ تُعمل الفعل «علم» ، ولم تختر أن تُعمل الفعل

«عرف» .

إذن اختيار الإعراب يتوقف في نهاية المطاف على اختيار المتكلم.

وفي نص لابن السراج يقول فيه: «واعلم: أنَّ أسماء الأزمنة تكون على ضربين: فمنها ما يكون اسمًا ويكون ظرفًا، ومنها ما لا يكون إلا ظرفًا، فكلُّ اسم من أسماء الزمان فلك أنْ تجعله اسمًا وظرفًا إلا ما خصته العرب بأنْ جعلته ظرفًا، وذلك ما لم تستعمله العرب مجرورًا ولا مرفوعًا. وهذا إنما يؤخذ سماعًا عنهم فمن ذلك: ((سحر)) إذا كان معرفة غير مصروف تعني به: سحر يومك لا يكون إلا ظرفًا وإنَّما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر» ) (2).

في هذا النص نجد ابن السراج يعطي الحق ((للعرب / المتكلم)) في أن تجعل من أسماء الزمان الظروف التي تريدها وتمنع غيرها من هذه الظرفية، فـ ((العربي / المتكلم)) حر في هذا الاختيار.

إن قولنا: أن السياق هو المسيطر الأول والأخير على الجملة بكل ما فيها ينهي هذا الجدال في هذا العلم علم النحو، الشديد الأهمِيَّة لبقية العلوم اللُّغَوِيَّة الأخرى كما قال الإمام الشافعي.

إن نظَرِيَّة العامل قد تعتبر مثال على نظَرِيَّة «غير علمِيَّة» ؛ بمعنى أَنَّنا إذا أردنا التدليل على وجود نظَرِيَّة غير علمِيَّة قلنا إنَّها نظَرِيَّة العامل. إِنَّ النظَرِيَّة العلميَّة تنبع من الواقع، ومن الحقائق الموجودة سلفا في هذا الواقع، ونظَرِيَّة العامل هي أبعد ما تكون عن الواقع والممارسة والتطبيق. والنظَرِيَّة العلميَّة تنمو وتستمر لتكون أكثر دقة وانضباطا، ويحدث لها إصلاح داخلي تقوم به الخبرة الاجتِماعِيَّة، أَمَّا نظَرِيَّة العامل فمع مرور الوقت ازدادت الأمور معها تعقيدا كما رأينا في نصّ أبي البركات الأنباري، وأصبحت العناية ــ كما قال د. إبراهيم مدكور ــ مجرد اهتمام «بالصور

(1) شرح الرَّضِيّ على كافية ابن الحاجب: ت: د. يحيي بشير مصري، ط 1، 1996 م القسم الثاني، المجلد الأول، ص 983، 984

(2)

الأصول في النحو، 1/ 192

ص: 361

والأشكال أكثر مما عني بالدلالات والمعاني»، وفتح مبدأ «العلية على النُّحَاة باب فلسفة مفرطة وثقيلة أحيانا، فهناك علل أُوَل وثوان وثوالث، وقد يكون للمعلول الواحد أكثر من علة يتأولها كل نحوي كما يتراءى له» . إِنَّ الأمور مع نظَرِيَّة العامل سارت اتجاها عكسيا نحو التعقيد والفوضى، وقتلت الحياة في النحو العربي.

وإذا كان من خصائص النظَرِيَّة العلميَّة أنَّها تعكس الواقع وتعيد إنتاجه؛ فَإِنَّ نظَرِيَّة نحوِيَّة علمِيَّة تعتمد على السِّياق ستكون أقرب للصحة العلميَّة من نظَرِيَّة تتَأَثَّر بنظام فلسفي بعيد عن الواقع ولا يمت له بصلة. ونذكِّر هنا بما نقلناه عن أبي حيان التوحيدي عن النحو أنَّه: «دليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي. والنحو مقصور، والمنطق مبسوط. والنحو يتبع ما في طباع

العرب، وقد يعتريه الاختلاف») (1). وتستوقفنا هذه الجملة «والنحو يتبع ما في طباع العرب»

ونقول: أليست هذه الطباع أمر عرفي واقعي أم ماذا؟ ألم يُقر علماؤنا أَنَّ «العرف وعادة أصحاب اللُّغَة [أمر جوهري]، فما تعودوه من أساليب التعبير، وما جرت به ألسنتهم، وما ألفوه في كلامهم من طرق مُعَيَّنَة في التعبير بالألفاظ؛ كل هذا هو المصدر الوحيد لنحو كل لغة» (2). ألم تقل الأبحاث التي أجريت على كتاب سيبويه أهم كتب النحو العربي «إِنَّ هناك ميزة أخرى لسيبويه لا تقل أهمِيَّة عما ذكرناه وهو شيء تجاهله ولم يهتم به المتأخرون من العلماء وكذلك المحدثون: ألا وهو اهتمامه الكبير هو والنُّحَاة الأولون بالاستعمال الحقيقي لِلُّغَة، والرصد المتواصل لتصرفات الناطقين في التخاطب العفوي ومن ثَمَّ لأوضاع اللُّغَة» ) (3).

ولا ننكر أَنَّ هناك إشارات في كتاب سيبويه ــ ونعتقد أنَّها إشارات قليلة وليست كثيرة ــ تدلُّ على تَأَثُّر سيبويه بنظَرِيَّة العامل، بسبب البيئة العلميَّة التي نشأ فيها التي أثرت عليه فكريا.

يقول د. إبراهيم مدكور: «وفي وسعنا أَنْ نُقَرِّر بعد كل هذا أَنَّ المترجمين في تعلمهم للعربية، وفيما نقلوا من كتب أجنبية قد بدأوا في القرن الثاني للهجرة فأثاروا جوا حول المشاكل النحوِيَّة، ولأرسطو في هذا الجو نصيب ملحوظ. ولا يصح أَنْ نغفل ما لهذا الجو من أثر على نحاة العرب الذين عاشوا فيه وتغذوا بغذائه المادي والمعنوي. ووجه الشبه بين المنطق والنحو قديمٌ؛ فصناعة المنطق من العقل والمعقولات كصناعة النحو من اللسان والألفاظ

وقد مهد له [أي: عيسى بن عمر في مؤلفاته النحوِيَّة] أخيرا تلك البحوث النحوِيَّة التي نقلها المترجمون عن نحو السريانية أو عن منطق

(1) المقابسات: ص 171

(2)

د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللُّغَة، ص 137

(3)

د. عبد الرحمن الحاج صالح: الجملة في كتاب سيبويه، مجلة مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة، القاهرة، ع 78، ) 1996 م (، ص 110

ص: 362

أرسطو، ويبدو على سيبويه نفسه أَنَّه لم يكن مغمض العينين عن أمثال تلك المؤثرات، ويكفي أَنْ نشير إلى ذلك الفصل الذي عقده في الجزء الثاني من الكتاب وعنوانه: باب اطراد الإبدال في الفارسية») (1).

أقول لولا هذه البيئة التي أثرت فكريا على سيبويه، ولو تركت الأمور على طبيعتها لما وجدت نظَرِيَّة العامل هذه من أساسها، ولكان ولا شك للسياق ومكوناته دور في تكوينها.

إننا في ختام هذا المبحث نقول بنظرية للنحو العربي تقوم على السياق، وترتكز عليه، وتستند إليه. فإن أبى علماؤنا ذلك، ورأوا أنَّ التخلِّي عن نظرية العامل خطر جسيم، وشرٌّ مستطير فلا أقل من أن تُطَعَّم نظرية العامل ببعض العناصر من سياق الحال، فما لا يدرك جله لا يترك كله.

***

(1) منطق أرسطو والنحو العربي، مجلة مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة بالقاهرة، ج 7 ص 341

ص: 363

الخاتمة وأهم النتائج

ص: 364